فكر وثقافة

التاريخانية (شرح موجز)

  • تأليف : فريدريك بيزير
  • ترجمة : أروى حمد
  • تحرير : خلود عبد العزيز الحبيب

 

مُستَخلَص وكلمات مفتاحية:

“التاريخانية” Historicism كانت واحدة من أهم الحركات الفكرية في القرن التاسع عشر، المصطلح “تاريخانية” عنى عدة أشياء لعدة أشخاص، وقد تمّ تعريفه بواسطة مذاهب متباينة، هذه المقالة تُعرّف “التاريخانية” لا كمذهب، بل كبرنامج.

هذا البرنامج الذي بدأ بمنتصف القرن الثامن عشر، وامتد لمعظم سنوات القرن التاسع عشر، كان له هدف بسيط لكن طامح: أن يعتمد التاريخ كعلم science.

التاريخانيون أرادوا للتاريخ أن يحظى بنفس المكانة العالية، التي تحظى بها العلوم الطبيعية، لكن مع ذلك ادّعوا بأن للتاريخ – على خلاف هذه العلوم- أهدافه الخاصّة، وطرقه البحثية، ومعاييره المعرفية، أما ما الذي يجب أن تكونه هذه الطرق والأهداف بالضبط؟ هذا كان محلّ خلاف بينهم، لكن ما كان محلّ اتفاق عام، هو أنه لا يمكن اختزالها لتلك الخاصة بالعلوم الطبيعية، ويجب أيضاً التفريق بين التاريخ وبين الميتافيزيقا.

  • معاني أساسية:

في سنة 1936م، في مقدّمته المفعمة بالحنين لأطروحته الجليلة “التاريخانية: بروز منظور تاريخي جديد” كتب فريدريك مانيك أن التاريخانية كانت “واحدة من أعظم الثورات الفكرية، التي مرّ بها الفكر الغربي”، ربما كانت هناك نَفخَة مبالَغَة في عبارة مانيك، وكانت أيضا تخدم الذات، بما أنه تدرّب في المدرسة التاريخانية وأصبح واحداً من أهم متحدّثيها، مع هذا، فلا شك أن التاريخانية كانت واحدة من أهم الحركات الفكرية في القرن التاسع عشر، وسواء بشكل جيد أو سيء، فقد كان لها تأثير هائل على فلسفة القرنين التاسع عشر والعشرين.

فتقريبا كل الفلسفات الألمانية في نهايات القرن التاسع عشر إلى بدايات القرن العشرين -سواء كانت هرمينوطيقا ديلثي، أو الكانتية الحديثة لوندل باند وركرت، أو فينومنولوجيا هسرل، أو وجودية هدغر- كلها نَمَت من رد فعل ما، على التاريخانية.

 

إذاً ما هي التاريخانية؟

ليس من السهل الإجابة، فهذا المصطلح عنى كثيراً من الأشياء لكثير من الأشخاص، وتم تعريفه بواسطة مذاهب متعارضة متباينة، لكن بإمكاننا تفادي الجدل وإعطاء المصطلح تعريفا صالحا، إن عرّفنا “التاريخانية” لا كمذهب، بل كبرنامج أو منهج أو مخطط.

هذا البرنامج الذي بدأ بمنتصف القرن الثامن عشر وامتد لمعظم سنوات القرن التاسع عشر، كان له هدف بسيط لكن طامح: أن يعتمد التاريخ كعلم science.

التاريخانيون أرادوا للتاريخ أن يحظى بنفس المكانة العالية التي تحظى بها العلوم الطبيعية، لكن مع ذلك ادّعوا بأن للتاريخ – على خلاف هذه العلوم- أهدافه الخاصّة، وطرقه البحثية، ومعاييره المعرفية، أما ما الذي يجب أن تكونه هذه الطرق والأهداف بالضبط؟ هذا كان محلّ خلاف بينهم، لكن ما كان محلّ اتفاق عام، هو أنه لا يمكن اختزالها لتلك الخاصة بالعلوم الطبيعية، ويجب أيضاً التفريق بينه وبين الميتافيزيقا.

هدف التاريخانيين كان يتم التعبير عنه أحياناً بأنه طلب للاستقلال: التاريخ يجب أن يحكم نفسه، ويتبع قوانينه، ومعاييره الخاصة، ويجب ألا يقبل التدخلات الخارجية، سواء جاءت من سلطات سياسية أو دينية أو من مجالات أخرى.

خطر التدخل جاء أولاً من الميتافيزيقا، من نظام المثاليين العظماء كـ فخته، شيلنغ، وهيقل، الذين هدّدوا بجعل التاريخ مجرّد خادم للفلسفة. بعد أُفول نجم “المثالية” في عام 1840م، أتى هذا الخطر من الفلسفة الوضعية والتي جعلت المعايير والطرق البحثية للعلوم الطبيعية حتمية لجميع نواحي الحياة الفكرية.

لذلك كان على “التاريخانية” أن تحارب معركتين متتابعتين: الأولى قبل أربعينات القرن التاسع عشر ضد الميتافيزيقا، ثم بعد أربعينات القرن التاسع عشر، ضد الفلسفة الوضعية.

 

ومن هم التاريخانيون؟

إن عرّفنا التاريخانية بأنها هذا المنهج أو المخطط، فمن السهل معرفتهم.

التاريخانيون الرواد في القرن التاسع عشر – عصر التاريخانية النموذجي – كانوا:

بارثولد جورج نيبور (1776-1831) ليوبولد فون رانك (1795-1886) جوان قوستاف درويسن (1838-1908)  ويلهلم ديلثي (1833-1911)، جيكوب بركهارت ( 1818-1897).

 

ومؤسسي المدرسة التاريخية للقانون:

فريدريك سافيني (1779-1861) وكارل فريدريك ايكهورن (1781-1854).

أما أهم التاريخانيين في القرن الثامن عشر الذين أنشأوا برنامجها من البدء، فكانوا:

ج. أ شالدنيوس (1710-59) كريستوف قاترير (1727-99) و جيكوب ويقلن (1721-91).

ولقد كان هنالك أيضا عدة عرّابين للتاريخانية، مفكّرين، على الرغم من أنهم لم يساهموا بتطوّر مخططاتها بشكل مُعلَن، إلا أنهم كانوا أساسيين بتطوير منهجها ومنظورها، هم: جوان جورج هامان (1730-88) جوان قتفرايد هردر (1744-1803) ويلم فون همبولدت (1767-1835) جستس موزر (1720-94)

أ. و. ريبيرق (1757-1836)

 

ماذا عن هيقل وماركس؟ ألم يكونوا تاريخانيين أيضاً؟

بالنسبة لدارسين كُثُر، هيقل وماركس هما نماذج للتاريخانية، فبرغم كل شيء، هما شاركا المُخطّط التاريخاني: أرادا للتاريخ أن يصير علما science، وهما أيضا كانا ضد “الطبيعانية” naturalism (على الأقل بمعناها الوضعي).

لكن على الرغم من هذا، من المهم أن نعرف أن معظم رواد التاريخانية كانوا ناقدين جداً لهيقل وماركس، التي كانت فلسفاتهما للتاريخ غارقة في الميتافيزيقا.

رانك، درويسن وبركهاردت ودلثي رفضوا كل فلسفات التاريخ، سواء كانت هيقلية أو ماركسية؛ لأنهم رأوا بأنها تنبؤية جداً، متجاوزة لحدود التجربة، التي هي أساسية لكل العلوم السليمة، في سنواتهم الأولى اعتبروا هيقل عدوهم الأساسي، واعتقدوا بأن التاريخ يمكنه أن يصبح علما فقط بانفكاكه من ال “هيقلية”، لم تتغير هذه الفكرة إلا لاحقا، عندما أصبح العدو هو كونت والفلسفة الوضعية.

إذن، مع كل أهميتهم بالنسبة للتاريخانية، إلا أن هيقل وماركس وقعا خارج الحركة التاريخانية.

ومع أننا لا يمكننا تعريف التاريخانية بمذهب مُحدّد، إلا أنه من الممكن أن نعزو لها عددا قليلاً من المبادئ الأساسية، هذه المبادئ كامنة بمنهجها نفسه، مُتَضَمَّنة بمحاولتها لجعل التاريخ علماً science، إنها جزء من تصوّر التاريخانيين لطريقة ومعايير وأهداف المعرفة التاريخية، التاريخانيون أكّدوا على استقلال العالم التاريخي وحكمه لنفسه، تبعاً لهذا المبدأ، كل ما يحدث في التاريخ يجب تفسيره داخل التاريخ، وبواسطة مناهج وطرق تاريخية مُحدّدة، هذا المبدأ يُبعد خيارين:

الميتافيزيقا: كتفسير الأحداث بواسطة أهداف خارج التاريخ مثل العناية الإلهية.

و”الطبيعانية” naturalism: التي تفسّر الأحداث التاريخية كجزء من الطبيعة، وبواسطة مناهج العلم الطبيعي.

هذا قد يجعل “التاريخانية” مثيلة بشكل ما لل”طبيعانية”: فكما أن الطبيعانية تدّعي أن كل حدَث في الطبيعة يمكن تفسيره فقط بواسطة طرق ومناهج العلم الطبيعي، كذلك التاريخانية تدّعي أن كل ما يحدث في التاريخ يمكن تفسيره بواسطة طرق ومناهج التاريخ، كلاهما – التاريخانية والطبيعانية – ترفضان التوجّه للمُتجاوِز وما وراء الطبيعي، كمحاولة تفسير شيء ما في الطبيعة، أو في التاريخ بواسطة شيء خارج نطاق طبيعة التاريخ.

