- تأليف : د. ميشيل برايس – Michael E. Price Ph.D
- ترجمة : محب عثمان
- تحرير : ناريمان علاء الدين
الإنسان بطبيعته مكيف أن يعيش ضمن مجتمع ما. وقد تطور جنسنا ماراً في أنواع مختلفة من المجتمعات مثل المجموعات المتماسكة ومجتمع الأجيال المختلفة ومجتمع التواصل الشخصي ومجتمع النطاق الضيق ، ومجتمع جامعي الثمار الصائدين.
تقدم هذه المجتمعات مورداً هاماً لأفرادها، كشبكة دعم إجتماعي. وكونك فرداً في ذلك المجتمع فإن الأفراد الآخرين كانوا احتووا شركاءك على المدى البعيد في علاقات تبادلية تتبادل فيها المنفعة، وحرصوا أشد الحرص على ما فيه مصلحتك.وربما اعتمدت عليهم حين تقسو الظروف وربما هم اعتمدوا عليك. كما أنك شاركت مجتمعك طقوس إحياء ذكرى أحداث الحياة الفارقة ذات المعنى كالولادة،والوفاة، وطقوس الانتقال. وكذلك قضيت معهم الأوقات الرائعة، ومازحتهم، واحتفلت وإياهم، وقاسمتهم الطعام والمسؤوليات، وبادلتهم المعرفة والقيل والقال وشاركتهم القيم العامة والتصورات حول الوجود ونشأة الكون.
بالطبع هذا لا يعني أن كل العلاقات في عصور أسلافنا التطوريين كانت ودية سليمة، فقد كان هنالك الكثير من الاختلاف والشدة أيضاً. ورغم ذلك كانت الحياة تزخر بأشكال من الدعم الاجتماعي، ولم يكن هذا الدعم ليجعل حياتك أكثر رفاهية بل كان ليجعلها أصلح لبقائك وأسرتك. فمثلاً كان اعتمادك على شركائك في المجتمع لتشاركهم الطعام والعناية الطبية والمعلومات حينما تكون في أشد الحاجة إلى ذلك، وليحموك من عدوك ويهزموا خصومك، ويتعاونون معك لتكتشفوا من الموارد ما لا تظفر به لو عملت وحدك.
ونظراً لأهمية الدعم الاجتماعي في بقاء وتكاثر أسلافنا التطوريين. نشعر – كأناس عصريين – بالألم إذا ما أدركنا أن أننا بحاجة إلى ذلك الدعم. كما دفع الجوع والعطش أسلافنا إلى الحصول على الموارد المادية الأساسية فقد دفعهم الشعور بالوحدة والعزلة للحصول على الموارد الاجتماعية الأساسية.
لم يكن الناس في معظم مناطق العالم يعيشون كصائدين وجامعي ثمار لمئات أو آلاف السنين، غير أنه خلال عملية التطور الثقافي – التي قادت إلى قيام الدول القومية الكبرى في العصر الحاضر – وجد الناس طرقاً عملية لإشباع رغباتهم النفسية في الاجتماع. وقد لعب الدين دوراً رئيسياً في هذا الصدد، ففي بعض الثقافات عمل الدين كمصدر رئيس للموارد الاجتماعية بأنواعها في مجتمعات النطاق الضيق. يميل الناس في المجتمعات المتدينة إلى تطلب مجتمعات الأجيال المختلفة حيث يكون التفاعل فيها عادةً، وتتبادل القيم، وتتشارك النظرة إلى العالم، وإقامة شبكة علاقات داعمة تبادية على المدى الطويل، وتتوفر فرص إقامة الصداقات والترابط الاجتماعي والإحياء الطقوسي لذكرى الأحداث ذات المعنى في حياة الأفراد.
وبالرغم من ذلك فصلاحية الدين ليكون مصدراً لمجتمع ما، قد ضعفت بشكل سريع.
واعتبر بالمملكة المتحدة – حيث أعيش مؤخراً- فقد أكدت استطلاعات مختلفة أن مؤشر التدين قد انخفض بشكل حاد بين جميع الفئات العمرية في المملكة المتحدة وخصوصاً بين الشباب. فمنذ عام 1983 إلى 2014 انخفضت نسبة أعضاء الكنيسة الإنجليزية من 40% إلى 16% من نسبة الشعب.
وفي حوالي نفس الفترة زادت نسبة الذين يصفون أنفسهم بأنهم ليسوا على دين من 31% إلى 51%، وكان 69% من المشاركين ممن تتراوح أعمارهم بين 16- 24 عاماً. ولوحظت انخفاضات مماثلة في نسبة أعداد المتدينين في غيره من الشعوب، كما أنها لا تزال مرتفعة في شعوب أخرى عديدة.
وبانخفاض نسبة التدين بين الشعوب زادت العزلة، التي سببت بدورها مشكلات صحية جسيمة عامة، هي من لوازم العزلة. ومن الثابت الموثق أن المتدينين يعيشون بصحة أفضل وأعمار أطول، وأفضل تفسير هو ما وجده العلماء من أن الدين المنظم يقدم لأفراده المجتمع الداعم. الانتماء الديني يجعل الناس أقل عزلةً، كما أن العزلة أو الوحدة لا تسبب الشعور بالضجر فحسب، بل إن لها أثرها السيء على صحة الإنسان. فمما يرتبط بها ارتفاع ضغط الدم وضعف المناعة وزيادة الاكتئاب ونتائج ضارة أخرى. لذلك فالعزلة مرتبطة بشدة بارتفاع معدل الوفيات بأسبابها المختلفة، وآثارها القاتلة المعروفة أكثر بكونها عوامل خطر كالسمنة، والتدخين، وتعاطي الممنوعات. كلما قل التدين زادت العزلة، ولم يجمع من المعلومات عن نسبة العزلة – بشكل منهجي – مثل ما جمع عن نسبة التدين، لكن في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة يبدو الناس في عزلة أكثر مما مضى.
ينظر للعزلة عادةً على أنها مشكلة هي أكبر عند من تقدمت بهم السن، لكن الدليل الداعم لهذا الرأي متواضع. آثار العزلة السيئة على صحة الأصغر سناً تبدو في الحقيقة أشد سوءاً منها على صحة كبار السن، والأصغر سناً هم أكثر الفئات العمرية عزلةً في المملكة المتحدة، كما أنهم الأقل تديناً. لذلك نحن أقل تديناً مما مضى وأشد عزلة مما مضى، والعزلة تجعل منا تعساء معتلين.
ما الحل إذن؟ هل يجب علينا أن نحاول وندور عكس عقارب الساعة؟ ونعيد الدين التقليدي إلى حياتنا؟ هذا ليس حلاً نموذجياً، لسببين أولهما أنه لا داعي أن نأمل أن الأغلبية اللادينية في بعض البلدان ستتقبل محاولات الشروع في صحوة كبرى جديدة، حيث التدين في أدنى مستوياته في تلك البلدان. وثانياً قد يكون المجتمع العلماني خياراً أفضل من المجتمع الديني. ونريد بالعلمانية النظرة التطلعية، وجمعيات شبه دينية تؤتي ثمار الجمعيات الدينية التقليدية في حين أنهم يعرضون عن الاعتقاد بالخارق للطبيعة، وينصب تركيزهم على صنع غد أكثر إشراقاً للبشرية بدلاً عن محاولة استعادة العقود والقرون الماضية من الأرثوذكسية الدينية. الجماعات الدينية كانوا – تاريخياً – المصدر الرئيس لحياتنا المجتمعية، لكن لا داعي يمنع من كون المجتمعات العلمانية ناجحة في تأدية الدور وتحقيق قدر أكبر من النجاح أو مساوٍ لما تحققه تلك الدينية.
هذه ليست فكرة جديدة. إن الفكرة القائلة بأن المجتمعات العلمانية الطبيعية قادرة على القيام بدور المجتمعات الدينية المؤمنة بالقوى الخارقة للطبيعة فكرة مطروحة منذ أمد بعيد، والعديد من تلك المجتمعات مزدهرة اليوم. ظهرت الجماعات العلمانية المنظمة في الغرب في القرن الثامن عشر وتأثرت ببعض الكتب مثل كتاب ( عصر العقل ) لتوماس بيني.
ومن الأمثلة الواضحة للجماعات العلمانية المعصارة في المملكة المتحدة مجلس الأحد، والجمعية البريطانية الإنسانية ومؤسسة ريتشارد دوكينز. وبالرغم من محاولات بعض الجمعيات في الماضي والحاضر إلا أنها لم تحقق نجاحاً معتبراً يصل إلى حدٍ يجاري شعبية الجمعيات الدينية.
بعض الأسباب قد تفسر عدم تحقيق الجمعيات العلمانية المزيد من النجاح، منها المناخ الثقافي المعادي – الموسوم بسيطرة الكنيسة واعتبار الإلحاد وصمة عار – الذي حاولت الظهور فيه. ولكن الأسباب الأخرى يجب أن ينظر فيها إلى طبائع الجمعيات العلمانية نفسها، لكي تؤدي دوراً هو مثل أو أفضل مما تلك الدينية التقليدية، أقول بأنهم على الأقل يحتاجون إلى مراعاة هذه النقاط التالية:
1- جعل الصحبة أولوية. الجمعيات العلمانية يجب أن تكون فرصاً لإنشاء علاقة اجتماعية رفيعة المستوى وقضاء الأوقات الرائعة معاً. يجب عليهم أن يمكنوا أفرادهم من التفاعل بشكل منتظم ( أسبوعياً على الأقل )، في اجتماعات حضورية وجهاً لوجه ( غير افتراضية ) مع المزيد من فرص الاتصال الاجتماعي غير الرسمي.
2- دعوة كل أطياف المجتمع. لتكون شاملة ومصدراً لتوحيد المجتمع، يجب أن تكون الجماعات العلمانية متنوعة وتضم مختلف الأجيال. يجب أن تجتهد لتدعو الأفراد والعائلات من الفئات العمرية المختلفة، والخلفيات، والأعراق، والمستويات الاجتماعية والاقتصادية. لا أقول أنه من السهل أن نحقق جاذبية لنطاق واسع أو أني أعرف التركيبة السحرية لفعل ذلك، لكنه طموح واجب.
3- الاتفاق على منظومة بسيطة من القيم المشتركة. يجب أن تعكس هذه القيم معتقدات الأفراد وتقدم البشرية. أهم القيم التي يجب تعيينها هي الاجتماعية ( كيف نتعامل مع الآخرين )، والمعرفية ( كيف نفهم العالم ). اختياري للقيم المقترحة متأثر بتفضيلي الذاتي، ولكني أظن أن الحركة العلمانية الناجحة ستعزز حتماً القيم الاجتماعية مرتبطة بالتراحم والشمول والقيم المعرفية مرتبطة بالعقل والعلم ( وهي نفس القيم تقريباً المنادى بها من قبل المجلس البريطاني الإنساني )
4- إشعار الأعضاء بأنهم جزء من قوة أكبر للخير في العالم. عظمة الجمعيات ليس في كونها تساعد أفرادها في التخلص من العزلة فحسب لكن في تمكينها إياهم من العمل سويةً ومن ثم إنجاز ما لا ينجزه الفرد وحيداً. يريد الناس أن يكونوا جزءاً من قوة أعظم للخير في العالم هي أكبر منهم، وتستطيع الجمعيات العلمانية توفير هذه الفرصة.
5- التأكيد على ما تكون، وليس ما لا تكون. سيختلف العديد معي، لكني أرى أن تعريف المجتمع العلماني نفسه أصالةً بمناهضتها للدين التقليدي يأتي بنتائج عكسية. فعلى سبيل المثال، أرى أن التركيز على عدم إيماننا بإله يعطي الأديان التقليدية دافعاً كبيراً جداً ليضعوا أجندتهم. يجب أن نؤكد على نقاط القوة في نظرتنا للعالم وليس على نقاط الضعف عند المناهج الأخرى. وجهة النظر العلمية للكون/الأكوان المتعددة الذي\التي نعيش فيه\ـا أشد إظهاراً له\ـا كمكان إعجازي وأكثر إدهاشاً وإذهالاً مما جازف بتخيله القائلون بالخوارق للطبيعة. وأجدى أن نركز على ألغاز عالم الطبيعة الكبرى وقوة العلم القريبة في حلها، ثم نركز على أن الخوارق للطبيعة لا يمكن أبداً أن تقدم الحلول.
6- منح الطابع الشعائري. يحتاج الناس إلى إحياء ذكرى الأحاث المهمة في حياتهم بطرق مثمرة ثقافياً واجتماعياً، يجب أن تكون الجمعية العلمانية قادرة على دعم تلك الطقوس التي مكنت الأعضاء من فعلها.
7- القدرة على التحلي بالوقار. الحياة المجتمعة العلمانية يجب أن تكون مرحة، لكن الثقافة المجتمعية يجب أن تكون قادرة على الظهور بالمظهر الجدي الكافي لتقديم الدعم عند أشد الحوادث وطأة وألماً، ولتمارس الشعائر في المناسبات الرسمية.
هذه القائمة ليست حاصرة – لا شك أن هناك الكثير من الأمور التي يجب الإشارة إليها – لكنها تبدو كبداية معقولة. هناك جماعات علمانية في العالم اليوم حققت منجزات عظيمة باستيفائها بعض المعاييرالمذكورة أعلاه، وليس الغرض نقد العمل الممتاز الذي صنعته تلك الجماعات ( فلست في مقام نقدهم ومن الواضح أنهم قدموا للمجتمع العلماني أكثر مما قدمته أنا( بل أقول إننا جميعاً لا زلنا في البدايات في ما يتعلق بإنفاذ قدرة المجتمع العلماني لإثراء حياة الأفراد وتطوير مجتمعاتنا، العالم يحتاج جمعيات علمانية أقوى، ولا تحتاج إلا إلى مزيد وقت لتظهر.
المصدر : The World Needs a Secular Community Revolution