الدين

الدراسات الإسلامية بألمانيا: نظرة تاريخية عامة

  • تأليف: آنا ماري شيمل
  • ترجمة: فاطمة الزهرة بورباب
  • تحرير: لطيفة الخريف

في ديسمبر 1996، زارت العالمة الألمانية الشهيرة آنا ماري شيمل (توفيت سنة 2003) المركز البحثي الإسلامي بإسلام آباد، وألقت محاضرة عن الدراسات الإسلامية بألمانيا. ونظرا لجودة وبراعة هذه المحاضرة فإن مجلة Islamic Studies تنشرها هنا. أجرينا بعض التعديلات التحريرية الطفيفة عليها، دون الإخلال بجوهرها مع تحويل الأسلوب الشفهي إلى أسلوب كتابي.

إن تاريخ الدراسات حول الإسلام والثقافة الإسلامية في أوروبا -وألمانيا بالأخص- تاريخ حافل. يمكن تعقب هذا التاريخ منذ سنة 1143م حين تمت ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية بإسبانيا، وطُبعت لأول مرة في مدينة بازل السويسرية بطلب من شخصية في غاية الأهمية هي المصلح الألماني مارتن لوثر (توفي سنة 1546م). ظلّت هذه الترجمة تُستعمل إلى حدود الأربع مئة سنة الموالية، لكن عددًا من الترجمات اللاتينية للقرآن ظهرت بعد مرورها. هذه الأخيرة هي التي مدّتنا بالنصوص التي قمنا بإعادة ترجمتها إلى الألمانية وغيرها من اللغات الأوروبية. في القرن الثامن عشر، ظهرت ترجمتان رديئتان للقرآن بألمانيا، وهما ترجمتان مهمتان لأن الشاعر والمفكر الألماني العظيم يوهان فولفغانغ غوته (المتوفى سنة 1832م) كان على وعي بوجودها واستعملها في أعماله الخاصة المتعلقة بالدراسات الإسلامية.

بدأت الدراسات الأكاديمية للغة العربية بألمانيا في القرن السادس عشر حين وصلت مجموعة من المخطوطات إلى مكتبة هايدلبرغ وعمل عليها عددٌ من السوريين المسيحيين. لكن المركز الحقيقي للدراسات الإسلامية بأوروبا ظلّ لوقت طويل تابعًا لهولندا، وبخاصة لجامعة ليدن مع رجال مثل ياكب يوليوس (المتوفى سنة 1667م) وتوماس أربنيوس (المتوفى سنة 1624م). ونتيجة لهذا الاهتمام الأكاديمي الخاص باللغة العربية، تُرجمت أعمال عديدة من اللغة العربية إلى اللاتينية ومنها كتاب حي بن يقظان لابن طفيل (المتوفى سنة 1185م). هذا الكتاب هو الذي ألهم الرواية الشهيرة روبنسون كروزو، التي يطالعها معظم الأطفال الألمان ويتحمسون معها لمغامرات رجل وحيد على جزيرة نائية يكتشف بها شيئا فشيئا كلّ إمكانات الحياة البشرية بما في ذلك الفلسفة والدين.

لكن ينبغي ألا ننسى أن الدراسات العربية في ذلك الوقت كانت تُدرَّس لمجرد الاستفادة منها في دراسة اللغة العبرية. فاللغة العربية كانت بمثابة المفتاح للدراسات اللاهوتية عند كل من يسعى لفهم العهد القديم. وبعبارة أخرى فإن اللغة العربية كانت تُدرّس لغيرها من المواضيع، فتكون ضرورية لغيرها لا لذاتها. إن أول شخص في أوروبا أجرى دراسات عربية لذاتها كان رجلا ألمانيا يدعى يوهان ياكب ريسكه (توفي 1774م)، غير أن مسيرته كانت مأساوية إذ لم تَرُق مقاربته في الدراسات الشرقية لزميليه الهولندي والألماني، وذلك لأنه لم يشأ أن يجعل اللغة العربية خاضعة لدراسة العبرية، بل إن اللغة العربية والتاريخ الإسلامي ينبغي في -نظره- أن تُدرَس لذاتها وسعى لإضافتها لعدد من الأعمال وخطا الخطوة الأولى نحو فهم التاريخ الإسلامي بصورة أفضل بقليل مما كان عليه الحال في السابق. أُطلق على ريسكه لقب زعيم الأدب العربي حين وفاته سنة 1774م وكان هو الذي قام حرر دراسة اللغة العربية من رقّ المساعي اللاهوتية المختلفة. ولأجل ذلك نكّرم اسمه ها هنا. لا تزال سيرته الذاتية التي حررتها أرملته بعد وفاته، سمة مميزة في الدراسات الإسلامية، وبخاصة في ألمانيا.

تاريخيا، تغيّر موقف الأوروبيين تجاه العالم الإسلامي عدة مرات. من جهة، كانت هناك محاولة لفهم الإسلام من خلال القرآن كما رأينا في ألمانيا في القرن الخامس عشر في أعمال فيلسوفٍ علّامة هونقولاس الكوزاني (المتوفى سنة 1464م) الذي سعى لأول دراسة دقيقة للقرآن. بعد ذلك، بدأت موجة كراهية أخرى تجاه العالم الإسلامي وخاصة في النمسا وألمانيا حين حاصر العثمانيون الأتراك فيينا في 1529م وصدموا بذلك العالم الغربي كله. سنجد طوال قرن ونصف وإلى حدود 1683م عددا متناميا من الكتابات المضادة للإسلام أو للأتراك في الغرب. هذا لأن الأتراك بدوا كأنهم يهددون وجود الحضارة الأوروبية. والحقيقة أنه لدينا شعور بأن هذا الخوف لا يزال مستمرًا بشكل لا واعٍ. ومن جهة أخرى، كان هناك اهتمام جديد بالثقافة الإسلامية وبالأخص بالثقافة الإسلامية لإيران والهند. ويرجع هذا إلى التجار الذين سافروا إلى الهند وتحدثوا في كتاباتهم عن كنوز الشرق وعن الإنجازات الثقافية العظمى للدول الإسلامية. كانت تلك المرة الأولى التي تُرجمت فيها كتب فارسية إلى اللغات الأوروبية بما فيها الألمانية. لنذكر هنا كتابا كان له الأثر البالغ على الفهم الألماني للعالم الإسلامي وللعالم الفارسي بخاصة، وهو الترجمة الألمانية الأولى لكَلستان الشيخ السعدي، والتي ظهرت بألمانيا لأول مرة في 1654م وأبهرت بشكل عميق كتّابنا الكلاسيكيين العظماء أمثال يوهان جوتفريد هردر (توفي 1803م) وغوته. كان تأثير مؤلفات السعدي الجميلة – كلستان والبستان – على الأدب الألماني واضحا خلال القرن التاسع عشر. بعد ذلك وبمساعدة ترجمات أخرى مثل ترجمات المستشرقين البريطانيين بجامعة فورت وليام بمدينة كالكوتا، انبثق فهم أفضل للثقافة الإسلامية رغم الشح العظيم في المصادر المحرّرة بطريقة نقدية. يمكن القول بأن الدراسات الشرقية الأكاديمية بدأت في أوروبا حوالي سنة 1800م، أي بعد وفاة ريسكه، زعيم الأدب العربي، بفترة وجيزة. من جهة أخرى نرى الاهتمام الألماني المتزايد عند أشخاص مثل هردر وغوته بالثقافة الإسلامية. حين نقرأ دراسات هردر في تاريخ فلسفة البشر نجد ملاحظات مهمة جدًّا حول الثقافة الإسلامية والأدبيات، ملاحظات عصرية مذهلة من حيث مقارباتها لكن قليلًا فقط من الناس اطلعوا عليها في أيامنا هذه. تدهشني دومًا مقاربة هردر للعالم الإسلامي. وكان هو الذي أثّر على غوته كما قد تعلمون جميعا من خلال أعمال العلاّمة إقبال. حاول غوته في شبابه تأليف عمل درامي عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يكتمل قط غير أن جزءًا منه يُطلق عليه اسم Mahammadsgesang (أغنية محمد) تُرجم بشكل حرّ إلى اللغة الفارسية من طرف العلّامة إقبال في ديوانه بيام مشرق (رسالة الشرق). وكان العلّامة إقبال هو الأول، أو الوحيد في حدود علمي، الذي كتب جوابا شعريا على West-östlicher Divan (الديوان الغربي الشرقي) لغوته، وجعل بذلك أعماله وطريقته في فهم العالم الإسلامي متاحة أيضا للمواطنين الهندو-باكستانيين. كان غوته بالفعل شاعرا وفيلسوفا حكيما وكانت