لكن، بالنسبة للتاريخانيين، الطبيعة والتاريخ ليسا كبعضهما، فمع أن التاريخ قد يقع داخل الطبيعة، إلا أنه لا يمكن اختزاله بها، التاريخانيون يرفضون إمكانية أن نفهم الخواص النوعية لحدث تاريخي ما بمفردات وشروط طبيعانية.

بالنسبة لقوانين السببية والنتيجة التي سيطرت على العالم المادي، لم يكونوا ثنائيين أو ازدواجيين ميتافيزيقيين: لم يُأكّدوا على هذا التفريق بين العقلي والمادي، بل هم أصرّوا على أن الجانبين العقلي والمادي للإنسانية لا يمكن الفصل بينهما، لكنهم كانوا على الرغم من هذا: ثنائيين أو ازدواجيين منهجيين: قرّروا أن مناهج التاريخ مختلفة عن مناهج العلوم الطبيعية، فمع أن هذه المناهج لا تكشف عن حيّز أَو نطاق مختلف للمواد لا يمكن التوصل إليه بالعلوم الطبيعية، إلا أنها فسّرت على الأقل جوانب من الأفعال أو الأحداث البشرية التي لا يمكن اختزالها للشكل الطبيعاني من التفسير.

مبدأ تاريخاني آخر: هو أن كل مافي العالم الإنساني – كالدولة والمجتمع، والأخلاقيات، والأدب والعلم – هو جزء من التاريخ، هذا المبدأ يبدو تافهاً، فمن الواضح أن الأفعال البشرية تأخذ محلّها في الزمان، إلا أن التاريخانيين أعطوه معنى أعمق، لقد عنى، أولاً، أن كل القيم الإنسانية والمؤسسات تتغيّر، فلا شيء في العالم الإنساني مُخلَّد، هذه النقطة مُوجّهة نحو ميلنا الطبيعي لتخليد قيَمنا ومؤسساتنا، كأنها صحيحة بالنسبة للعالم عامّة وصالحة لكل زمان، التاريخانيون يذكّروننا أن كل القِيَم والمؤسسات هي ناتجة عن الزمان والمكان، وبأنها هي أيضاً ستختفي في التاريخ،  لقد عنَى ثانيا: أن كل شيء في الحياة الإنسانية ينبغي أن يتم فهمه داخل سياقه الاجتماعي التاريخي الخاص، التاريخانيون يركّزون على راديكالية أو جذرية “الاعتماد على السياق” لكل الظواهر التاريخية والاجتماعية، يعتقدون أننا لا نوجد بدون سياقنا، وضربوا على ذلك مثال أننا قد نغيّر هويتنا في سياق مختلف، هذه النقطة مُوَجّهَة ضد ميلنا الطبيعي لأقنمة أو تشييء الظواهر التاريخية الاجتماعية، وكأن لها هوية مستقلّة عن سياقها، يُعلّمنا التاريخانيون أننا كلما كنا واقعيين، كلما أفرَدنا موضوعاتنا، كلما وجدنا أن هويتها تعتمد على سياقها.

استقلالية عالَم التاريخ الاجتماعي و”التأريخ” historicization التام للعالم الإنساني، هما مبدئين أساسيين للتاريخانية، فبشكل أو بآخر، تمّ التأكيد عليهما إما بشكل مُعلَن واضح، أو افتراضهما بشكل ضمني، من قِبَل كل التاريخانيين البارزين، حتى هيقل وماركس والمثاليين الألمان، مع ذلك فأي إطلاقات أو تعميمات أخرى على التاريخانية قد تكون خطرة، فكلما أضفنا مبادئ وكلما وفّرنا تفاصيل أكثر، كلما ازدادت احتمالية أن نخسر حقنا بالتعميم على كل التاريخانيين.

لنوضّح مدى حَرَج هذا المأزق، انظر إلى المثال التالي، قد يظن المرء أن موضوعية المعرفة التاريخية كانت مبدأً تاريخياً محورياً، فرغم كل شيء، التاريخانيون كانوا يدّعون مكانةً “علمية” لتخصصهم، والمعرفة الموضوعية هي واحدة من أهم خواص العلم، لكن إمكانية موضوعية المعرفة التاريخية، كانت واحدة من أكثر المشاكل إثارة للنزاع داخل دائرة التاريخانيين! فبينما أكّد رانك ومدرسته على إمكانيتها، نازع درويسن والتاريخيون البروسيون (من بروسيا) حول إمكانيتها، طالبين من المؤرّخ أن يكتب من وحي موقفه السياسي وأخلاقياته.

كلاهما، رانك ودرويسن كانا “تاريخانيان”،  فقد دافعا عن المكانة “العلمية” للتاريخ، وعن المبدئين الخاصين باستقلاله وب “تأريخ” العالم الإنساني، ومع ذلك، فقد كانت لهما نظرتان مختلفتان جذرياً عما ينبغي أن تكون عليه المعرفة العلمية.

لذلك فأي تعريف جيد للتاريخانية يجب أن يكون جامعاً بما فيه الكفاية؛ ليحتوي اختلافاتٍ من هذا النوع.

 

2- التاريخ كعلم:

المخطّط التاريخاني لجعل التاريخ “علماً”، كان ردة فعل تجاه إرث قديم ذا قوة، فمنذ القِدَم عانى “التاريخ” من عقدة نقص حادة، مشكلة كبيرة متعلّقة باعتماده وشرعيته، لم يبدُ بأنه يستحق لقب “علم” الذي تم منحه للرياضيات والفلسفة.

فبما أن “العلم” يتطلب معرفة كُليّة وضرورية، وبما أن التاريخ يتعامل فقط مع الأحداث المُفرَدة والغير متوقَّعة، لا يمكن “للتاريخ” أن يستوعب نوع المعرفة المطلوبة من “العلم”، وعلى هذا الأساس وضع أرسطو “التاريخ” بمكانة أقل حتى من “الشِعر” كوسيلة للمعرفة، فبينما يمكن للتاريخي أن يخبرنا فقط بما فعله شخص ما بوقت ما، يمكن للشاعر على الأقل أن يُعلِمنا عن شيء أكثر كُليّة كـ: ما الذي يمكن  لنوع معين من الناس أن يفعل تحت ظروف معينة.

الوصمة ضد” التاريخ” تم احتمالها جداً خلال عصر التنوير، التفريق القديم بين التاريخ والعلم تمّ إنعاشه بواسطة فلسفة المعرفة العقلية لليبنز ووولف، والتي جعلت التاريخيين محبوسين بإحكام داخل كهف أفلاطون.

مخلصَين للنموذج القديم، درّس وولف وليبنز غيرهم أن العلم يتطلب كليّة وضرورة، بينما التاريخ يدور فقط في نطاق المُفرَد والغير متوقَّع.

كتب وولف مرة: “المعرفة التاريخية العامة، هي أدنى درجات المعرفة؛ لأنها تعتمد على الحسّ فقط، ولا تعطينا أي استبصار لأسباب الأشياء”.

لقد كان هنالك فجوة إذن بين نطاقي العلم والتاريخ، لذلك قام ليسنق، الذي تربّى على تراث المدرسة العقلية، بالكتابة عن هذه “الفجوة الواسعة البشعة” بين التاريخي والعقلي:” حقائق التاريخ المُفرَدَة، لا يمكن لها أبداً أن تصبح دليلاً على حقائق المنطق الضرورية “

محاولة اعتماد التاريخ كعلم بدأت بالفعل في منتصف القرن الثامن عشر، مفكّرون كـ ج. أ شالدينيوس، وكريستوفر قترر، وجيكوب ويقلن، الذين درسوا في التراث الوولفي – والليبنزي (نسبة إلى وولف وليبنز)، أصبحوا ناقمين لاحقاً على عقلانيته الضيّقة والمحدودة، ليس فقط لأنها منعت المكانة العلمية عن “التاريخ”، ومع أنهم عرفوا أن التاريخ لا يمكنه تحقيق اليقينية البرهانية المُثبَتَة، التي يمكن للرياضيات تحقيقها، إلا أنهم أصرّوا أن التاريخ يظل شكلاً مميزا من المعرفة له حقّه الخاص، لقد قبلوا المذهب العقلي من حيث تقريره بأن هناك فرق أساسي في النوع بين التاريخ والعلوم الطبيعية، التي وظّفت المنهج الرياضي ،والنموذج الميكانيكي للتفسي، لكنهم لم يتفقوا على أن كل العلوم تتطلب كُليّة وضرورة، أو أن الشكل الوحيد للعلم هو الرياضيات، من وجهة نظرهم: التاريخ لديه معاييره وطرقه الخاصة للمعرفة، والتي ليست أقل دقة أو تطلُّباً من تلك الخاصة بالعلوم الطبيعية، فبينما المناهج الخاصة بالعلوم الطبيعية ميكانيكية ورياضية، مناهج التاريخ شمولية وتفسيرية.

العالم الطبيعي يحاول أن يكتشف الأشياء من خلال قوانين المنطق (الصالحة لكل زمان ومكان)،  بينما يحاول التاريخي أن يفهم ويستوعب بواسطة الحدس – ما هو غريب ومتفرّد، فهي مُهمة العلم أن يعرف المتفرِّد والغريب أيضاً ، كما أنها مهمته أن يعرف العام والكُلّي.

ببروز المثالية الألمانية بنهاية القرن الثامن عشر، بدأ فصلاً مختلفاً جدا في محاولة اعتماد التاريخ كعلم science، فخته، وشيلنق، وهيقل تبنوّا استراتيجية مختلفة عن استراتيجية شالدينيوس وقترير وويقلن، ناوين أن يتجاوزوا مأزق ليسنق البشع، ادّعوا أنه من الممكن تحديد قوانين التاريخ العامة بالاعتماد على المنطق وحده، فمع أن أن فيخته و شلنق وهيقل اتفقوا مع مقولة أن هناك اختلافات أساسية بين التاريخ والعلوم الطبيعية من حيث المنهج والمعايير، إلا أنهم رفضوا المذهب الليبنزي- الوولفي، الذي يقرّر أن المنطق لا محلّ له من التاريخ.

المنطق بإمكانه اكتشاف قوانين كُلّية وضرورية في التاريخ كما في الطبيعة، ومع أن هذه القوانين ليست ميكانيكية ورياضية، إلا أنها غائية وتفسيرية.

بما أن فخته ،وشلنق وهيقل كوّنوا فلسفة للتاريخ تحاول أن توضّح الهدف العام من تاريخ العالم نفسه، فقد كانوا يرون التاريخ كتنفيذ خُطّة، كإدراك فكرة، أو كأنه رواية أو مسرحية.

ومع أن المثاليين الألمان كذلك  فعلوا الكثير لدعم قضية التاريخ، إلا أن مفهومهم لمنهج التاريخ لم يشاركه معهم “التاريخانيون”.

فبحلول عشرينات القرن التاسع عشر في برلين، كانت هناك مناوشات مستمرّة بين التاريخيين والفلاسفة، بين نيبور، و رانك وسافيني من جهة، وبين هيقل ومدرسته من جهة أخرى.

التوتر بينهم كان له علاقة كبيرة بمناهج التاريخ، المدرسة الفلسفية استخدمت منطقاً جدليا ديالكتيكياً لتُطوّر مفهوما غائيا (تيليولوجيا) لتاريخ العالم، بينما المدرسة التاريخانية أكّدت على أهمية اتباع مناهج إمبريقية تجريبية صارمة.

التاريخانيون اتهموا المدرسة الفلسفية بإنعاش مناهج الفلسفة المدرسية الكلامية المسيحية، والتي كانت مختلفة تماماً مع الطريقة التجريبية للعلوم كلها.

وبالنظر الرجعي، فقد كانت التشابهات بين هذه الأطراف أعظم من الاختلافات بينهم، فكلهم اتفقوا على مبادئ التاريخانية الأساسية، وأهمية جعل التاريخ علماً science، لكن، كما في السياسة كذلك في العالم الأكاديمي: كلّما كانت الاختلافات دقيقة، كلما ازدادت المشاحنات سخونة، في النهاية انتهت المعارك لمصلحة التاريخانيين، ومع أفول نجم الهيقلية في أربعينات القرن التاسع عشر، تولّدت هناك ردّة فعل تجاه كل الفلسفات التخمينية التنبؤية، والتي أصبحت مناهجها تُعتَبَر جهازية واستنباطية، وقبلية جدا بالمقارنة بالطرق التجريبية الصارمة والموثوق بها.

طامحين لإكمال تراث نيبور وسافيني ورانك، استمر الجيل الجديد من التاريخانيين (درويسن، وديلثي وبركهارت) بنفس العداء تجاه الفلسفات التنبؤية، تابعين لسابقيهم، تحالفوا مع العلماء التجريبيين في التأكيد على أهمية التحقيق التجريبي المتدرّج والحاجة لمحاصرة كل الافتراضات الميتافيزيقية.

لقد ربطوا بين فلسفة التاريخ وبين الفلسفة المُبطَلَة تماما naturephilosophe أو فلسفة الطبيعة التنبؤية، درويسن و ديلثي وبركهارت رفضوا التوجّه التعميمي القبلي لفلسفة التاريخ، ووصفوه بأنه غير لائق بتفرّد الظواهر التاريخية، فبما أن كل ثقافة وعصر هو فريد من نوعه، فمن المستحيل وضع تعميم موثوق فيه ينطبق على كل العصور والثقافات. إذا عاملنا كل عصر وثقافة كغاية في نفسه، كما يتطلب التاريخ اللائق، عندها لا يمكننا أن نراه ببساطة كمسرح لتطوّر المنطق أو الأفكار؛ لهذا أكّد التاريخانيون الجدد على الازدواجية التقليدية، بين المنطق والتاريخ، ورجعوا إلى تراث شالدينيوس وقترير وويقلن المبكّر، لقد أكّدوا على أن التاريخ مميّز وغير متوقَّع بشكل جذري، وأنه لا يمكنه تحقيق  قوانين الكُليّة والضرورة المطلوبة من العلوم الطبيعية، مع ذلك، استمروا بالاعتقاد بأن التاريخ مازال بإمكانه أن يصبح علماً، لأن لديه مناهجه ومعاييره الخاصة، والتي لا تقلّ تجريبيةً عن تلك الخاصة بالعلوم الطبيعية، وأكثر تلك الجهود صرامة ومنهجية بصياغة وتوضيح هذه المناهج والمعايير تمثّلَت بأعمال درويسن وديلثي بآخر القرن التاسع عشر.

أُفول نجم  المثالية في أربعينات القرن التاسع عشر تخلّص من خصم واحد للتاريخانية، لكن بعد هذا بقليل، سينهض خصم أعظم خطرا منه، أعطى المخطّط التاريخاني أهمية وإلحاحاً خلال معظم سنوات القرن التاسع عشر.

في عام 1844م، في الطبعة الثانية من كتاب “العالم إرادةً وتمثُّلاً”، أضاف شوبنهاور فصلاً عن التاريخ، هاجم فيه مجرّد احتمالية أن يصير التاريخ علماً science، هجوم شوبنهاور مثير للاهتمام من وجهة نظر تاريخية؛ لأنه عاد للنقد القديم الذي عانى منه التاريخانيون منذ البداية، شوبنهاور أكّد على النموذج العقلي أو المنطقي التقليدي للعلوم، وأوضح كيف أن التاريخ يقع بعيداً جداً خارج هذا النموذج.

فبما أن التاريخ يتعامل مع المُفرَد، وبما أن العلم science معرفة كُليّة وضرورية، فإن المصطلح “علم التاريخ” a science of history، هو مصطلح متناقض ذاتيا. أضاف شوبنهاور أن كل المعرفة التاريخية مشروطة ومتأثرة بمنظور المشاهد ، أو الناقل وتفتقد للموضوعية المطلوبة في العلوم،  نقد شوبنهاور أعاد تنصيب النموذج أو التعريف القديم للعلوم الذي تمرّد عليه التاريخانيون، ومع ذلك كانت ضربته فعّالة بسبب تأثير فلسفته المتنامي بعد منتصف القرن، لقد كانت هجمته سَلَفاً مماثلاً لهجمة نيتشه اللاحقة على “الثقافة التاريخية”.

 

3-الأهمية الفلسفية والتاريخية :

حتى الآن قد يبدو بأن التاريخانية لاتهتم بأكثر من مناهج التاريخ، وبتحديد أكثر: السؤال حول ما إذا كان للتاريخ مناهجه الخاصة ومعاييره، بعيداً عن العلوم الطبيعية، لكن انطباعا كهذا هو انطباع مضلّل وخادع. فمع أن التاريخانية بدأت فعلاً كاستجابة لهذا الإشكال، إلا أنها ستكون غلطة كبيرة أن نقصر أهميتها على مسألة مناهج التاريخ وحدها، فآثار التاريخانية على نظرية المعرفة والأخلاقيات والسياسة- عميقة بقدر سعة هذه المجالات.

واحدة من أهم نتائج الجدل حول مناهج التاريخ، هو أنه بعدها بقليل تطوّر للسؤال الأوسع عن المعايير والمناهج الصالحة لدراسة المجتمعات والثقافات بشكل عام، بالنسبة لمعظم المفكّرين الألمان في القرنين الثامن والتاسع عشر، كان التاريخ نموذجا لكل العلوم الاجتماعية والدراسات الإنسانية، إن كانت مناهجه مختلفة عن مناهج العلوم الطبيعية، نفس الشيء يمكن قوله عن العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى، إذن، السؤال عن المناهج التاريخية طرح المشكلة الأعمّ بخصوص الأساس الفلسفي لكل الدراسات الاجتماعية والثقافية، وما إذا كانت مناهجها مختلفة بشكل جذري ونوعي عن مناهج العلوم الطبيعية.

المشكلة تمّ تعميمها لأول مرة بواسطة ديلثي الذي تساءل عام 1883م، عن الأساس الفلسفي للدراسات الإنسانية،  أعطى ديلثي للـ”تاريخ” المكانة الفخرية ضمن هذه العلوم، إلا أنه شمل بكلامه بشكل معلن كذلك: الاقتصاد، القانون، الأدب والفنون الجميلة.

نتائج وآثار التاريخانية تذهب أبعد من ذلك حين نرى الأمور من منظور تاريخي واسع، فقد سألت التاريخانية البحث المتواصل في الفلسفة الغربية؛ لإيجاد مبرّرات متعالية للقيم الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، كالسعي لإعطاء هذه القيم دعماً وتأييداً يتجاوز سياقها الاجتماعي أو الثقافي، تأييداً كهذا قد يكون دينياً بشكل مباشر وصريح (كالعناية الإلهية)، أو قد يكون لا دينياً ( كالقانون الطبيعي أو المنطق الإنساني) في أي من الحالتين، التاريخانية سألت مدى مصداقية وموثوقية مبرّرات كهذه.

الأهمية التاريخية للتاريخانية يمكن قياسها بشكل أفضل، بالنظر إلى خلافها مع التنوير، الذي سيطر على الحياة الفكرية في أوروبا خلال القرن الثامن عشر، برز نجم التاريخانية بأُفول نجم التنوير، لم تكن التاريخانية هي التيار الفكري الوحيد الذي حارب التنوير، لكنه كان الأكثر فاعلية، الهجمات الدينية والمتشككة على التنوير كانت متشتتة وضعيفة، لكن نقد التاريخانية للتنوير كان متواصلا وجديا، واستمر تأثيرهم بشكل جيد حتى القرن التاسع عشر، فبينما بدت الهجمات الدينية رجعية مع تطور العلوم، كان نقد التاريخانيين أكثر إيذاءً وتأثيراً لأنه بدا آتيا من علوم متقدمة.

من وجهة نظر تاريخانية، كانت مشكلة التنوير العامة، أنه بقي، بالرغم منه، متعلّقاً بعمق بتراث العصور الوسطى التي ادّعى أنه تجاوزها.

لاهوت العصور الوسطى طالَب دائماً بتأييد متعالٍ لكل القِيَم الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. ومع أن التنوير أزال هذا الاحتكار الديني لهذا التأييد أو التصديق المتعالي، إلا أنه استمر بطلبه بمصطلحات عالمية أكثر، سواء كان “القانون الطبيعي”، “العقد الاجتماعي”، “المنطق الإنساني الكلّي”، “الطبيعة الإنسانية الثابتة”، كل هذه المفاهيم بدت وكأنها تعد بموثوقية تتجاوز انبثاق التاريخ، تأييد يتعالى ويتجاوز مجرّد السياق الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي، كل مفكري التنوير – فرنسيون وألمان وانجليز- أرادوا إيجاد نقطة كلية وسرمدية يمكن من خلالها الحكم على كل المجتمعات والثقافات والدول، واحدة من أهم نتائج التاريخانية هو أنه لا يمكن إيجاد نقطة مماثلة.

فبالنسبة لتاريخانيين معاصرين كُثُر، أن تدّعي أن الأهمية التاريخية والفلسفية للتاريخانية أتت من خلافها مع التنوير يشبه أن تروّج لخُرافة قديمة،  فهؤلاء الباحثين المعاصرين احتجوا على ضد هذا بأن التاريخانية نشأت من المدرسة التدوينية والتأريخية داخل التنوير، وأوضحوا كيف أن العديد من مناهج ومعايير التاريخانيين اللاحقين كانت ظاهرة فعلاً في كُتّاب القرن الثامن عشر الذين كانوا محدودين داخل مدرسة التنوير، كذلك فقد كان هدف نقدهم الأساسي هو مانيك الذي طالما وضع التاريخانية كمعارض للتنوير، لقد رفضوا نموذج مانيك، لكونه موغل في التبسيط ومضلّل، وهم أيَّدوا فكرة أن يروا اتصالاً بين التنوير والتاريخانية بدلاً من خصومة.

ومع خطر أن أبدو رجعياً هنا، إلا أنني أتساءل إن كان هؤلاء الباحثين قد طوّروا حُججهم على الإطلاق، فهم قد انتقدوا مانيك باستخدام نقاط هو لم ينكرها قط، بل هو نفسه تكبّد جهدا عظيما ليوضّح أن للتاريخانية جذورها في التدوين والتأريخ التنويري، وهم أيضا تجاهلوا شهادة التاريخانيين الآخرين الذين اعتبروا مذهبهم الخاص معارضا للتنوير، ومع أن وجهات نظرهم ليست بالضرورة خالية من العيوب، إلا أنهم أوضحوا أن هذين الأمرين ليسا متزامنين، أخيراً، هم-الباحثون المعاصرون- أيضا خلطوا مسائل التاريخ بالمنطق، فلأن التاريخانية نشأت في التنوير، ليس من الضروري لهذا أن يعني وجوب قبول التاريخانية لقِيَم التنوير ومبادئه الأساسية، فالأدلة دامغة على أن رواد التاريخانية اختلفوا فعلاً بشكل مُعلَن، أو مستتر مقدّر مع بعض المبادئ الأساسية للتنوير.

وبما أن الأهمية التاريخية والفلسفية للتاريخانية تعتمد على خلافها وفرصتها مع التنوير، وبما أن الدراسات المعاصرة أهملت أو أنكرت هذا الخلاف، فمن المهم فحصها بشيء من التفصيل، دعنا ننظر لمقالتين أساسيتين عن عقيدة التنوير ولنرى كيف ساءلتها التاريخانية بشكل مُعلَن أو قوَّضتها بشكل ضمني.

مقالة أساسية عن العقيدة في التنوير كانت عن إيمان التنوير بـ “القانون الطبيعي”: بأن هناك معايير أخلاقية كُليّة تنطبق على كل الثقافات، هذه المعايير تمّ اعتبارها “طبيعية”؛  لأنها مبنية على طبيعة إنسانية كُليّة أو نهايات الطبيعة نفسها؛ ولأنها أيضا لا تعتمد على القوانين والتقاليد المُتفَق عليها بدولة مُحدّدة، لذا فمدرسة القانون الطبيعي لم تفترض فقط وجود طبيعة إنسانية واحدة على مر حقب التاريخ، بل افترضت كذلك وجود منطق إنساني كُلّي يفرض نفس القيم الأخلاقية على كل الثقافات والعصور.

من المهم إدراك أن التاريخانيين الرُوّاد في القرن التاسع عشر – رانك، درويسن، ديلثي، بركهاردت وسافيني – رفضوا مبدأ “القانون الطبيعي” علَنا أو ضمنا، لقد اعتقدوا أن هذا المبدأ قام بالتعميم الغير شرعي لقيم القرن الثامن عشر في أوروبا وكأنها تنطبق على كل عصر وثقافة، وبأنها استنَّت بشكل غير شرعي قيماً أخلاقية وسياسية لكل الثقافات، بغضّ النظر عن ظروفها الخاصة وتقاليدها وطريقتها بالحياة، لقد جادل التاريخانيون: لكي تعرف قِيَم عصر أو ثقافة، من الضروري أن تدرسه من الداخل، أن تفحص كيف تطوّرَت هذه القيَم من تاريخها وظروفها، من المستحيل أن تحكم على ما الذي ستصبح عليه قِيَمُه من نقطة وقوف خارجية، وكأنه بغض النظر عن الظروف والتقاليد، سيكون هناك طقم واحد من القِيَم لكل الناس،  كُلّما فحصنا القِيَم تاريخيا أكثر، جادل التاريخانيون، كُلّما وجدنا أن هدفها ومعناها معتمد بشكل تام على سياقها الخاص، على دورها المُحدَّد في الكل التاريخي الاجتماعي، وبما أن هذه السياقات فريدة من نوعها وغير قابلة للقياس، كذلك القِيَم بداخلها؛ لذلك يُصبح من المستحيل القيام بتعميم عن أي قِيَم سيعتنقها كل الناس بغض النظر عن السياقات الاجتماعية والتاريخية.

مقال أساسي آخر يتعلّق بعقيدة التنوير، كان عن إيمانها بقيمة النقد، وأننا يجب أن نفحص كل مُعتقدَاتنا بمجهر المنطق، ثم نقبلها أو نرفضها بناء على قوة أدلتها فقط، على هذا، فقد جعل التنوير من الاستقلال الفكري، فضيلة فكرية أولية.

وقبل الثورة الفرنسية بوقت طويل، قام بعض أوائل التاريخانيين بالتساؤل حول مطالبة التنوير بالمعتقدات العقلية المنطقية، هردر وموزر، على سبيل المثال، تساءلا إن كانت هذه المطالبة بالنقد الجذري قد فقدت ببساطة هدفها، فمع أن كثيراً من معتقداتنا سيتم إثبات أنها تعصّبات وتحيّزات بهذه الطريقة، إلا أنها كانت ضرورية للحياة وللإنجاز، لقد كانت مهمة ليس فقط لتحفيز الفرد، لكن أيضا لخلق ترابط اجتماعي واستقرار سياسي، علينا أن نقدّر معتقداتنا ليس بحسب متانة الدليل عليها، بل بحسب الدور الذي تلعبه في الحياة الأخلاقية والسياسية، وقد أوضح هردر الشاب أيضاً بأن الكثير من معتقداتنا، مع أنها على الأغلب بلا دليل، إلا أنها لا تزال ضرورية لجعل الناس سعداء، ولتعطي حياتهم تناغماً ومعنى، أما موزر فقد كان مقتنعاً أن الوهم بالغ الأهمية لنسيج الحياة الاجتماعية والسياسية، لقد رأى أنه لا بأس بأن نستخدم منطقنا للرؤية من خلال هذا الوهم، لكن أصرّ في الوقت نفسه، على أن هذا ليس سبباً كافيا لرفضه.

كتب مرّة : “الإنجليز عظّموا ملكهم وميّزوه عن الفانين العامّة، وألبسوه من أكثر أنواع الألبسة جلالاً وأُبّهة، ومع ذلك علِموا بعمق أنه كائن بشري كالباقين تماماً” .

مجادلات هردر وموزر في القرن الثامن عشر ستصبح لاحقاً فكرة هامة متكررة في التراث التاريخاني.

 

4-مشكلة النسبية :

في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، “التاريخانية” أصبحت مصطلحا مُستَهلَكاً؛ لأنها كانت غالباً تُعتَبَر معادِلة للنسبية: المذهب الذي يُقرّر أن القِيَم الأخلاقية والسياسية ليس لها صحة كُليّة عالمية، بل تصدُق فقط على العصر والثقافة التي نشأت بها، اكتسب المصطلح هذه التضمينات بشكل أساسي من معارضي” التاريخانية” خاصة هسرل والكانطيين الجدد (وندل باند وريكرت) مع هذا، يجدر بالملاحظة أنه لا يوجد “تاريخاني” بارز اعتبر نفسه “نسبيا” وكلهم كانوا حريصين على تفادي اتهام كهذا، يبحث المرء بلا طائل عن “نسبي” في قائمة التاريخانيين ولا يجده، مع أن المُتوقّع نظريا عكس ذلك.

ظاهريا، ربط “التاريخانية” بـ”النسبية” أمر مفهوم، يبدو وكأن هذا أثر مباشر لبعض المبادئ التاريخانية، واحدة من هذه المبادئ: رفض التاريخانية للـ”قانون الطبيعي”، والإصرار على أن الشخص بإمكانه الحكم على قوانين وسياسات دولة ما، من ظروفها الخاصة وتقاليدها.

جادل التاريخانيون أن هذه القوانين والسياسات لا يمكن تحديدها من الخارج تبعاً لنقطة فوق تاريخية، لكن فقط من الداخل، بحسب الظروف الداخلية والتاريخ، وبما أن الظروف الداخلية والتاريخية تختلف، فعلى التاريخانيين أن يقبلوا قوانين وسياسات مختلفة، بل حتى متعارضة للدول المختلفة.

لكن مع هذا، فإنه لم يكن محل اتفاق أن هذا المبدأ يؤدي للنسبية المطلقة، فمع أن القوانين والسياسات الخاصة ستختلف، لكن يظل بإمكانها أن تكون مجرد تفاوتات أو تفريعات من مبادئ عامة شاملة، وهذا كان بالفعل موقف العديد من التاريخانيين مثل : هردر، وريبرغ وديلثي، ودرويسن ،وبركهارت، الذين – برغم تأكيدهم على التغييرات والتفاوتات التاريخية- استمروا بالإيمان بمبادئ أخلاقية كُليّة، وبوحدة الطبيعة الإنسانية، فمن المهم أيضاً أن نبيّن بدقة دلالة نقد التاريخانيين للقانون الطبيعي، فنقدهم له لم يكن رفضا للمبادئ الكُليّة بحد ذاتها، بل فقط لتطبيقاتها العمياء والدُغمائية، فبينما أكّد التاريخانيون على صحة المبادئ الكُليّة، أصرّوا على أنه يجب تطبيقها بشكل مختلف تَبَعاً لاختلاف الظروف، المبادئ العامة تأخذ أشكالا خاصة مختلفة بحسب التقاليد المَحليّة والثقافة.

مبحث تاريخاني آخر ظهر وكأنه يستلزم “النسبية”: نقدها للتاريخ النفعي “البراقماتي” للتنوير، التاريخ النفعي يفحص الماضي من أجل الحصول على تعليمات أخلاقية، ولذلك فقد كان ملتزما بإعطاء حكم أخلاقي على الأحداث السابقة والثقافات، رفض التاريخانيون التاريخ النفعي؛ لأنه حَكَم على الماضي بمعايير الحاضر، كان مُتهما ب “التمركز العِرْقي” أو العنصرية: افتراض أن قيَم ثقافة الشخص نفسه، صحيحة بالنسبة للجميع، لكن بينما كان التاريخيون النفعيون يتظاهرون بأنهم يحكمون على الماضي بحسب معايير المنطق الكُلّي، كانوا عملياً يحكمون عليهم بناءاً على تعصُبات وتقاليد عصرهم الحالي، كانت مبادئهم” الطبيعية” أو الكُليّة ظاهريا، ما هي إلا تعميمات غير شرعية لقِيَم ثقافتهم، ثقافة أوروبا القرن الثامن عشر، الحالة النموذجية لهذه المغالطة، كانت حُكم فولتير على العصور الوسطى في كتابه “عصر لويس الرابع”، الذي أدان فيه العُبّاد والقديسين؛ فقط لأنهم لم يكن لديهم قِيَم ووجهات نظر أرستقراطي فرنسي بأواخر القرن السابع عشر.

لكن هنا أيضاً، مع ذلك، ليس من المُتفَق عليه أن هذا المبحث التاريخاني يؤدي لنسبية مطلقة أو جذرية، فالتاريخانيون لم يدّعوا أن كل الأحكام على الثقافات الأخرى هي “مركزية العرق” أو عنصرية، فقط قرّروا أن بعضها هو كذلك فعلاً، وأننا يجب أن نكون حذرين كي نلمس الفرق، فمبدأ: عدم الحكم على الماضي من منطلقات الحاضر، لهو بحد ذاته مبدأً أخلاقي، الإشكال كُله تم تجميعه بشكل جيد في محاضرة متأخرة لرانك ألقاها وهو متقدم في السن، فبينما أكّد رانك على أن التاريخي أو المؤرّخ يجب أن يحاول أن يكون موضوعيا ومحايداً، وأن يرقى فوق الخلافات الحزبية، إلا أنه اعترف بأن للتاريخي مبدأً أخلاقياً خاصاً به: أن يحاول أن يُنصِف كل الكينونات الدينية والأخلاقية.

مع ذلك، يبقى السؤال، كيف يمكن للتاريخانيين التبرير أو التقعيد لمبادئهم  المعنوية أو الأخلاقية؟ بما أنهم أرادوا أن يُأكّدوا صحتهم الكُليّة، كيف يمكنهم الدفاع عن هذه المباديء، خاصة في وجه التغيرات، والاختلافات التاريخية؟

لكن في هذه النقطة بالذات ارتبك التاريخانيون، فبما أنهم رفضوا “القانون الطبيعي” أصبحت الكُرَة الآن في ملعبهم، كان عليهم هم الآن أن يُطوّروا تبريرا أو تعليلا للمبادئ الأخلاقية، لكن قلائل منهم أجابوا عن السؤال بشكل مباشر، يجب أن نتذكر أن معظم التاريخانيين كانوا مؤرخين متمرّسين بدلا من فلاسفة، اهتمامهم الفلسفي كان محدودا بشكل كبير على مشاكل المعرفة التاريخية، وأعطوا اهتماما قليلا للأخلاق وما شابهها، إيمانهم بالمبادئ الأخلاقية بدا أنه يعتمد في معظمه على اعتقادهم بطبيعة إنسانية ثابتة ومُوَحَّدَة، لكن من الصعب أن نرى كيف لهذا المفهوم أن يصبح أي شيء أكثر من إيجاز فارغ بعد أن يتخلّص المرء من كل الاختلافات المُمَيِّزة بين الأشخاص في التاريخ، فهم لم يقبلوا حلّ هيقل للمشكلة: أن كل العصور في تاريخ العالم هي محاولات لإدراك أو فهم هدف كوني كُلّي واحد، رفضوا هذا المبدأ لكونه تنبوئي جداً، وبما أنهم أصرّوا على معايير تجريبية للأدلة، شككوا بإمكانية إيجاد أدلة كافية لإيجاد قوانين لتاريخ العالم، ماذا بقي إذن؟ كان لدى رانك ودرويسن إجابة، مع أنهم اعترفوا بأنها إجابة شخصية: العقيدة المسيحية. كلاهما أكّدا على الإيمان بالعناية الإلهية، أن الله يوجّه التاريخ لما فيه خيرنا، مع أن كل ما لدينا هو مُجرّد لمحة لطُرقِه الخفيّة، لكن هذه الإجابة كان من المُتَوقَّع لها أن ترضي المؤمنين المسيحيين فقط، بالنسبة لأي أحد آخر: ترك التاريخانيون فراغاً أخلاقيا، مشكلةً بلا حلّ، ومع أنهم لم يكونوا مذنبين بالاتفاق مع النسبية، إلا أنهم لم يكن لديهم تفسير عن كيف يمكن الجمع بين الإيمان بأخلاقيات كُليّة، وبين مبادئهم العامة.

أكثر التاريخانيين معاناةً مع مشكلة “النسبية” كانوا هم أكثرهم ميلاً للفلسفة: ديلثي، جعل المشكلة موضوعا محورياً في مخطوطة مؤخرة له، هدف المخطوطة كان حلّ التضاد بين ادعاء كل نظرة للعالَم للصحة الكُليّة الكونية مع الوعي التاريخي، المشكلة كما صاغها ديلثي هي: أن كل نظرة ميتافيزيقية أو علمانية تدعي الصحة الكُليّة، تُحاول أن تحلّ بطريقة ممنهجة بواسطة المنطق، “لغز الحياة أو العالَم” لكن “الوعي التاريخي” يوضّح أن كل منظورٍ للعالَم هو نتاج ظروف تاريخية معينة.

هذا يعني أن صحته كذلك محدودة بالظروف التي تحيط به: “فما هو مشروط بالظروف التاريخية، هو نسبي في صحّته”،  “تاريخ العالَم كحكم على العالَم يجعل كل منهج ميتافيزيقي نسبياً، عابرا وزائلاً” ،كيف من الممكن الهرب من هذا التضادّ؟ حلُّ ديلثي للمسألة هو أن يحلّها داخل نطاق الوعي التاريخي، إن كان التاريخ هو ما تسبب بالجرح، فهو الذي سيعالجه،  جادَل ديلثي: كلما فحصنا تطورات الأنواع المختلفة للمنظورات للعالم worldview، (قد يقصد هنا الفلسفات التي تفسر العالم) في التاريخ، كلما وجدنا أن كل واحدة منها تعبّر عن حياة واحدة لكن تحت ظروف مختلفة، كل واحدة منها قد تكون صحيحة؛ لأنها ترى جانباً واحدا من الكون، تُشكّل منظورا واحد له، لكن كل واحدة هي أيضاً بجانب واحد فقط، ويجب أن تُزَوّد بالأخريات لتحصل على الحقيقة كاملة، لا يوجد تناقض بينها طالما أدركنا أن كل واحدة قد تكون صحيحة من منظورها فقط.

كان حلُّ ديلثي مُشكلاً وهزيلاً، فبضمانه لكل نظرة للعالم صحة نسبية، ضيّع ديلثي الادعاء بوجود الصحة الكُليّة، وهو ما كان ينوي حفظه من الأساس بهذا الحل.

كان تحديداً هذا الجانب من تاريخانيته الذي سيصبح لاحقاً هدفاً لهجوم الكانطيين الجُدد علي، تبعاً لهذا جادَل ويندل باند وريكرت على أن الطريقة الوحيدة لتفادي هذه النسبية هو ترك النطاق التاريخي تماما ودخول المجال “المتعالي” transcendental، لقد أكّدوا على أنه كان من المهم التفريق بين سؤالين، تمّ الخلط بينهما بشكل تام من قِبَل ديلثي، أحدهما: “التساؤل الجيني” الذي يتعلّق بأصل معرفتنا، والآخر هو: “السؤال النقدي”critical question، والذي يتعلّق بصحّة المعرفة. عندما جادَل ديلثي بأن” ماهو مشروط بالظروف التاريخية، هو نسبي في صحّته “،كان مذنباً باستنتاج غير متفق مع المقدّمات، أتى تحديداً من خلطه بين هذين السؤالين، فعندما نتعامل مع سؤال الصحّة، كما جادل وندلباند وريكرت، لا يجب أن نهتم بالتاريخ على الإطلاق، يجب أن نهتم فقط بشأن الدليل والعلاقات المنطقية، استجابةً لهذه الانتقادات، احتجّ ديلثي بأن النطاق المتعالي للكانطيين الجُدد كان خيالاً، رمزا، وبأنه يستحيل التفريق بين السؤال النقدي والجيني.

النزاعات الكلامية بين ديلثي والكانطيين الجُدد -، والتي لا يمكننا بسطها هنا أكثر من ذلك- ، كانت واحدة من أكثر النزاعات إثماراً ومصيرية في تاريخ فلسفة بدايات القرن العشرين.

 

5- أزمة التاريخانية :

في العقد الأول من القرن العشرين، بدأ الدارسون في ألمانيا بالكتابة عن “أزمة التاريخانية”، لقد طوّروا هذا المفهوم لشرح هذا الانهيار المُحيّر للتاريخانية كحركة فكرية، كانت التاريخانية واحدة من أقوى الحركات الفكرية في ألمانيا القرن التاسع عشر، لكن بنهاية القرن بدا وكأنها استهلكت نفسها، فقدت كل ثقتها بنفسها، وبعد الحرب العالمية الأولى، كان قد بقي فقط أن تُكتَب مرثيّتُها لتنتهي.

مالذي حدث؟ مالذي أدّى لانهيار واحدة من أكثر الحركات الفكرية أهمية وتأثيراً في عصرنا الحديث؟

هناك تعليلات كثيرة لأزمة التاريخانية، ولأنها تختلف كثيراً؛ فمن الدقة أن نتكلّم عن “أزمات” بالجمع، هنا كل ما يمكننا فعله هو أن نسجّل هذه التعليلات، فبحسب نظرية رائجة، أتت أزمة التاريخانية من النسبية المُتَضَمَّنة في منهج التاريخانيين بخصوص القِيَم الإنسانية،  إن كانت القِيَم هي نتاج سياقات تاريخية واجتماعية مُحدّدة، وإن كانت هذه السياقات فريدة من نوعها وغير قابلة للمقايسة، يظهر بأن لا وجود لقِيَم إنسانية كُليّة، وكأنها لا يمكن أن تحظى بأي تأييد متعالٍ يتجاوز سياقها الحالي، فبما أن التاريخانية كانت تُعتَبَر نسبية بآثارها ونتائجها، تمّ اعتبارها كذلك مصدرا أساسياً للعدميّة، الشعور بانعدام معنى الحياة، والتي أصبحت رائجة لاحقاً بسبب نيتشه.

أما بحسب نظرية أخرى، أزمة التاريخانية كانت لها جذور تعود لهجوم شوبنهاور ونيتشه على القِيَم والثقافة التي تقوم عليها، فمع أن نقد شوبنهاور لم يكن أكثر من تكرير للاعتراض القديم ضدّ التاريخ كـ”علم” إلا أنه كان فعّالا لتنامي تأثير فلسفته بعد منتصف القرن، أما أعمال نيتشه فلم تحصد اهتماما فوريا كبيراً، إلا أنها أصبحت أكثر تأثيراً مع الوقت، وصار لها ثقلها بالنسبة لجيل ما بعد الحرب.

وبحسب نظرية ثالثة، أزمة التاريخانية بدأت في نهايات القرن التاسع عشر، مع منشورات كارل لامبرخت، التي دعمت مفهوما للتاريخ بالاستناد على العلوم الطبيعية، لامبرخت آمن بأن التاريخ يجب أن يُوجِد قوانين عامة “للسبب والنتيجة” ،كالعلوم الطبيعية بالضبط، وفي صدد الدفاع عن منهجيته، أقام لامبرخت حملة هجوم على مناهج أهم التاريخيين في عصره (فردريك مانيك، ماكس دلبرك، أوتو هنتز، ماكس لنز، هرمان أونكن وجورج فون بلو)، والذين نشأوا في المدرسة التاريخانية، كانت النتيجة مناظرات لاذعة بين لامبرخت وبلو، بخصوص مناهج التاريخ، وبينما أنتجت هذه المناظرات سخونة أكثر منها ضوءاً، ومع أنها بالتأكيد لم تُطِح بهيمنة التاريخانية، إلا أنها أرغمت التاريخانيين على أن يفكروا بشكل أكثر دقّة ونقديّة بشأن مناهجهم، النتيجة النهائية للمناظرات، كانت محاولة وندلباند وريكرت صياغة مناهج الدراسة التاريخية، والاختلافات بينها وبين العلوم الطبيعية.

نظرية رابعة عن أزمة التاريخانية تربطها بانهيار محاولاتها لإيجاد معنى، أو نظام أو تطوير في التاريخ، السبب الرئيسي لهذا الانهيار؛ جاء من حسابات ما بعد الحرب، الإحساس العام المنتشر بأن ملايين الحيوات الشابة تمت التضحية بها؛ من أجل قضية خاسرة وبلا سبب واضح، ومع أن التاريخانيين كانوا متشككين بأن البحوث التاريخية ستتمكن على الإطلاق من دعم الادعاء بـ: التاريخ الكُلّي، إلا أنهم لم يفقدوا أملهم قط بالتطوّر، بعض التاريخانيين الرواد الألمان – مانيك وترولتس- كانوا قوميين ليبراليين آمنوا بشدّة بقِيَم دولة ألمانية مركزية قوية، يمكنها أن توجّه التاريخ إلى طريق يؤدي إلى حرية و مساواة ورفاه أكثر بكثير، لكن التصرفات الفعلية لهذه “الدولة الألمانية” أثناء الحرب، دمّرت هذا الإيمان بشكل تام، فبدلاً من أن تقود الأُمّة الألمانية نحو حرية وسعادة أكبر، قامت الدولة الألمانية بنحر جيل كامل من أجل قضية مفلسة.

بحسب نظرية أخيرة، جاءت أزمة التاريخانية من تناقضاتها الداخلية، تحديداً من التعارض بين مبدئها بشأن المعرفة الموضوعية، وبين إيمانها بالقوة التغييرية للتاريخ، فبعض التاريخانيين افترضوا مبدأً للمعرفة الموضوعية، وكأن التاريخي بإمكانه بطريقة ما أن يقف فوق كل تحولات التاريخ، ويُحدّد الحقيقة الصافية بغض النظر عن كل القِيَم والمفاهيم المسبقة، مع ذلك، فالتاريخانية نفسها أوضحت بأن نموذجا كهذا للمعرفة هو نموذج ساذج.

التوتُّر واضح: إن كانت كل مواقف البشر معرّضة للتغيير الثقافي والتاريخي، كيف يمكن للمؤرّخ أن يكتب تاريخاً موضوعياً محايداً؟ فموقفه يجب أن يكون عرضة لظروف وأحوال ثقافته وعصره، ليصير المؤرخ نفسه أيضا عالقاً بشبكة نسبيته.

أي واحد من هذه التعليلات هو الصحيحة؟ كلهم، ولا واحد منهم في الوقت نفسه.

كلُّهم؛ لأنها جميعاً تشير لمشكلات حقيقية في التراث التاريخاني ولا واحدة؛ لأنه ليس بإمكان واحدة منها أن تفسّر اختفاء التراث التاريخاني، وراء كل تعليلات أزمة التاريخانية، كان هنالك ذلك الافتراض المضمر بأن التاريخانية اختفت بسبب عيب مأساوي عميق، أو تناقض ذاتي ما، مع ذلك فهناك تفسير أبسط بكثير، هنا نحتاج فقط لأن نتذكّر المشروع الأصلي للتاريخانية: جَعْل التاريخ “علماً”، في محاولتهم لتنفيذ هذا الهدف، كان التاريخانيون ناجحون بشكل ملحوظ، على الأقل هم جعلوا التاريخ مادة أكاديمية، معترفا بها ويتمّ تدريسها في كل الجامعات، ولها نفس برستيج العلوم الطبيعية، وعلى المشككين أن يأخذوا بعين الاعتبار فقط بروز التاريخ كمجال أكاديمي في ألمانيا منذ بداية الحركة في منتصف القرن الثامن عشر.

إذن سبب موت التاريخانية بسيط؛ وهو أنها حققت ما كان هدفها الأصلي، لم تعد التاريخانية تحتاج لأن تظل موجودة أكثر من ذلك، لم تكن التاريخانية فشلاً بائساً، بل كانت نجاحا مدهشاً، وبما أنها استمرت بالتأثير الكبير حتى لاحقا، فهي لم تمت فعلا على الإطلاق.

 

6- دراسة التاريخانية:

على كل من يريد الصعود على ظهر دراسة التاريخانية أن يكون حذراً؛ لإنه سيدخل حقل ألغام فكري، الكلمة “تاريخانية” بحد ذاتها تشكّل خطَراً، إحدى هذه المخاطر مفارقة زمانية، فـ”التاريخانية” أصبحت معروفة كمصطلح تاريخي، يشير لتراث فكري مُحدّد- فقط في ثلاثينات القرن العشرين، بعد نشر كتاب فريدريك مانيك عن التاريخانية، تابعاً لخُطى ديلثي، تتبع مانيك أصول التاريخانية، حتى كُتّاب القرن الثامن عشر كمونتسكيو، و هردر، و موزر، و غوته، رأى أن ذروة التاريخانية وقمّتها تمَثّلت بأستاذه: ليوبولد فون رانك، يجدر الملاحظة هنا أنه لا أحد من هؤلاء المفكّرين كان سيشير لنفسه بـ “تاريخاني”،  بل من المُرجّح أن قلائل منهم كانوا قد سمعوا بالكلمة أصلاً، عندما أُطلِق لقب “تاريخاني” على ديلثي بواسطة أحد ناقديه، رفض ديلثي هذا التصنيف بشدّة بسبب ارتباطات هذا اللقب العدمية والنسبية.

خطر آخر يكمن وراء المصطلح “تاريخانية”، هو أنه اكتسب معانٍ متعارضة؛ لأنه قد استُخدِم للإشارة لمنظورات مختلفة تماماً للتاريخ، فبحسب أحد هذه المنظورات، الهدف من التاريخ هو معرفة القوانين العامة أو نتائج التاريخ ومآلاته، غرضه إيجاد نظام، أو وحدة ما وراء فوضى الماضي.

وبحسب المنظور الآخر، غرض التاريخ هو معرفة الحدث الواحد، أن يقيس عُمق المتفرّد والغير كُلّي؛ فهو يرفض إمكانية اكتشاف قوانين أو مآلات عامة للتاريخ بواسطة أبحاث دقيقة ومُفصّلة، فمع أنه من الممكن لهذه القوانين والمآلات أن توجد، إلا أنه من المستحيل بالنسبة لنا أن نعرفها بواسطة البحث التجريبي، المنظور الأول تمثّل في هردر والمثاليون الألمان، الذين طوّروا فلسفة منتظمة للتاريخ، أما المنظور الآخر فتمثّل في رانك، ودرويسن، وديلثي، وبركهارت، الذين رفضوا مجرّد إمكانية فلسفة منتظمة للتاريخ، والذين أكّدوا على أهمية تفرُّده، كلا المنظورين تمّ تسميتهما ب “تاريخانية”؛ لأنهما يركّزان على أهمية التاريخ لفهم الحياة الإنسانية والأحداث، ولأنهما يدعيان أن مناهج ومعايير التاريخ يجب أن تكون متميزة عن تلك الخاصة بالعلوم الطبيعية، وبالرغم من مبادئهم المشتركة، هاتين المدرستين كانتا غالباً على خلاف مع بعضهما البعض، بما أن درويسن، ورانك، وديلثي، وبركهارت، كانوا على عداء عميق مع فلسفات هيقل وفيخته للتاريخ، التي اعتبروا أنها أرغمت التاريخ -بغناه بالأحداث وبالتفاصيل-، على الدخول في قالب مفهومي موحّد.

تاريخ الكلمة “تاريخانية” يعطي أوضح إيجاز واختصار لما يمكن سرده هنا، ويعكس بعض هذه الارتباكات، الادعاء المنتشر من أنه كان لها في البدء معنىً ازدرائياً مسيئا كان خاطئاً، فقد ظهرت الكلمة في نهايات القرن الثامن عشر في كتابات الرومنسيين الألمان، والذين استخدموها بحسّ محايد، في عام ١٧٩٧م فريدريك سكليقل استخدم “تاريخانية”؛ ليشير إلى فلسفة تُشدّد على أهمية التاريخ، لاحقا ظهر نفس الاستخدام في كتابات نوفالي، المصطلح أصبح أكثر استخداماً بحلول منتصف القرن التاسع عشر بيقظة “الهيقلية”، يجدر التنبيه على أنه بهذا الوقت قد تم استخدام الكلمة بمعنييها المذكورين آنفاً، لهذا ففي ١٨٤٧ م قام سي. جي برانيس بقيادة “تاريخانية” ،تحاول أن تكتشف قوانين التاريخ العامة، واعتبر “التاريخانية” مضادة للـ”طبيعانية” : فبينما تحاول الطبيعانية تفسير كل ما في الواقع، بما في ذلك التاريخ بحسب قوانين طبيعية، التاريخانية تحاول تفسير كل ما في الواقع بما في ذلك الطبيعة باستخدام قوانين تاريخية، مع ذلك، ففي عام ١٨٥٢م ،كتب كارل برانتل عن “التاريخانية الحقّة”، التي تميّز التفرُّد التاريخي الصلب، وجعلها متعارضة مع الفلسفات التنبؤية للتاريخ، التي تطمح لإيجاد وصياغة قوانين عامة. بحلول منتصف القرن، الاستخدام الأكثر انتشارا للمصطلح كان ذلك الذي يشير لمناهج المدرسة التاريخية للقانون، كان فقط بحلول نهايات القرن حتى اكتسب المصطلح معناه المهين والمسيء،  عندما وصف سياسييَن عالمين بالاقتصاد – كارل منقر ويوقين دهرنق- التاريخانية، بأنها التجاهل الغير مُبرَّر للنظرية من أجل التاريخ، ولم يحدث إلا بعد الحرب العالمية الأولى أن أصبحت التاريخانية مفهوما منتشرا مثيرا للنقاش وللجدل، لقد كان إرنست ترولتز هو من جعل الاسم ذا سمعة سيئة بكتابته عن “أزمة التاريخانية”، وصف التاريخانية بأنها ” تأريخ أو” أرنخة” hostiricization جميع معارفنا وخبراتنا للعالم الروحي، وكأنها حدثت في نطاق القرن التاسع عشر”، في عام ١٩٣٢ م لاحظ كارل هسي معانٍ أو مفاهيم مختلفة للمصطلح “تاريخانية”، منتشرة في الخطاب الفكري الألماني:

  1. الدراسة المتخصصة للتاريخ، من أجله هو لذاته، بغضّ النظر عن الفوائد العملية.
  2. أي محاولة لسحب التاريخ وجعله يتجاوز حدوده المناسبة له داخل النطاق العام للخطاب الفكري.
  3. معنى تاريخي محايد، يشير لحركة فكرية معينة في القرن التاسع عشر.

لقد كان ثالث المعاني وأكثرها حياداً، هو الذي تسيّد بالنهاية، ومايزال مُستَخدَما إلى اليوم.

بعيداً عن المزالق المحيطة بالمصطلح “تاريخانية” ،هناك مشاكل كبيرة أخرى تواجه دارس التاريخانية، ليس آخرها أن الموضوع مثير جدا للجدل، فالنزاعات بشأنه كثيرة، من أهمها ما اختص بشأن مفهوم التاريخانية نفسه، فهناك تناقض قديم ناتج عن الاستخدامات المتعارضة للمصطلح الموضحة أعلاه، التناقض يعكس انقساما ثقافياً ولغوياً، بما أن أحد المفاهيم للتاريخ هو رائج في العالم الـ”أنقلوفوني” أو الانجليزي، والآخر في العالم ال”جرماني”،  معنى التاريخانية في العالم الأنقلوفوني المعاصر تم تحديده بواسطة كارل بوبر في كتابه “فقر التاريخانية”، عرّف بوبر التاريخانية على أنها [مقاربة للعلوم الاجتماعية تفترض أن التوقعات التاريخية هي هدفها الرئيسي، وتفترض أن هذا الهدف قابل للتحقيق باكتشاف” الوتيرة” أو” الأنماط ” أو”القوانين ” أو” المسار”، الذي يوجّه تطوُّر التاريخ]

مهاجماً أي محاولة لإيجاد قوانين أو وجهات للتاريخ، أيّد بوبر مقاربة من شأنها أن تُقدّر الفريد من نوعه والوحيد والخاص : “بودّي أن أدافع عن المنظور الذي يهاجمه التاريخانيون غالباً بوصفه رجعيا وقديم الطراز، أن التاريخ يتميز باختصاصه بالواقعي، والمفرد والمُحدّد من الأحداث، لا بالقوانين والتعميمات”

إنه استخدام بوبر هذا للكلمة، هو الذي نسخته القواميس لاحقاً وحُفِر بأذهان علماء الاجتماع” الانقلوفونيين”.

المشكلة الأساسية بمفهوم بوبر للتاريخانية هذا، هي أنه ضيّق و غير شامل، ينطبق فقط على مرحلة واحدة، أو فرع واحد من المدرسة التاريخانية، كما رأينا فالمصطلح “تاريخانية”، قد تمّ استخدامه أيضاً لوصف حركة فكرية انتقدت المحاولات لإيجاد قوانين عامة للتاريخ، وأكّدت على فردانية أحداثه، ومن العجيب الساخر، أن الكثير من “تاريخانيي” القرن التاسع عشر التقليديين، كانوا سيرفضون ما سماه بوبر بـ”تاريخانية”، وكانوا سيفعلون ذلك استناداً لأسباب “بوبرية”!، فبالنسبة لهذه المدرسة، هجاء بوبر لفلسفات التاريخ،  كان سيُعتَبَر لزمة قديمة مكرّرة بالطبع للسيد  كارل، – مثل همبتي دمبتي – حق أن يجعل الكلمات تعني ما يريده لها من معانٍ، لكن الطريقة “البارونية” التي استغلّ بها هذا الحق، وتأثيره الضخم في العالم الأنقلوفوني قادتا إلى سوء فهم عام لها،  بعد أن “دحض” بوبر التاريخانية اعتقد الناس أن مدرسة أخرى، تحمل الاسم نفسه لسوء الحظ، قد ماتت ودُفِنَت.

أما مفهوم التاريخانية في العالم الجرماني، فقد تم تشكيله إلى حد كبير بواسطة أطروحة مانيك “التاريخانية: بروز منظور تاريخي جديد”، مانيك أعلن أن التاريخانية كانت “لا شيء أكثر من تطبيق المبادئ الجديدة للحياة، والتي تم اكتشافها في الحركة الألمانية العظمى من ليبنز إلى جوته على الحياة التاريخية”، لقد كان هناك مبدئين لها: التفرُّد والتطوير، قانون التفرُّد: يعني أن أحداث التاريخ وشخصياته، يجب أن تتم دراستها بكل خصوصية وتحديد ومن أجل ذواتها، ومتبعا لخُطى رانك، مانيك أيّد أن التاريخ لا يشبه العلوم الطبيعية؛ لأن خصائصه تهدف لإفراد وتمييز الأحداث المميزة،  أما مبدأ التطوير: ينص على أن كل النشاطات والمؤسسات الإنسانية تتغير وتتطور في التاريخ، وبأنها جميعاً يجب أن تُفهَم داخل عملية تطوير، بجانب هذه المبادئ، مانيك كان يركّز على خاصية ثالثة للتاريخانية : اللاعقلانية، سمى التاريخانية “لا عقلانية”؛ لأن الفرد أو المفرد – الذي هو الموضوع الخاص للبحث التاريخي- ،ممتنع عن الوصف.

فبينما قد يحاول التاريخي بالفعل أن يصف المُفرَد، إلا أنه سيعترف أيضا بأن أياً من وصوفه لن تستوعبه، سيبقى شيء ما في المفرد عصياً على التحليل والشرح إلى الأبد، المبدأ الثالث كان لضمان مانيك لاستقلال التاريخ أو لحكم “التاريخ” نفسه، استقلاله عن الفلسفة والعلوم الطبيعية، فـ “لا وصفية” المفرد عنت أن موضوع التاريخ هو من نوع خاص، وبأنه لن يختفي قط في أمواج المفاهيم الفلسفية،  أو القوانين الطبيعية.

مفهوم مانيك للتاريخانية لم يكن أقل إشكالاً من مفهوم بوبر، فأولاً مفهوم الإفراد والتطوير، هو إما مُجمَل أو مبهم، مفهوم الإفراد هذا مُجمَل، محتمل لعدة معاني، فهو قد يحتمل الجزئي المُحدَّد، وقد يحتمل أيضاً الكُلّ الغير قابل للاختزال، التي تنتمي إليه جزئيات محدّدة كثيرة، مانيك يتنقل باستمرار بين هذين المعنيين، لإرباك قرائه الذين اعتقدوا أولاً أن موضوع التاريخ هو أفراد البشر، فقط ليكتشفوا لاحقاً أنه يعني كذلك الدول والثقافات والعصور، أما مفهوم التطوير فمُبهم، فعندما تم دفعه أخيراً لتعريفه في سنواته الأخيرة، قام مانيك بإعطائه نكهة “هيقلية”، وضّح بأن التطوير هو أكثر من مُجرّد الأفعال الطوعية الواعية للأشخاص، إنه يرتبط كذلك بمسارات وتوجهات التاريخ ككل، والذي يشكّل الأفراد فقط جزءاً منه، التطوير هو فعلاً إدراك “الروح المميزة” لعصر ما، لكن إن كان هذا هو ما يعنيه التطوير، فهو بعيد جداً عن أن يتم الاتفاق والتأكيد عليه، من قِبَل جميع التاريخانيين، فبعضهم أنكروا ورفضوا كون التاريخ أكثر من أفعال أفراد محدّدين، ومعظمهم رفضوا إمكانية معرفة مسارات أو اتجاهات عامة للتاريخ.

هناك إشكالين آخرين بمفهوم مانيك، أولاً:  أنه من الخطأ تصنيف التاريخانية كـ “لا عقلانية” irrationalist، سواء كان هذا التصنيف صراحةً أو ضمناً، فمانيك تجاهل المحاولات في المدرسة التاريخانية لتطوير نماذج تفسيرية بديلة للنماذج الخاصة بالعلوم الطبيعية، خاصة الدور المحوري للهرمينوطيقيين، المتمثّل بأعمال بوخ، ودرويسن،  وديلثي. المدرسة الهرمينوطيقية حاولت تفادي المأزق، الذي يحصر الاختيارات بين التفسير “اللاعقلاني” أو “الطبيعاني”، بتكوين نموذج آخر للفهم عن طريق تأويل النصوص.

ثانياً: أطروحة مانيك المحورية أن المدرسة التاريخانية ببساطة طبّقت قوانين الحياة، على العالَم التاريخي هي غلطة، فدرويسن، وديلثي رفضا بشكل واضح و مُعلَن تطبيق المفاهيم العضوية على التاريخ، معلّلين ذلك؛ بأنه ليس من الممكن لها تفسير ماهو خاص ومميز بالتاريخ، تابعين لخطى هيقل هنا، قاموا بعمل تفريق حاد وواضح بين نطاقي الحياة والتاريخ، التاريخ كان نطاق الأرواح، والتي لا تعني ببساطة: الحياة، بل الوعي الذاتي بالحياة،  بالنسبة لدرويسن، وديلثي، لا تزال الأمور العضوية تنتمي إلى مجال الطبيعة، والتي لم تصبح بعد تاريخاً، مصدر خطأ مانيك واضح جداً للعيان: لقد جعل من رانك – أستاذه- النموذج الوحيد للتاريخانية، مبدأي التفرّد والتطوير ينطبقان بالضبط على رانك، لكن رانك ليس تعريفا للتاريخانية.

يجب أن يكون واضحا الان من هذه الاستقصاء الموجز، أن دراسة التاريخانية هي التزام خطر، لقد حاولت أن أشير لبعض أسوأ المزالق،  لكني آمل أن يكون من الواضح أيضاً أن دراسة التاريخانية – في العالم الجرماني، كما في العالم الأنقلوفوني كذلك- مازالت في مهدها، التاريخ اللائق بالتاريخانية -كما كان مانيك نفسه سيعترف طوعا بهذا- لم يُكتَب بعد.

لذلك، فأخيراً، على الأقل بالنسبة للدارسين المستعدين والحذرين، دراسة التاريخانية تعد بفُرَص أكثر بكثير مما تعد بمشاكل.

 

المصدر: The Oxford Handbook of Continental Philosophy, Edited by Michael Rosen and Brian Leiter .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى