الفلسفة

الحقيقة والمآلات

صوفيا روزنفيلد

ترجمة: المعتصم الحرصي

قررت الفلسفات التي تقدمت عصرنا أنه من أجل أن ينجع النظام الديمقراطي في مجتمع ما فإنه من الضروري أن نتفق -نحن المواطنين- على ماهية الواقع. لا يجب على الجميع -بالطبع- أن يفكروا بالطريقة نفسها في الأسئلة الوجودية الكبرى، ولا أن يؤمنوا بالعقائد نفسها ولا أن تكون عندهم القيمُ الأخلاقية نفسُها. بل إنه من الطبيعي والمتوقع أن لا نكون على هذه الشاكلة جميعُنا. ولكننا -في الجانب المقابل- لا بد لنا من أن نتبنى فهما أساسيا مشتركا عن طبيعة الواقع. عن الأمور ومآلاتها، وعما هو حسن وقبيح، وعما هو ملقٍ إلى التهلُكة، وعن كيفية نظرتنا إلى الوقائع كيف حدثت وما هي في حقيقتها.

يطلق بعض علماء الاجتماع على هذا اسم “المعارف العامة”. ويطلق عليه آخرون تهكما “الحقيقة النفعية” قاصدين التأكيد على طبيعتها النسبية التي تشكلها توجهات المجتمع ورغباته. على أية حال فهذه الحقيقة النفعية أو المعارف العامة كما سموها هي الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه السياسة الديمُقراطية ونظامها. هذا النظام الذي لا يمكن فيه لفرد واحد ولا لمؤسسة واحدة لها السلطة والغلبة دون غيرها أن تقرر الصواب من الخطأ. وإنَّ كلَّ زعمٍ أو رأيٍ أو قولٍ كما يقال: يؤخذ منه ويرد.

وقد قيل إن هذه الحقيقة النسبية القابلة للأخذ والرد هي من أجلِّ وأنفعِ ما أنتجته الديمُقراطية أثناء تبلورها وتشكلها. وقد حافظت هذه الفكرة -أي: الحقيقة النفعية- على مركزها وشعبيتها في الأنظمة الليبرالية الديمُقراطية الحديثة، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن في الآونة الأخيرة، بدأت بعض الأمور تتسم بالغموض حتى أن ذلك الاتفاقَ على الأشياء الأساسية بدأ الإبهامُ والإلغازُ يكتنفانه.

ليس المُشكِلُ تصدرُ الساحة بعضُ المتفذلكين[1] الذين يحاولون قلب الحقائق بحديثهم المستمر عن الوجه الآخر للحقيقة. وليست المشكلةُ في لَيِّ رئيسِ الولايات المتحدة عنقَ الحقيقة ونشرِه نظريات المؤامرة عند كل فرصة تَعِنُّ له أمام الحشود المجتمعة ولا في ثرثرته الممتدة على تويتر. وإنما المشكلُ هو وضع يتزايد إحساسنا به يوما بعد يوم، وهو أن الأدلة القطعية التي كانت من قبل تحسم الجدالات والنقاشات المتعلقة بقضايا واقعية وموضوعية باتت اليوم لا تقنع الناس الذين قادتهم توجهاتهم السياسية إلى قناعات مختلفة وإن كانت قد جانبت الصوابَ جدا.

فقد أصبح المواطنون اليوم ينتمون إلى قبائلَ وأحزابٍ ابستيمية[2] معرفية. فما قد يعتقدُه أناسٌ حقيقةً يظنه آخرون كذبا و إفكا. سَرِّح النظر في تعدد تفسيرات الأحزاب السياسية المختلفة لقضية الاحتباس الحراري مثلا، أو نتائج “تقرير مولر” الذي بحث فيه قضية تدخل روسيا في حملة ترامب الرئاسية عام 2016. إن كثيرا من هؤلاء الناس أيضا مقتنعون بأن الحد بين الحق والباطل في النهاية نسبي مثل كل شيء سواه. إن المسألة في نظرهم مجرد مسألة ذوق و زوايا نظر مختلفة لا أكثر. لا شيء ذو أهمية في نهاية الأمر، ولا مفر من هذا

سائرون نحو الهاوية

ما الذي حدث؟ لِمَ أصبح الاتفاق على الحقائق البسيطة الأساسية بعيد المنال (ما عدا المسائل المنطقية الأولية مثل 2+2=4)؟ أو بتعبير آخر: لِمَ نجد -نحن ذوي التوجهات السياسية المختلفة- صعوبة في التوصل إلى إطار معرفي عام نتفق عليه جميعا؟ والأهم من ذلك: لِمَ هو صعبٌ الإجماعُ على أهلية مؤسسات معينة أو مناهجَ معينة وجدارتِها، أو لم هو صعبٌ أن نُسَوِّدَ[3] علينا الأكْفاءَ من الناس ليأخذوا بأيدينا لبلوغ ذلك الإطار المعرفي العام وتلك النظرة الكونية التي نتفق عليها جميعا؟ ولِمَ استيأسَ أكثرُنا و استصعبوا إمكانية الوصول إلى حقائق يشترك الجميع في الإيمان بها؟ قد يبدو للقارئ بأن هذه الأسئلة ترمي لمعنىً ما غريبٍ عن العلاقة بين الحقيقة والديمُقراطية. وذلك لأن الحقيقة والديمقراطية طوال تاريخهما كانا يعدان -ولم يزالا- صِنوانِ[4] لا يفترقان. سلامةُ أحدهما قاضٍ بسلامة الآخر وبقائه. وهذا هو الذي حدا ببعض المحققين أن يبدي قلقه من أن هذا الربط بين الحقيقة والديمُقراطية سيسلك بنا إلى مسالكَ لا تحمد عواقبها.

تدور تفسيرات الخبراء والمحللين على التأثيرات القصيرة المدى لهذا الربط. وهم ليسوا مخطئين برفع أصابع الاتهام إلى الاضطراب الاجتماعي الحاصل بسبب الإعلام والتكنولوجيا ونظام القانون (لن أذكر مع ما سبق النظريات ما بعد الحداثية التي تحتضنها الجامعات كأحد الأسباب؛ إذ أنني أرى أن في فعلي ذلك مغالطة منطقية). وقد بدأت هذه العمليةُ عمليةُ ارتباط الحقائق بالتوجهات السياسية في مجال الراديو في نهاية ثمانينات القرن الماضي مدفوعة برغبة حكومة الرئيس ريجان في تخفيف القيود على وسائل الإعلام، ثم بعد ذلك في مجال التلفزيون في تسعيناته. فتغير حال نشرات الأخبار وأصبحت مزيجا من فقرات الترفيه وفقرات الدعاية للأحزاب السياسية المختلفة، مصحوبة في العادة بفقرات محركة للخوف والقلق في نفس المشاهد.

لعب “رَشْ لِمبُوه”[5] ثم محطة “فوكس نيوز” الإخبارية من بعده دورا محوريا في هذه القصة. ثم من بعدهما ظهرت مواقع التواصل الاجتماعي بداية الألفية الجديدة مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب اللاتي غيرن عالم التواصل والاتصالات، وغيرن معه من طبيعة المزاعم حول الحقيقة.

لقد أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي المجال للكثير من الناس للوصول إلى معلومات قيمة ومهمة ومفيدة منثورة في الشبكة العنكبوتية وذلك بسبب رخص سعر الاستخدام، ومكن ذلك الكثيرين من المشاركة في القضايا العالمية. ولكن طبيعة المعلومات والحقائق فيها -في الجانب المقابل- لم تصبح إلا أقل ديمقراطية من ذي قبل، وكان هذا عكس ما توقعه التكنوطوباويون[6]. فقديما، حتى مع وجود حراس بوابة الإعلام[7] بهوياتهم المجهولة ووظيفتهم المهمة في التدقيق في الأخبار وحصرها ونخلها قبل نشرها فإن المجال -مع كل هذا- كان مفتوحا للفرد العادي لاتخاذ قراراته واختياراته الشخصية. ولكن -بصورة مناقضة للتوقعات- فإن الانفجار الهائل من المعلومات المتبعثرة والمتناثرة اليوم تناثرا أُشَـبِّـهُهُ بالنشاز المُخِلِّ بالترنيمة الحسنة، أصبح يقودنا -زرافاتٍ[8]– إلى حظائر افتراضية مغلقة، و أصبح يقودنا إلى تكوين قبائل وأحزاب ابستيمية تنتشر تكتلاتها على شبكة الانترنت.

والنتيجة؟ أصبحت اللاحقيقة (أي: المعلومات والأخبار التي من الممكن وصفها بغير الموثقة، والمضللة، أو حتى الكاذبة كذبا فاضحا) تنتشر انتشار النار في الهشيم، انتشارا مخالفا للمبدأ الديمقراطي.

أسلوب غير مألوف

لكننا في حديثنا هذا الذي أصبح ظاهرة عالمية بامتياز نسهو عن أخذ إحدى الأفكار الممتدة في الزمان بعين الاعتبار. وأعني بها الفكرة التي ترجع بنا إلى بدايات الديمُقراطية الحديثة في السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الثامن عشر، ولم أعنِ بها البلبلة التي حدثت في التسعينات من القرن الماضي وحسب.

دعني أقل إنه من المستحيل فهم مشكلة الحق والحقيقة من دون فضِّ غوامضِ المعضلةِ المحبوكة في ثنايا السياسات الديمقراطية منذ البداية. فإنه عند انعدام المصدر الذي يمدنا بالحقائق والإجابات المطلقة والثابتة فإنه كان لزاما نشوءُ معارك فكرية عن طبيعة الحقيقة وماهيتها. بل الأمر أكبر من ذلك: فمن ذا الذي له الحق في تمييز الصواب من الخطأ، وعلى أي أساس يستند وعلى أي أرضية يقف؟

إن الذي أطَّر الديمقراطية الحديثة وأعطاها شكلها الحالي كان الأسلوب المثير للعجب الذي عوملت به في أيام ولادتها الأولى في القرن الثامن عشر. ففي حين كانت الملوك في أوروبا ترتدي ثيابَ كِبْرِها وتفخر بأنها تتحكم بسيب العلم والمعلومات والحقائق وتتحكم كذلك بمصدر هذه المعلومات ومن يتفوه بها، فقد قرر -في الجانب المقابل- الآباء المؤسسون للولايات المتحدة ومن وافقهم في فكرهم أنه لا بد من الإعلان والجهر ولابد من التكاتف والتآزر لنشر المعلومات والحقائق وبثها إذا أردنا -نحن الشعب- أن نتفق على حقيقة ما. فإننا لن نتوصل إلى “الحقيقة النفعية” -كما أسموها- إلا من خلال النقاش العلني المفتوحة أبوابه للناس من جميع طوائفهم المختلفة بما فيها وجهات النظر المختلفة عن ماهية الحق والحقيقة.

دعني أخبرك عما سيحصل بعدها عند تطبيق الديمقراطية: ستأخذ فئة صغيرة من الناس زمام القيادة سواء داخل الحكومة وخارجها بفضل حكمتهم التي يتحلون بها، وبفضل المهارات التي تعلموها (وكلا الأمرين يخبرنا عن خلفية هؤلاء الأشخاص العرقية والمالية والجندرية). ثم سيرى بقية الشعب أنه من حُسْنِ الرأيِ ومن رجاحة العقل الأخذُ بآراء هؤلاء الخبراء والمتخصصين. والشعب مع هذا سيُبدي و سيشارك هؤلاء الخبراء آراءه البسيطة والواقعية التي كونتها خبراتهم الشخصية من حياتهم اليومية. وهكذا سيكون الأمر غدوا ورواحا من المتخصص إلى العامي ومن العامي إلى المتخصص.

ثم قد يتوجب على الناس أن يعتنقوا بضع مبادئ إضافية لنتمكن من تطبيق الفكرة بشكل صحيح: مثل أن يفضلوا الخطاب السياسي الواضح غير ذي العوج على غيره، وأن يميلوا إلى إحسان الظن بالآخرين ووضع شيء من الثقة فيهم، وأن يرغبوا بوضع إطار قانوني يحوي الأصوات الناخبة المترددة المتذبذبة و يحمي معها حرية التعبير قبل التصويت وبعده. أقول إنه إن اجتمعت هذه الظروف والشروط مع بعضها فإن الحقيقة الكبرى ستشرق من خلف السُتُر التي كانت تحجبها، ظهورا مماثلا لما كان “جون ميلتون” يتخيله في أيامه التي سبقت ولادة الديمقراطية الحديثة بوقت طويل. وليس هذا ما حدث.

لقد سُوِّيَت النظرة السابقة (تجاه صوت الشعب ودوره في العملية الديموقراطية) حَسَنُها بقبيحها. وكذلك، فقد أصبح أيضا مثال السوقِ “سوقِ الأفكار”[9] مثلا متهافتا؛ إذ أنه لم تعد “الأسواق” ولا الناس ذوي أهلية و ثقة تؤهلهم أن يسيروا بأنفسهم إلى مواضع الحقيقة دون الباطل وإلى الصواب دون الخطأ.

ليس هذا وحسب، بل إن هذه الفرق والأحزاب من المتخصصين في معارفهم الذين يحبون احتكار الديموقراطية وإحكام القبضة عليها دون غيرهم من الناس قد واصلوا تهديد المبدأ الديموقراطي وحقيقته منذ نهاية القرن الثامن عشر، وأعني بذلك زحزحتهم للعملية الديمقراطية (التي هي متضمنة لصوت الشعب) من المجال العام إلى مجال المتخصصين والخبراء، رغبة في حيازة تلك السلطة (فكرية أو غير فكرية) التي أنتجها انفرادهم بالقدرة على تحديد ما هو صواب وحقيقي دون الآخرين كما قلنا سابقا.

فعلا لقد اتسعت علينا في القرن العشرين رقعة الفشل في إيجاد حلول وسط مرضية لكل الأطراف، وتزايد كذلك خطر الاستيلاء على السلطة من قبل تلك الفئات. وكان هذا مصاحبا لارتفاع نسبة التفاوت المعيشي بين الطبقات الاجتماعية والذي لازمه حذو النعل بالنعل ارتفاع نسبة التفاوت في القدرة على الحصول على التعليم الجيد، ومثل ذلك أيضا التفاوت في كل ساحة أو باحة أو رقعة أو بقعة في كل المجالات من سياسة واقتصاد واجتماع. رب متحدث باسْمِ الشعب لا يدري ما ينادي به، فمن يكتب عن الواقع على أوراقه ليس كمن يعيشه.

تلميع الباطل

لقد ظلت النخب من جميع الأطياف تحاول توطيد دعائم سلطتها ونفوذها منذ أول حديث دار بين اثنين عن بناء الجمهوريات الحديثة و إنشائها في نهاية القرن الثامن عشر. وما زال الأمر هكذا حتى مع انتشار الديمُقراطية (وكذلك انتشار المعاناة والبؤس) مع مرور السنين. لقد ظن جيمس ماديسون ومن شاركه في كتابة الدستور الأمريكي أن الجمهورية سيقودها الفضلاء والحكماء من الناس، أو بتعبير آخر: أولئك الذين يتمتعون بعلاقة مميزة مع الحقيقة (وكذلك الملكية الخاصة).

لكن في القرن التاسع عشر صارت الحقيقة أمرا مختصا بالمهنيين والمختصين والخبراء. كل هذه المصطلحات التي سكت تخبرنا عن التفرق والتقسم الحاصل في الطريق الموصل إلى الحقيقة، حيث إن الحقيقة أصبحت نوعا من المعارف الذي يُـتَـكسَّبُ ويُـتَـحصَّلُ بمعرفة مناهج معينة وأخلاقيات معينة وألفاظ اصطلح عليها، سواء في العلوم الإنسانية أو الطبيعية. ولقد تضخمت هذه الظاهرة في القرن العشرين، وتميزت السبعون عاما الأخيرة منها بصعود التكنوقراطية إلى منصة السلطة في أنحاء كثيرة من العالم.

خذ الاتحاد الأوروبي مثالا: مجموعات عمل لا تحصى من الخبراء الذين يعملون في مجالات متخصصة ضيقة، ومصطلحات تقنية وعلمية كثيرة ومتشعبة كثير منها لا يفهم ولا يفقه، وآلاف من الصفحات التي تحوي تقارير ذوات بيانات وإحصائيات عديدة. كل هذا يعمق الفجوة بين الإنسان العامي والمتخصص في مجاله حتى أصبح الأمر -كما يعده كثير من الأوروبيين- عملية سياسية لا ديموقراطية.

وما العاصمة واشنطن منهم ببعيد؛ فقد قرر النقاد أن فتح الباب “للخبراء والمتخصصين” ليتسلموا أمر تشريع الحقيقة وتحديد ما هو حق وما هو باطل فيما يتعلق بالقضايا العامة أمر خطير. لا لأنهم سيستخدمون خبراتهم في صنع قرارات يَعْتريها النقصُ و يَعْـتَوِرُها[10] الهزال من حيثُ بعدُها عن واقع الشعب وأحوال معيشتهم وحسب، بل زد على ذلك أنهم بذلك سيهددون العملية الديموقراطية ذاتها التي من المفترض أن يكون فيها صوت الشعب مسموعا.

ولكن في الجانب المقابل فإن هذه الاندفاعة نحو التكنوقراطية لم تمض هملا من غير مراقبة. فالانتقادات الموجهة نحوها يرجع تاريخها إلى القرن الثامن عشر عندما خرج المعارضون للدستور الأول للولايات المتحدة الأمريكية وأعلنوا وصرحوا أن الشعب قد خُدع واستغفل، وأنهم قد سلبت منهم القدرة على جعل تصوراتهم و أفهامهم الشخصية العدسات التي ينظرون من خلالها إلى الواقع. وقد عبر عن ذلك أحد المناهضين للفدرالية بقوله إن الناس قد خدعهم ذوو:” الأخلاق الميكافيلية الذين يبرعون في الفذلكة والشقشقة وتزيين الأكاذيب والافتراءات، المتسربلون بسربال الحقيقة ليسحروا به أعين الناس حتى يُـتَـوِّهُوهُمْ في متاهات الباطل والضلالة”[11].

نما ذلك الأسلوب من الخطب السياسية الرنانة في القرن التاسع عشر جنبا إلى جنب مع صعود ظاهرة الخبراء والمختصين. ويبدو أنه يعيش مرحلة جديدة من الصحوة تشير إليها الفكرة القائلة إن النخبة من كل حزب وفئة وجماعة قد كونت عصابة عالمية يسيل لعابها لإحكام قبضة السلطة على كل شيء بدءا بالمعرفة والعلم نفسه. ولهذا أحيا الشعبويون من القادة والخطباء في أنحاء العالم بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية سردية تقليدية تاريخية مفادها ومبدؤها أن الناس قد حرموا وسلبت منهم قياديتهم الفطرية النابعة من ذائقة الصواب لديهم و حسهم الجمعي المشترك عن الحياة والواقع.

لكنني مع هذا أزعم أننا يمكننا تقويم هذا الاعوجاج الذي عرضناه في القصة المحكية آنفا، وذلك حينما يقرر الشعب ماهية الحقيقة كما تبدو لهم هم، تقريرا نابعا من الإيمان العميق والفطرة المستقيمة الذائدة[12] عن الزيغ ومن خبرتهم التي عَـلَّــمَتْهُموها صروف الأيام ونابعا مما تنضح به نفوسهم من صدق وأصالة، ثم ليعتنقوها ويستبدلوا بها الغموض والكذب وحب المنفعة الذاتية التي تغشاهم بها سبل الإعلام اليومية ووسائله والمؤسسات الأكاديمية والجماعات الخفية المسيطرة داخل الحكومات. أو بتعبير آخر: أولئك القائلين “لا أريكم إلا ما أرى” من النخب المتحكمة بالحقيقة.

أكان الأمر هكذا من قبل؟

عند تطبيق ما سبق بشكل جيد فقد يكون هذا التركيز على إشراك الناس العاديين أو العوام في العملية الديمقراطية مقوما ومصححا للخبراء وتبخترهم[13] على العوام وسيطرتهم عليهم. ولكن كما هو بين و واضح، فانتشار مثل هذا الخطاب الشعبوي وتحكمه بكيفية سير السياسة أمر خطير، إذ إنه لا يؤذن -وحسب- بظهور سياسيات سيئة كالتي يقول قائلها: نحن نمنع جيراننا من دخول منازلنا بسور يحمينا فلتفعل الدولة بجيرانها كما نفعل! بل إن الخطر أكبر من ذلك. فإنه قد يظهر -بشكل ساخر من تقلب الأحوال- خطاب سياسي شبيه بالسابق من حيث “لاديمقراطيته” وشجبه لتعددية الآراء- يستهدف هذه المرة الأفراد والمجموعات التكنوقراطية ذوي الخبرات والتخصصات ليقصيها ويبعدها (ومنهم المجموعات المهمشة كالمهاجرين) من أي نقاش أو حديث ولو كان عاما. ثم ليفسح الطريق بعد ذلك لينبغ من الرعاع[14] نابغةٌ يدعي الدفاع عن ما سيسميه بالأناس “المحقين” ورؤيتهم الكونية “المحقة”.

رغم كل ما قيل أظن أنه ينبغي علينا أن لا يغمرنا القلق، فلم تكن الأمور هكذا قط. إن الصراع على الحقيقة هو الثمن الذي لابد من دفعه علينا نحن الذين نعيش في نظام ديمقراطي. وإذا نظرنا إلى الأمور بطريقة فيها شيء من الإيجابية فسندرك أن طريقنا إنما أوعرت[15] مؤقتا -وحسب- بعد سلاسة في المسير. أو من يدري؟ فلعله من الأفضل أن نقول وداعا لهذا النظام برمته. فإن الديمقراطية أحيانا تبدو لي كأنها طريقة ذكية للتغطية والتستر على أشكال مختلفة من الإقصاء والتسلط والظلم.

إننا قد ننظر أحيانا إلى الحقيقة أنها إحدى تلك الأساطير القديمة، خصوصا في هذا الزمن الذي فيه تعمقت جذور اللامساواة. وقد يقول قائل إننا يجب أن نعيد تشكيل أنظمتنا الاقتصادية والمالية كلها قبل يكون للحقيقة معنى حقيقي مشترك فيما بيننا.

ومع كل ما قيل فإنني أدافع عن أهمية العمل لأجل إبقاء قيمة الحقيقة حية بيننا، حتى ما أسميته بالحقيقة النفعية، لنستفيد منها حيث ثمة استفادة بجعلها أداة للتأسيس والإصلاح السياسي. قد تستطيع بعض أشكال الحقيقة -مثل العلوم الطبيعية- البقاء حية حتى مع عدم وجود الديمقراطية. ولكنَّ أفضلَ ما جاء به النظام الديمقراطي الليبرالي لا يمكنه النجاة من الزوال من غير التزامنا بالبحث عن رؤية مشتركة لفهم العالم، رؤية متصفة بصفة الحقيقة ولو مؤقتا.

إن الحقيقة ضرورية لأنها الأساس للثقة المتبادلة بين الناس؛ وذلك لأننا لا نستطيع التحدث مع بعضنا البعض ، ولا الخوضَ في نقاش جاد حتى نتفق على بعض المبادئ والحقائق حول العالم في كليته ، ناهيك عن الاتفاق على الطريقة التي بها تنشأ وتتولد به هذه الحقائق. فعلى سبيل المثال: كيف يمكننا العمل على وضع سياسات جادة بشأن العمل والتوظيف إذا لم نتمكن من الاتفاق على ما إذا كان معدل البطالة قد ارتفع أو انخفض، أو لم نتفق على الكيفية التي نعرف بها أعداد الباحثين عن عمل؟

والأهم من ذلك كله أن الحقيقة لها الشأن والاعتبار لأننا جميعا نطمح إليها بأبصارنا، على الرغم من أننا لا نناقش -إلا نادرًا- وضعنا الفكري اليوم وإذا ما كنا فعلا نعيش مرحلة “ما بعد الحقيقة”.

إذا نظرنا إلى الأمور من زاوية أخرى رأينا أن الميزة العظيمة للديمقراطية لا تتمثل في نتائجها التجريبية الملموسة التي تنتجها بقدر ما تتمثل في الفرص الثانية و الثالثة والكثيرة التي تقدمها، فهي تتيح للمواطنين الذين قد يختلفون بشأن الكثير من الأمور محاولة تصحيح المسار مرة بعد مرة.

إننا لا يمكننا البدء في سد الفجوات بين النظرية الديمقراطية والعالم الذي نعيش ونعمل فيه إلا إذا آمنا في دواخلنا بإمكانية التقدم الأخلاقي والمعرفي، أعني التقدم المُــبَـرَّأ والمُـنَـقَّى من الأكاذيب والدعاية والتحايل، السائرَ بنا نحو رؤية أقرب إلى الحقيقة وأكثر توافقًا مع الواقع ، على صعوبة تحقق ذلك ومشقته.

إن ما قلته سابقا يعني أنه مهما كانت الطريق مستوحشة ووعرة فإننا لا يمكننا التخلي عن المحاولة -واضعين تعددية الآراء نصب أعيننا- حتى نجد بعض المفاهيم الأولية المشتركة عن طبيعة الواقع. فإن مستقبلنا يعتمد على قدرتنا على العيش في عالم مشترك ورؤية مشتركة.

[1] يقال: تفذلك الرجل: تلاعب بالكلمات موهمًا صدق حديثه.

[2] نسبة إلى: الابستمولوجيا epistemology، أو نظرية المعرفة. وهو العلم الذي يبحث في أصول المعرفة وكيفية الوصول إليها ومباحث أخرى كثيرة.

[3] يقال: سَــوَّدوه عليهم، أي: جعلوه عليهم سيدا.

[4] الصِّـنو أو الصَّنو: المثيل والنظير. وهو أيضا: الفَسِيلَةُ المتفرَّعَةُ مع غيرها من أَصل شجرةٍ واحدة. والمعنى هنا أنهما متلازمان لا يفترقان.

[5] Rush Limbaugh : إذاعي أمريكي.

[6] المعتقدون بأن التقدم التكنولوجي والعلمي سيقود البشرية للعيش في مجتمع طوباوي ومثالي.

[7] حارس بوابة الإعلام هو المشتغل بالتدقيق والتمحيص ونخل المواد الإعلامية قبل عرضها على المتلقي. وهي نظرية تدرس في علم الاتصالات.

[8] الزرافة: الجماعة من الناس.

[9] سوق الأفكار: مصطلح أطلقه جون ستيوارت مل على مفهوم التبادل الحر والتنافسي للأفكار، وفيه أن الحقائق ستظهر من خلال هذا التبادل الحر وغير المقيد.

[10] يقال: اعتوره المرض، أي: أصابه.

[11] Centinel” [likely Samuel Bryan], “To the People of Pennsylvania” (January 12, 1788), Philadelphia Independent Gazetteer, cited in The Complete Anti-Federalist, vol. 2, ed. Herbert J. Storing (Chicago, IL: University of Chicago Press, 1981), 183.

[12] ذاد: منع وأبعد وحمى.

[13] التبختر: الزهو والخيلاء.

[14] الرعاع: الغوغاء من الناس.

[15] يقال: أوعرت الطريق بالرجل، أي: أفضت به إلى وعر من الأرض. و أوعر الرجل: وقع في وعورة من الأرض.

المصدر
hedgehogreview.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى