- تأليف : دينا جيردمان – Dina Gerdeman
- ترجمة : زينب بنت فؤاد عبدالمطلب
- تحرير : لطيفة الخريف
كتاب جديد:
غالبًا ما تصور العبودية بوصفها مؤسسة إقليمية وحشية متمركزة في الجنوب، ولكنها كانت أيضًا المحرّك لازدهارٍ أوسع للاقتصاد الأمريكي. يناقش سفين بيكيرت “رأسمالية العبودية: تاريخ جديد للتنمية الاقتصادية الأمريكية”، وهو بحث أعدّه 16 باحثًا حول الروابط بين النظام الوحشي للرق البشري والتنمية الاقتصادية في القرن التاسع عشر في جميع أنحاء البلاد.
– – – – – – –
مقابلة المؤلف (مع دينا جيردمان):
دينا جيردمان: ما الذي يمكن أن يتعلّمه قادة الأعمال اليوم من الماضي؟
لم تكن الروابط بين العبودية والرأسمالية في الولايات المتحدة واضحة تمامًا في كتب تاريخنا. ولفترة طويلة صوَّر المؤرخون العبودية في الغالب بوصفها مؤسسة إقليمية وحشية متمركزة في الجنوب، وبالتأكيد ليس بوصفها محركًا لازدهار أوسع للاقتصاد الأمريكي.
يعمل الآن ستة عشر باحثًا على وضع الأمور في نصابها من خلال اكتشاف الروابط بين التنمية الاقتصادية في القرن التاسع عشر والنظام الوحشي لاستعباد الإنسان في كتاب “رأسمالية العبودية: تاريخ جديد للتنمية الاقتصادية الأمريكية” 2016.
خلافًا للاعتقاد السائد، لم يكن صغار المزارعين في إنجلترا الجديدة مسؤولين وحدهم عن ترسيخ مكانة أمريكا الاقتصادية مع توسّع الرأسمالية. بل يجب أن نبقي نصب أعيننا أيضًا أشغال العبيد الشاقة في أماكن مثل ألاباما وكارولينا الجنوبية والميسيسيبي. في الواقع، تتكون أكثر من نصف صادرات البلاد في العقود الستة الأولى من القرن التاسع عشر من القطن الخام، وكلها تقريبًا يزرعها العبيد، وفقًا للكتاب، الذي حرّره سفين بيكيرت، أستاذ تاريخ ليرد بيل للتاريخ في جامعة هارفارد وأستاذ زائر في جامعة هارفرد لإدارة الأعمال، وكذلك سيث روكمان، أستاذ مشارك في التاريخ في جامعة براون.
كان لاقتصاد العبيد في الولايات الجنوبية آثار متتالية على الاقتصاد الأمريكي بأكمله، حيث نظم كثير من التّجار في مدينة نيويورك وبوسطن وأماكن أخرى تجارة السلع الزراعية التي يزرعها العبيد، وتمتّعوا نتيجة لذلك بكثير من الثروات.
“في العقود بين الثورة الأمريكية والحرب الأهلية، ثَبَتَ أن العبودية – بوصفها مصدرًا للقطن الذي شغّلَ مطاحن جزيرة رود – بوصفها مصدرًا للثروة التي ملأت بنوك نيويورك، ومصدرًا للأسواق التي ألهمت مُصنّعي ماساتشوستس – لا غنى عنها للتنمية الاقتصادية الوطنية” يكتب بيكيرت وروكمان في مقدمة الكتاب: “… قدّم القطن لرجال الأعمال والمخترعين سببًا لبناء مصانع في أماكن مثل لويل وباوتوكيت وباترسون، ومن ثم ربط الثورة الصناعية في إنجلترا الجديدة مع الحدود الزراعية المتطورة في الجنوب العميق. وكان تمويل زراعة القطن -إضافةً إلى تسويق ونقل المحاصيل- مصدر ثروة كبيرة للتجار والبنوك في البلاد.”
لقد طلبنا من بيكيرت -الذي يُدرّس ويبحث في تاريخ الرأسمالية الأمريكية في القرن التاسع عشر- مناقشة الكتاب والتحدث عن الدروس التي يمكن أن يتعلمها قادة الأعمال اليوم من الماضي.
دينا جيردمان: يشير الكتاب إلى حقيقة وجود خرافة لسنوات عديدة، وهي أن العبودية كانت “مجرد مؤسسة إقليمية، لا غنى عنها بالتأكيد لفهم الجنوب، ولكنها نظام محصور جغرافيًا ضئيل الأهمية للأمة”. في اعتقادك لماذا قدّم المؤرخون العبودية بوصفها “مشكلة تخصّ الجنوب” ولم يبدُ أنهم يربطون بين العبودية وأشياء مثل الابتكار، وريادة الأعمال، والتمويل، والتي هي في قلب الرأسمالية الأمريكية؟
سفين بيكيرت: هذا سؤال ممتاز وبالطبع هو مُحيّر للغاية كما تلاحظين. إنه أمر مُحيّر لثلاثة أسباب:
أولًا: كانت العبودية مؤسسة وطنية في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر، ومع أن العبودية لم تكن أبدًا مهيمنة على نظام العمل في الشمال كما كانت في الجنوب، إلا أنها كانت ذات أهمية أيضًا.
ثانياً: كان هناك عدد كبير من الروابط الاقتصادية الواضحة غاية الوضوح بين مزارع الرقيق في الولايات الجنوبية والمشاريع إضافةً إلى مؤسسات أخرى في الولايات الشمالية، فكري فقط في كل هؤلاء التجار في نيويورك وبوسطن الذين يتاجرون بالسلع التي يزرعها الرقيق. أو صنّاع النسيج في إنجلترا الجديدة الذين عالجوا كميات هائلة من القطن الذي يزرعه الرقيق، أو المصرفيين الذين موّلوا التوسّع في مجمع المزارع.
وثالثاً: تحدّث دعاة إلغاء العبودية وكذلك دعاة العبودية مرارًا وتكرارًا حول الروابط العميقة بين اقتصاد الرقيق الجنوبي والاقتصاد الوطني.
لماذا تضيع وجهات النظر هذه؟ أعتقد أن السبب الرئيسي هو أيديولوجي وسياسي. لفترة طويلة بعد الحرب الأهلية، لم تكن الأمة ترغب في أن تُذكَّر بالحرب أو بالمؤسسة التي سببتها (العبودية)، فالبلد الذي اعتبر نفسه مستثمرًا فريدًا في حرية الإنسان كان يواجه وقتًا عصيبًا في التصالح مع تاريخ طويل يمتد لقرون من استعباد عدد كبير من شعبه.
عندما أصبحت العبودية أكثر أهمية لذاكرتنا التاريخية، خاصّة في أعقاب حركة الحقوق المدنية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، كان العمل على التوفيق بين تاريخ الحرية وتاريخ الاستعباد ينطوي على عزل تاريخ العبودية في جزء واحد من الولايات المتحدة فقط. وقد سمح ذلك بفعل شيئين في وقت واحد: سمح بالاعتراف المتأخر بأهمية ووحشية العبودية وطول مدتها في الولايات المتحدة. لكنه سمح أيضاً باستمرار سرد قصة الحرية، حيث أمكن سرد القصة الوطنية باعتبارها قصة ناضل فيها قسم واحد من الولايات المتحدة (الشمال) بشدة للتغلب على نظام العبودية الرجعي والقسري وغير الإنساني في القسم الآخر.
هذه القصة ليست خاطئة بشكل كامل، لكن ما فَعَلته فعلًا هو عزل القصة الوطنية عن مشكلة العبودية، والتركيز على الروابط الاقتصادية الناتجة عن العبودية، وهي القصة التي يحدد كتابنا معالمها، ويُعيد قصة الاستعباد مباشرة إلى محور التاريخ الوطني بوصفه كلًّا متكاملًا. وهذا هو المكان الذي تنتمي إليه.
دينا جيردمان: يقول الكتاب “تبدأ علاقة العبودية بالرأسمالية الأمريكية حقيقةً من المزرعة.” هل يمكن أن توضّح كيف استفاد الشمال من القطن الذي يزرعه الرقيق في الجنوب؟ وكيف ساعدت “إمبراطورية القطن” هذه في خلق رأسمالية حديثة؟
بيكيريت: هناك العديد من الروابط الاقتصادية بين مجمّع المزارع الجنوبي وتطوّر الرأسمالية الأمريكية والعالمية والتي تشمل التجارة، والصناعة، والخدمات المصرفية، والتأمين، والشحن، وغيرها من الصناعات. وهذا هو أبرز رابط طُوِّر حول القطن.
كما تعلمون، كانت صناعة القطن حاسمة للثورة الصناعية التي غيّرت العالم، حيث بدأت لأول مرة في بريطانيا العظمى ثم انتشرت من هناك إلى أجزاء أخرى من العالم، بما في ذلك الولايات الشمالية من الولايات المتحدة. منذ عام 1861م حتى الحرب الأهلية الأمريكية، كان معظم القطن المستخدم في الإنتاج الصناعي يُزرع بواسطة العمال المستعبدين في الأجزاء الجنوبية من الولايات المتحدة. وهكذا لعبت العبودية دورًا مهمًّا جدًّا في توفير المواد الخام الأساسية للإنتاج الصناعي.
ومع ذلك، كانت هناك روابط أخرى: موّلت بريطانيا ثم عاصمة الولايات المتحدة توسيع مجمّع العبيد في أمريكا الجنوبية. كان تقديم القروض ضروريًّا للمزارعين الجنوبيين حتى يتمكنوا من شراء الأراضي والعمالة. علاوة على ذلك، نظّم التجار الشماليون شحن القطن إلى الأسواق العالمية.
وبالطبع، زوّد المصنّعون الشماليون -إلى جانب نظرائهم الأوروبيين- المزارع في الجنوب بالأدوات والمنسوجات وغيرها من السلع التي كانت ضرورية للحفاظ على نظام المزارع. شهدت عبودية المزارع ازدهارًا ثانيًا في القرن التاسع عشر في أعقاب الثورة الصناعية بعيدًا عن كونها نظامًا رجعيًّا يتجه نحو الزوال بسبب الرأسمالية الصناعية. وفي الولايات المتحدة، كان للقطن دورٌ محوريٌ لهذه “العبودية الثانية.”
دينا جيردمان: اعتقد البعض بأن الشمال كان مستعدًّا “لقتل الإوز الذين وضعوا بيضتهم الذهبية.” حتى مع إلغاء العبودية، هل يمكنك أن توضح لماذا لم يكن الحال كذلك؟
بيكيرت: كانت العبودية مهمة للحظة معينة في تاريخ الرأسمالية. لكن كان هناك توتّرات حادة بين تعمّق وانتشار الرأسمالية والعبودية.
من ناحية، كانت العبودية غير مستقرّة تمامًا. قاوم العبيد استعبادهم، وكان على مالكي العبيد استخدام كثيرٍ من العنف والإكراه والرقابة لضمان استقرار المزرعة ومجتمع العبيد على نطاق أوسع. علاوة على ذلك، لم تلبي العبودية الحاجة للعمالة التي ظهرت في المؤسسات الصناعية الحديثة؛ إذ استُخدِم عدد قليل جدًّا من العمّال الرقيق هناك.
وأخيرًا، كان لدى مالكي العبيد فكرة محددة تمامًا عن الاقتصاد السياسي للولايات المتحدة، الذين ركّزوا على تصدير السلع الزراعية إلى الأسواق العالمية، والتجارة الحرة، والتوسع الإقليمي لنظام العبيد في الغرب الأمريكي. كان ذلك مختلفًا تمامًا عن الاحتياجات السياسية العاجلة والقوية أيضًا للصناعيين والمصرفيين الشماليين. لقد أرادوا حماية الرسوم الجمركية وتوسيع العمل الحر في الغرب الأمريكي. اعتمد كل من هذين الاقتصادين السياسيين على سيطرة الحكومة الفيدرالية.
مع مجيء الحزب الجمهوري ثم مع انتخاب إبراهام لنكولن عام 1860 للرئاسة، أصبحت هذه السيطرة غير مؤكدة. ونتيجة لذلك، تضررت مصالح الجنوبيين، وهذا أدى إلى اندلاع حرب أهلية عنيفة فازت بها القوى المعارضة للرق.
دينا جيردمان: هل تعتقد أن مديري الأعمال اليوم يمكنهم تعلّم أي دروس مهمة من هذا الفهم الجديد للعلاقة بين العبودية والسوق الأمريكية؟
بيكيرت: نعم بالتأكيد. إن الدرس الأكثر أهمية الذي يقدّمه هذا التاريخ هو أن قادة الأعمال الذين يعود تاريخ شركاتهم إلى عصر ما قبل الحرب يحتاجون إلى البحث في هذا التاريخ بشكل استباقي ومواجهته. لا أحد على قيد الحياة اليوم مسؤول عن العبودية -وهي جريمة ضد الإنسانية- لكننا جميعًا نحتاج إلى مواجهة تاريخنا ثم محاولة المضي قدمًا من هذا الاعتراف بالماضي.
عمومًا، من المهم أن يكون لدى الشركات فهم كامل لسلاسل التوريد التي تخصهم، وظروف العمل في جميع هذه السلاسل. فإذا كانت تنتهك حقوق الإنسان الأساسية، فإن الشركات تتحمل المسؤولية وكذلك القدرة على التصرف.
كانت هناك مصالح تجارية قوية في القرن التاسع عشر عملت بجد ضد العبودية. فقط فكّر في الإخوان تابان في نيويورك، التُّجار الذين وحّدوا أعمالهم مع النضال المناهض للعبودية. ثم كان هناك أيضًا روّاد أعمال رفضوا معالجة القطن الذي يزرعه الرقيق. هؤلاء الناس يمكن أن يكونوا بمثابة أمثلة على ما هو ممكن. فهم يثبتون أنه من الممكن والضروري أن يوجد فهم كامل لجميع جوانب تجارة ما وأن تطبّق القواعد والحقوق الإنسانية الأساسية بقوة.
عندما تقرأ خطابات رجال الأعمال في الأربعينيات والخمسينيات من القرن التاسع عشر، سترى جهودًا عديدة لفصل الأعمال والأخلاق في مجالات منفصلة. كان التّجار والمصنّعون في الماضي يعلمون أن العبودية مشكلة أخلاقية، لكنهم حاولوا بعد ذلك القول إن هذه الاعتبارات الأخلاقية كانت غريبة عن اهتمامات العمل. بالنظر للماضي، يمكننا أن نتفق جميعًا على أن هذه الادعاءات غير معقولة. مثل هذه الملاحظات يجب أن تجعل الجميع اليوم على وعي تام بالتبريرات التي تسعى إلى عزل الأعمال عن المسؤولية الأخلاقية. لا ينظر التاريخ (والمؤرخون) بعين العطف إلى هذا الأمر.
المصدر: The Clear Connection Between Slavery And American Capitalism