طريقته في فهم الأدب والثقافة الإسلامية مدهشة. لعلكم تتذكرون أن قراءته لترجمة المستشرق النمساوي جوزيف فون هامر-برجشتال (المتوفى سنة 1856م) لـديوان الحافظ – ترجمة ظهرت ما بين 1812م و1813م – هي التي ألهمته تأليف ديوانه الغربي الشرقي. بل إن هذا الكتاب هو الذي أشعل فتيل اهتمامه بالشرق. بل إننا حين نقرأ اليوم مذكراته المعروفة بـ Abhandlungen  (المقالات)، والتي ألحقها بعمله الشعري، نندهش من ذكائه وروعته في تحليل جوانب مختلفة من الثقافة الإسلامية. وبعده، تمكن رجل مثل فريدريخ روكرت (المتوفى سنة 1866م) من ترجمة ما توفّر لديه من الأدب العربي والفارسي بل والأدب العلمي إلى الشعر الألماني، فقام بذلك بتجميع ثروة من المأثورات الشرقية، والتي للأسف لم يتمكن معاصروه من فهمها كليا. كان الشرق في ذلك الوقت يمثل أيضا أرض القصص الخيالية. وكانت ترجمة أنطوان غالان (المتوفى سنة 1715م) لـ الليالي العربية، والتي ظهرت في السنوات الأولى من القرن الثامن عشر، بمثابة خطوة نحو فهم مختلف للشرق. صار العالم العربي حينها يُنظر إليه بوصفه موطن للجنيات والأشباح والمعجزات. واستلهم عدد من الأدبيات الأوروبية والموسيقى والشعر من صور القصص الخيالية تلك عن الشرق، والتي لا زالت بالمناسبة مستمرة إلى يومنا هذا. رسم أشخاص مثل الشاعر اللاتيني الأمريكي العظيم خورخي لويس بورخيس صورًا مستلهمة من هذه النظرة لليالي العربية، ويحمل الشعر الألماني والموسيقى الألمانية انعكاسات كثيرة لهذا العمل المذهل. لكن عليَّ القول بأن المقاربة الأكاديمية للشرق، منذ بدايات القرن التاسع عشر فصاعدًا، والمقاربة الشعرية اتخذتا طريقين مختلفين. ففريدريخ روكرت مثلا، المستشرق العظيم الذي لم تتفوق أية ترجمة على ترجمته لمقامات الحريري ولتحف أخرى من الأدب العربي ولن تتفوق عليها أبدا، لم يكن مؤرخا ولا لغويا بالمعنى الضيق للكلمة. لكن شرع الأكاديميون بفرنسا وألمانيا وبريطانيا بدراسة موارد الثقافة الشرقية في الوقت ذاته. انطلقت موجة الدراسات هذه بقواعد نحوية عربية ممتازة وضعها عالم فرنسي. وبعد الإصدار الناجح لعدد من القواميس العربية-اللاتينية في القرن السابق، جُمعت قواميس ضخمة لأول مرة. وأخيرا قام جورج فيلهلم فريتاخ (المتوفى سنة 1861م) من جامعة بون بألمانيا بجمع قاموس عربي-لاتيني ضخم، والذي ظلّ لعدة سنوات بل وعشرات السنوات كتابا رئيسيا عند المستشرقين الألمان. ثم صارت المصادر العربية والفارسية والتركية متاحة تدريجيا للعلماء الأوروبيين، وحرروا المخطوطات باهتمام بالغ وسعوا إلى تتبع التقدم التاريخي للثقافة الإسلامية. قبل ذلك الوقت، لم تكن تستعمل الموارد التاريخية إلا نادرًا، ويمكنني القول بدون مبالغة، إنه منذ 1835م حدث تدفق من إصدارات الأعمال الكلاسيكية باللغات الإسلامية، وخصوصا باللغة العربية ثم الفارسية بعدها من قبل العلماء الأوروبيين. وكانت مقاربة المؤرخ واللغوي للتاريخ هي المهيمنة في المجال الأكاديمي في القسم الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

أما فيما يخص المستشرقين الألمان، فلهم دور خاص في هذا التطور. كثير منكم قد يكون اطلع على كتاب إدوارد سعيد (الاستشراق) والذي يقرّع فيه المستشرقين الأوروبيين والفرنسيين، ويدّعي فيه أن دراساتهم لم تكن سوى أداة للأفكار الإمبريالية. من المنطقي أن سعيد لم يذكر المستشرقين الألمان إذ إن ألمانيا لم تكن لها أية مستعمرات. لم يكن لألمانيا أي اهتمام بالمجال السياسي للعالم الإسلامي. في نظر المستشرقين الألمان، كانت دراسة العربية والفارسية والتركية دراسة أكاديمية بحتة، دراسة تسعى إلى الوصول للحقيقة لذاتها، وعليه فإن تقرير إدوارد سعيد بخصوص المستشرقين لم يتعلق قط بالعمل الأكاديمي للعلماء الألمان في مختلف الجامعات. واستطرادًا، يمكن أن أذكر بأن بعض رؤوس الاستشراق الألماني سافروا بعيدًا، أحيانا إلى بريطانيا، ليحصلوا على فرص دراسة أوسع هناك. أحدهم هو رجل ندين له بأول دراسة معمقة لما يطلق عليه حاليا اللغات الباكستانية، وهو إرنست ترامب (المتوفى سنة 1885م) والذي ألّف كتابًا ضخمًا في القواعد النحوية للغة السندية وكتب أيضا في القواعد النحوية للباشتية، وقد صدر الكتابان في سبعينيات القرن الثامن عشر. وكان مهتما أيضا بالبلوشية والبراهوية، ولغات أخرى يطول ذكرها. لكن أعظم أعماله كانت تحت إشراف الحكومة البريطانية وهي القواعد النحوية للسندية والباشتية، وكذا الترجمة الإنجليزية لـ Adi grants والتي أنتجها خلال إقامته بلاهور. لكن إرنست ترامب مجرد استثناء. فالعلماء الألمان ركّزوا بشكل عام على اللغة العربية وعلى دراسة التطور الإسلامي في بداياته. فالعربية الكلاسيكية والفارسية الكلاسيكية هما المجالان اللذين تميز فيهما العلماء الألمان. هنا يجدر ذكر اسم ثيودور نولدكه (المتوفى سنة 1930م). فهو الذي غامر لأول مرة لكتابة تاريخ القرآن العظيم، وتبع علماء آخرون بعده. حاول نولدكه إظهار التطور التاريخي لسور القرآن، مستعينا بالطبع بتقسيم السور المدنية والمكية، وقد سعى بذلك إلى إبراز كيفية الكشف عن التطور الفكري في تاريخ القرآن. كان نولدكه أول عالم يعالج هذه الإشكالية وتبعه في ذلك آخرون، منهم علماء ألمان وبريطانيون، وقد سعى أحدهم إلى ترجمة القرآن بترتيبه التاريخي وآخرون كثيرون. وفي الوقت ذاته – وهذا أمر يصعب دومًا شرحه للجمهور المسلم – فإن أولى الترجمات “الحقيقية” للقرآن إلى اللغات الأوروبية كانت قد صدرت ونملك الآن عدد مهما منها باللغات الأوروبية وخصوصا باللغة الألمانية. قام مؤخرا أحد الزعماء المسلمين ذي الأصل الألماني، أحمد فون دنفر والذي يعيش بميونيخ، بترجمة القرآن العظيم إلى اللغات الألمانية لكن بحواش قليلة فقط. والحق أنني غير معجبة كثيرا بهذه الترجمة لكنها متاحة الآن. وهنا نصل إلى مشكلة دائما ما تخلق صعوبات للعلماء الغربيين والعلماء المسلمين على السواء. فكما تعلمون، لا يجب ولا يمكن أن يترجم القرآن لأن كلمة الله العربية غير قابلة للترجمة إلى لغة أخرى. يمكن أن نقوم بترجمة عامة تظهر المضامين فقط كما فعل مارمادوك بكتال (المتوفى سنة 1936م). لكن هناك جانبًا دائما ما يضيع في هذه الحالات، وهو جمال وروعة اللغة، والأصوات التي تؤثر في الناس دون فهم كلمة واحدة، والعلاقات المعقدة بين أجزاء القرآن المختلفة. فالترجمة الأكاديمية تظهر قصورًا كبيرًا من هذه النواحي، بل إن أعظم ترجمة أكاديمية للقرآن إلى اللغة الألمانية أي ترجمة رودي باريت، والتي صدرت منذ عشرين عاما تقريبا، قد تكون مثيرة للاهتمام نوعا ما من ناحية مضامينها، لكنها لا تحمل أي تشابه -ولو ضئيل- مع الجمال الحرفي للنص الأصلي وهو شيء يقلقنا نحن المستشرقين كثيرًا.

لعل الترجمة الألمانية الوحيدة التي تمنح لمحة عن الجمال البلاغي للقرآن هي ترجمة روكرت، التي سبق ذكرها آنفا. وهي للأسف غير مكتملة، فهي لا تتضمن إلا ثلاثة أرباع من القرآن. وقد صدرت مجزأة في عشرينيات القرن الثامن عشر، وأعيد تحريرها في 1888م، مع مقدمة بليدة تقريبا للمستشرق الألماني المسمى أوغست مولر، وأعيد تحريرها أخيرًا على يد هارتموت بوبزين وهو عالم شاب من جامعة إيرلندا والمختص أيضا في ترجمات القرآن إلى اللغات الأوروبية. أنا سعيدة لكون هذه الترجمة متاحة حاليا في طبعة جيدة حتى يتاح للناس أن يطلعوا ولو على جزء من جمال اللغة وعلى المضامين كذلك، وأنا أوصي بهذا الكتاب لكل من يريد أن يعرف أكثر عن الإسلام وعن أسسه.

وعلى كل حال، وبالموازاة مع ترجمات القرآن المتعددة، كان هناك اهتمام متنام بما يطلق عليه العلماء الأوروبيون مختلف مصادر القرآن، وحاول عدد كبير من المقالات إبراز مصادر الإلهام اليهودية والنصرانية والله يعلم أية مصادر أخرى للقرآن. بعض الأكاديميين البريطانيين المعاصرين حاول إثبات أن القرآن أُلِّف بعد حياة النبي بكثير. فنحن نملك إذن أنواعا عدة من المقاربات النقدية والتي ينبغي أن نشاركها مع تلامذتنا لنوفر لهم نظرة عامة أو نجعلهم أكثر تفهما للموضوع.

وبالإضافة إلى مساعي فهم القرآن، كانت هناك مساع لفهم تطور التاريخ الإسلامي وثقافته. فمنذ بدايات القرن التاسع عشر، حصلنا على عدد واسع بشكل ملحوظ من الكتابات عن تاريخ العرب، عن تاريخهم الثقافي وغيره، بل إن الكتابة التاريخية كانت الخاصية الأبرز دومًا للدراسات الاستشراقية الألمانية. وإلى يومنا هذا، لدينا عديدٌ من المؤرخين الممتازين الذين لم يعودوا يملكون الجرأة على كتابة دراسات شاملة بل يركزون على أحداث معينة من تاريخ الإسلام. فالاهتمام بالإسلام المعاصر يتصاعد تدريجيا وبالأخص بعد الحرب العالمية الثانية. وهو اهتمام طبيعي جدًّا لأنه بفضل الإعلام الجديد وإمكانية السفر السريع إلى دول العالم الإسلامي، صار من المهم فهم القضايا الإسلامية بصورة أفضل. ونحن نرى بأن الحقائق والتطورات تظهر في الإعلام بشكل مشوه غالبًا. فجيلنا من المستشرقين، الذين بلغ أغلبهم الخمسين سنة فما فوق، قد أخذ على عاتقه المسؤولية الكبيرة لإصدار كتب جيدة، إذ إن عدد الدراسات حول التاريخ المعاصر لمختلف الدول الإسلامية، سواء الكويت أو مصر أو السودان أو المغرب، يتزايد كل أسبوع تقريبا. وعليه فإن المقاربة التاريخية لا تزال قوية جدًّا وأنا سعيدة بالقول إن مستشرقينا الشباب يؤدون عملًا ممتازًا في هذا المجال.

وهناك جانب آخر تُجُوهِل كثيرًا في الأزمنة السابقة، وهو القانون الإسلامي. من المدهش أن عددًا متزايدًا من الدراسات في السنوات الأخيرة حول النظام القانوني الإسلامي قد صدرت، وبالأخص في ألمانيا وكذلك في الولايات المتحدة وغيرها من الدول. نملك أبحاث دكتوراه ممتازة صدرت على شكل كتب حول القانون الإسلام ودور الفتوى والفتوى المعاصرة بمصر فيما يخص عدد من المشكلات كتنظيم الأسر وغيرها. هذه الأعمال مهمة جدًّا لفهم الإسلام لأن الجمهور القارئ لا يعرف إلا قليلًا جدًّا عن القانون الإسلامي بعامة، ولا يعلم شيئا عن تعقيد الشريعة وعن طرق الفقه في تنزيل جوانب الشريعة المتعددة على الحياة اليومية وبالأخص الحياة المعاصرة، وهذا مجال يصير أكثر أهمية كلما تقدم الزمن. وأنا سعيدة بالقول بأن عددًا من العلماء الألمان الشباب يؤدون عملًا متينًا وموضوعيًّا ممتازًا حول هذه الجوانب. هذه أمور ينبغي أخذها بعين الاعتبار لفهم أفضل لدور المستشرقين الألمان.

وعلى جانب آخر، فهناك جوانب عدة من الدراسات الاستشراقية والتي كانت مرموقة في الماضي، قد تقهقرت أكثر إلى الخلف. أحدها دراسة الأدب، وبالأخص الأدب الفارسي. كنا نملك عددا جيدا من العلماء المختصين به، ومنهم روكرت الذي سبق وذكرناه. هؤلاء المستشرقين الألمان أفنوا أوقاتهم، وأعمارهم أحيانا، في دراسة الأدبيات العربية والفارسية والتركية كذلك. ونذكر بالأخص أولئك المستشرقين الذين عملوا على العلاقات بين الأدب والتصوف، فقد أنتجوا أعمالا بديعة. ولنذكر واحدا فقط من العلماء الألمان العظماء، هو هلموت ريتر (المتوفى سنة 1971م). فقد كان لغويًّا من الدرجة الأولى، وكان رجلًا عمل لسنوات عدة بإسطنبول ويعرف كل المخطوطات، المفهرسة منها، الموجودة بمكتبة إسطنبول وكان اهتمامه الأول هو الأدب. وقد كان فريد الدين العطار (المتوفى سنة 1220م) المفضّل لديه من بين الصوفيين. فكتاب ريتر Das Meer der Seel (بحر الروح) دراسة لا يمكن التفوق عليها لأعمال فريد الدين العطار، سواء من الناحية اللغوية أو الناحية الروحانية. من المؤسف أنه لم يترجم للإنجليزية قط. فتلاميذي بجامعة هارفرد ذوي اللغة الألمانية المتذبذبة قد حرموا معرفة هذا الكتاب الرائع. وقد عمل ريتر على الأدب التركي والسوري الشعبي. وباختصار، فإن أعماله هي كنز دفين لنا جميعا، وقد واصل تلاميذه أعماله إلى حد ما.

وبالمثل، هناك عالم سويسري لكنه تعلّم تبعا للتقليد الألماني، هو فريتز ماير من بازل السويسرية (توفي سنة 1998م) كانت أعماله عن الصوفيين الكبار من أفضل ما كُتب في المجال. وقد كرّس دراساته لأبي إسحاق الكرزوني الشيرازي الذي توفي سنة 1035م. وله عمل رئيسي عن أبي سعيد بن أبي الخير (المتوفى سنة 1049م)، الصوفي العظيم الميْهني ولعل أشهر دراساته كانت عن نجم الدين الكبرى الذي توفي إثر الغزو المغولي سنة 1221م. نجد في أعماله مزيجا رائعا من الرقة اللغوية والفهم الفلسفي لتعاليم كبرى وتلاميذه. وقد كرّس أيضا عملًا ملفتًا لوالد مولانا جلال الدين الرومي، بهاء الدين ولد، والذي يدرس الصوفية من زاوية نظر مختلفة تماما. وقد أصدر مؤخرا كتابا عن النقشبندية، حيث يتتبع التعاليم الروحانية والمقاربات الفلسفية للنقشبندية تجاه الحياة. فهو بلا شك، الزعيم الكبير للدراسات حول التقاليد الروحانية والفلسفية باللغات العربية والفارسية والتركية. والحق أنه يصعب جدًّا أن نجد عالما بنفس خبرة فريتز ماير والذي يمثل قدوة رائعة لكل من يعمل في مجال الدراسات الشرقية والإسلامية. وللأسف، لم تظهر أي من أعماله بالإنجليزية كذلك. تصدر حاليا بعض الترجمات الفارسية لأعماله، لكن لم يتجرأ أحد بعد على ترجمة أعماله الكاملة إلى الإنجليزية. فمن المؤسف أن أعماله غير متوفرة للقراء من الأصدقاء الإنجليز. فريتز ماير هو -حاليا- آخر العلماء الذين يمثلون الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية، وإن حاول تلامذته ومعجبيه مواصلة أعماله. فقد تنامى اهتمامهم مرة أخرى بالطرق الصوفية بعد أن كادت تختفي لعشرات السنين، لكن ينبغي ألا ننسى بأن أول دراسة مثلا للطريقة البكتاشية في تركيا، قد قام بها جورج ياكوب، وهو عالم بجامعة كيل. ومؤخرا كتب عدد من الطلاب عن الطرق الصوفية بتركيا. وبهذه الطريقة، ظهرت دراسة مهمة عن الدور السياسي للنقشبندية منذ بضع سنوات لمستشرق ألماني شاب. وبشكل عام، فإن هؤلاء العلماء يتتبعون خطوط الصوفية من النواحي الأنثروبولوجية والفلسفية تقريبا.

أما فيما يخص الشعر العربي، والذي مثل أحد المجالات الرئيسية للدراسة الأكاديمية الكلاسيكية بألمانيا، فيمثله مستشرقان اثنان أوثلاثة كرّسوا أعمالهم للشعر العربي الكلاسيكي أي الشعر الجاهلي والشعر العباسي وما إلى ذلك. غير أنه ونتيجة لتطورات معاصرة ظهرت دراسات حول الكتّاب العرب المعاصرين، وخصوصا الكتاب الفلسطينيين بتعبيراتهم عن مخاوفهم وآمالهم. هناك بعض الأعمال عن محمود درويش (توفي سنة 2008م) وفدوى طوقان (توفيت سنة 2003م) وكتاب عرب آخرين.

أما فيما يخص الفارسية، أجمل وردة من حدائق إيران، فنادرا ما تُدرَّس بالجامعات ولا يركز عليها إلا القليل من الأكاديميين. فالعالم الوحيد الذي أعرف والمختص بالفارسية لا يهتم إلا بنوع من المقاربة الإحصائية أوالفهم الحوسبي تقريبا للشعراء الفارسيين العظماء أمثال حافظ، فمقاربته أكاديمية وفكرية بحتة. يبدو أن الشعور القلبي ليس رائجا تماما بين المستشرقين الألمان حاليا.

ومن جهة أخرى، رأينا تقدمًا في دراسات آسيا الوسطى. فبعض الباحثين الشباب، القادمين من الدراسات التركية والفارسية التقليدية، قد أخذوا على عاتقهم مسؤولية دراسة لغات آسيا الوسطى وكذا الوضع السياسي والديني لتلك الدول. خلال المؤتمرات الحديثة في سمرقند وبخارى، كانت هناك فرصة للتعرف على العلماء الذين يقاربون تاريخ آسيا الوسطى الإسلامية من جوانب متعددة مثل الأنثروبولوجية الاجتماعية واللغويات وغيرها. في رأيي أن هذا المجال سيتطور في السنوات المقبلة إذ إن آسيا الوسطى تنفتح مؤخرا لعلماء العالم. هناك عمل جبار لا يزال في الانتظار بهذا الخصوص. ويبدو أن الانتقال من الاستشراق الكلاسيكي إلى مقاربة أكثر عصرية واضح للعيان. فالاهتمام بحدود الدول الإسلامية يبدو متصاعدا لا في آسيا الوسطى فقط بل أيضا في الغرب وإفريقيا الجنوبية، إذ إن الموروث الإسلامي لهذه المناطق لم يدرس خلال القرن الماضي إلا نادرًا.

غير أن هناك مجال يفتقر للتمثيل بالتأكيد هنا بألمانيا وإن كان قد نشأ بها، وهو مجال تاريخ الفن الإسلامي. أول إصدار رئيسي حول الفن الإسلامي كان عبارة عن دليل لمعرض التحف الإسلامية بميونيخ سنة 1910م. كانت تلك نقطة انطلاقة الاهتمام الجدي بالفن الإسلامي والذي لم يلفت إلا انتباه قليل من محبي الفن قبل ذلك الوقت، بل كان يعد فنا من الدرجة الثانية أو الثالثة بالمقارنة مع الفن الأوروبي. لكن وبفضل جهود إرنست كوهنل (المتوفى سنة 1964م) فقد صار الفن الإسلامي مجال مهما في الدراسات الإسلامية الألمانية. وللأسف فإن أفضل تلامذة كوهنل غادروا ألمانيا بعد 1933م وشيدوا تقليدًا لهذا الفن بالولايات المتحدة وبريطانيا.

حاليا، ليس هناك أية رئاسة للفن الإسلامي بألمانيا. وأنا على دراية بالجهود التي تُبذل لوضع رئاسة له بجامعة بامبرغ، لكن يبدو أنه لا يوجد أي أشخاص مؤهلين متاحين لها. وعلى الجانب المشرق، ونتيجة لاتحاد ألمانيا فإن متحفين إسلاميين ببرلين قد اندمجا وهوما يمثل حدثا رائعا لمحبي الفن غير أنه خلق نوعا من الصعوبات الإدارية. فهناك عدد ضخم من التحف التي لم تعرض أبدًا. ولحد علمي، فإن فهارس متحف برلين تضم أكثر من 25000 قطعة من السيراميك والتحف الحديدية وقطع أخرى من الفن الإسلامي التي لم تعرض كما يجب قط. وقد تسببت الوفاة المفاجئة لمدير متحف برلين مايكل مينيك (المتوفى سنة 1995م)، والذي كان خبيرا عظيما بالهندسة المعمارية لمصر المماليك وسوريا، في إحداث فراغ هائل لم يُملأ إلى وقتنا هذا. فهذا المجال، العزيز إلى قلبي جدًّا، أُهمل بصورة مؤسفة.

من وجهة نظري التي أشاركها دومًا مع طلابي، فإن فهم الإسلام بشكل أفضل من جوانبه المتعددة، يمر بالضرورة بفهم ولو ضئيل بالفن الإسلامي والخط العربي. إذ كيف يمكن للمرء الاستمتاع بقراءة أي شيء عن الفكر الإسلامي القروسطي دون أن يعلم كيف كانت تبدو الهندسة المعمارية الإسلامية لذلك الوقت. وكيف يمكن لأحد الاستمتاع بالتحف الفنية – نسخة رائعة من القرآن مكتوبة على الرق، أو كتاب أدعية رائع أو شيء كهذا – دون أن يلمس أبدا مثل هذه المخطوطات. فالاتكال على النصوص المكتوبة أمر ضروري بالطبع لكن ينبغي ألا يكون السبيل الوحيد للاقتراب من الثقافة الإسلامية. كنت محظوظة كفاية للعيش بتركيا لخمس سنوات ثم الانتقال لباكستان وعدد من الدول الإسلامية الأخرى وبرؤية أشياء لم تسطر في الكتب وبالتالي حصلتُ على شعور بأشياء لا يمكن تسطيرها كتابة أبدا. والحق أنه من المهم جدًّا للأكاديميين الشباب أن يجرّبوا الشرق أو الدول الشرقية من المغرب إلى باكستان وبنغلادش لبعض الوقت لمجرد أن يتفاعلوا مع الأشخاص الذين يعيشون في ثقافة إسلامية. ولحسن الحظ أن الطلاب الشباب يملكون الآن فرصًا أكبر، مما كانت لديهم قبل ذلك، وهو ما سيؤدي بالتأكيد إلى أعمال أكاديمية تحمل دفئًا وحنانًا تجاه الثقافة الإسلامية بشكل عام.

تدهورت الدراسات الاستشراقية بألمانيا في الخمسينيات بخسارة عدد كبير من العلماء الكبار نتيجة الحرب أو الهجرة. وأنا سعيدة بالقول بأنه منذ ستينيات القرن العشرين فما فوق، صار لدينا عدد متزايد من الطلاب الصغار المهتمين بمختلف أوجه الدراسات الإسلامية. ونأمل أن تتمكن ألمانيا خلال السنوات القديمة القليلة من العودة لإنتاج بعض أفضل العلماء في المجال إن شاء الله. فالأشخاص الذين أتعامل معهم، من الزملاء والطلبة، يمنحونني أملا وقناعة بذلك. أتمنى أن أكون قادرة، حين أعود بعد بعض الوقت إن شاء الله، على تقديم دراسة عما كان يحدث منذ نهاية التسعينيات وبداية القرن الواحد والعشرين. وشكرا لكم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى