الفلسفة

الإشكالُ الفلسفيّ في سعينا نحو الأصالة

  • تأليف : دانيال كالكوت – Daniel Callcut
  • ترجمة : محمد صديق أمون
  • تحرير : خلود بنت عبدالعزيز الحبيب

– – – – – – –

“فلتُصبحْ مَن أنت”، يقول نيتشه.

إن كانت فكرةُ الصعود الاجتماعيّ قد شغلت النّاسَ أيّام الثمانينيّات، فالصرعة الشاغلة هذه الأيّام هي الأصالة. هذه الفكرةُ المسيطرةُ الداعيةُ للتصالح مع النّفس، وإبقاءها على سجيّتها، قليلاً ما يُلتفتُ إليها بلحاظ ناقدةٍ. لكن ماذا لو أنَّ فحوى هذه الدعوى تُعيقُ التغيّرَ الفرديّ، وتزيّن للجميع أن يبقوا مراوحين في أماكنهم؟ أيكونُ سلوكُ الأصالة بمعنى ما أكثر محافظةً من خطاب الحرصانيّين[1] [حرصاني=حرفي صاعدٌ اجتماعياً ناشئ] التاتشريّين[2] الذي ذاع من قبل؟ أرى أن قد حان وقتُ البحث في كون فكرة الأصالة هذه حَجَر عثْرة في طريق الطموح والتقدم.

سنستهلُ بحثَنا بالفلسفة الأخلاقيّة، معرّجين بعدها على رحلتي من صبيّ ينتمي للطبقة العاملة إلى أستاذ جامعيّ، ثم سننظر في أشياء كثيرة بدءاً بالاعتداد بالنّفس وصولاً إلى بوريس جونسون و دونالد ترامب. وسنعاين حتّى كيف يمكن للأصالة أن تسبب مشكلاتٍ في النّهوض من السرير كلَّ صباح. هيّا بنا

لنقل أن شريكتك سألتك “هل تستطيعُ أن تمرَّ على بيتربره لتستلم جوازَ سفري”؟ وأنّك قد أجبتَ بكل ما تستطيع من إيجابيّة “سأسرُّ بفعل ذلك”. لكنّك لستَ مسروراً حقاً، بالطبع تريدُ أن تساعدَ، لكن في قرارة نفسك تفضّل الذهابَ مباشرةً إلى البيت. يمكنُ القول أنّك بفعلك هذا تكون قد اجتزت عتبة اللاأصالة. على كل حال، لنا أن نتصوّر أنّها لن تدع الأمرَ يمرُّ هكذا وستقول لك: “لا تدّعي أنك مسرورٌ إن لم تكن فعلاً”. ربما سيتبع ذلك جدالٌ عريض.

قد رأى الفيلسوف أرسطو أنَّ النّاسَ في الحالات المثاليّة يفعلون الصوابَ راضين، لكنّه أيضاً عدَّه أمراً حسناً إن هم حُفّزوا للتصرف بأخلاقيّة ولو لم يكونوا حقاً راغبين. وأنت بإخبارك شريكتك أنّك مسرورٌ بتقديم المساعدة تحاول أن تتصرف وكأنّك فعلاً كذلك. ارتأى أرسطو أن هذه هي سبيل تحصيل الدرجة المُثلى للفضيلة: تواصل محاولة فعل الصوابِ بنفسٍ سليمةٍ حتى تحصّل مبتغاك في النّهاية، وقد يعبّر البعض عن فكرة الفيلسوف هذه بشعار: “ ادعيه حتّى تؤديه”. إن الطموح ينطوى على دوام محاولة أن تصبح شخصاً آخر لم تكنه إلى أن تحقق مرادك.

يكمنُ الخطر في مبدأ الأصالة، في أنّه يميلُ لجعل كل طموح يبدو زائفاً، فأنت تحاول أن تكون شخصاً مختلفاً عمّا أنت عليه، لكن تطلُعَك لأن تصبح شخصاً أفضل على العموم، أو أفضل بشيء مخصوص، كثيراً ما يشمل أن تصبح شخصاً مختلفاً عنك الآن. ومن هنا تأتي المشكلة، لأن الأصالة كثيراً ما تشدد على أنّ كُلَّ الجهود المبذولة لتغيير أنفسنا، أو تحسينها شكليّةٌ وخدّاعة.

ولهذا آثارٌ اجتماعيّة موغلة في المحافظة، فلأن كان الطموحُ يقتضي فترةً من التظاهر، فالأصالة تشجّع النّاس على التسمّر في أماكنهم وتغض طَرَفَهم عن النظر نحو البعيد. وهي بعدُ، إشارةً فقط إلى بيتٍ قليل الشّهرة من ترنيمة” كل الأشياء برّاقة وجميلة”، تُقنعُ الغنيّ بالبقاء داخل أسوار قصره، والفقيرَ عند بوابته.

نشأتُ في ضاحية متواضعةٍ كانت ملعب صِباي، وهانئذا صرتُ أستاذاً للفلسفة، لا يُتصور أن تعيش تحولاً سيكولوجيّاً واجتماعيّاً مثل هذا دون أن تمُرّ عليك فتراتُ رغبةٍ واعيةٍ بتغيير نفسك، ربما لا مفرَّ من أن يعيش المرء أطواراً معتبرةً من متلازمة المدّعي، ولكن ما المدعي إن لم يكن مزيَّفاً؟ وما المزيَّف إن لم يكن شخصاً غيرَ أصيل؟ وأنا لم أكن لأصبح أكاديميّاً إن كنتُ اعتقدتُ أنّه علي أن أكون متصالحاً مع نفسي، بدل أن أصنع منها شيئاً ذا بال.

لعلّه من الأفضل لي أن أتقبّل بمرارة، كما صاغها أحدُ الأصحاب، أنّي أحدُ أبناء تاتشر، وأنّي مدين بكل ما أنجزتُ في مسيرتي لحركة “الصعود الاجتماعيّ” المذكورة آنفاً، فهل يجب علينا إذن أن نهجرَ مبدأ الأصالة وأن نسترجع عقليّة حرصانيي الثمانينيّات؟ لن يجدي هذا أيضاً. إن أفكارَ الثمانينيّات قد ركّزتْ على الطموح الطبقيّ لا على التحوّل الفكريّ، وقد كانت شديدة الفردانيّة، لكنّها كانت أيضاً موغلةً في المحافظة حتى أنّها جعلت أبناءَ الطبقة العاملة يتمثّلون نموذج سلون رينجر[3]، وحتى فردانيّتها الراديكاليّة هذه كانت محافظةً كذلك لِما بيّنته بجدارةٍ الدراسات حول الحراك الاجتماعيّ من أن انتقال بعض الأشخاص إلى طبقةٍ أعلى، وهبوط آخرين إلى أسفلَ لا يغيّرُ بنيّة المجتمع غير المتكافئة.

كما قال فوكو ذات مرّة ” إن الهدفَ الرئيسي في الحياة والعمل هو أن تصبحَ شخصاً آخر لم تكنه في البداية”. إن كانت فكرةُ الصعود الاجتماعيّ اقتضتْ التغيُّر لغرض الاندماج، فمبدأ الأصالة يمجّد أن يبقى المرء على حقيقته، أن تكونَ فخوراً بنفسك عندما يأبى ذلك أكثر الناس فهذا أمر بارعُ الأصالة. وكما بيّن أستاذ القانون بجامعة نيويورك كيني يوشينو أن أماكن العمل لا تزال مائلةً لدفع الناس بلا أي حقٍ لإخفاء جوانبَ من هوياتهم، وذلك عندما تفرضُ عليهم مداراةَ وشومهم، أو حَلَّ ضفائرهم، أو نزعَ اليارمولكه عن رؤوسهم.

ما يزالُ هناك إذن الكثير ليبذل في سبيل الأصالة والحرية الاجتماعيّة، وأيضاً لطالما كان الإصرار على الأصالة وسيلةً فعّالة لإظهار بهرج العلامات التجاريّة، وخَتل الساسة. وهناك فوق هذا كله، توقٌ للأصالة في عالم ملؤه خطابات هي أعرى الأشياء عن العفويّة والتلقائيّة، في كل حال، عندما تسيءُ الأصالة فهم الطموح، فإنّها تساهمُ في جوٍ فاسد مثبّط يرتاب في أي سعي للتخلُّق.

إن كان الطموحُ الأخلاقيّ سيوسَم دائماً بالزيف والادّعاء، ومن ثمَّ يُعامل بالرّيبة وسوء الظن، فإن ذلك يعني أن الأوغاد وحدَهم أهلٌ للثقة. خذ ترامب على سبيل المثال فهو، كما يقول كثيرٌ من أنصاره، وإن كان حثالةً لكن على الأقل لن يحار المرءُ في معرفة كيفية معاملته. فهو من هو، وقد يكون بوريس جونسون أيضاً انتهازيّاً ولامبالٍ لكنّه على الأقل أصيل، هذه أمثلة تبيّن كيف يمكن لمبدأ الأصالة أن يكونَ ليس محافظاً فحسب بل رجعيّاً أيضاً، فهو يحثُّ النّاس على تقبّل بل إظهار أقبح ما فيهم من صفاتٍ بدلاً من محاولة تغييرها.

ارتبطَ اسمُ فريدريش نيتشه، أحد فلاسفة القرن التاسع عشر، بشعار شهير ( والذي أخذه من شاعر إغريقي قديم اسمه بِندارو) يقول” لِتَصرْ من أنت”. يحوي هذا الشعار في طيّاته أحدَ أهم مبادئ زماننا، وهو بعدُ ذائع منتشرٌ مبتذلٌ في كل مكان حتى على واجهات الثلّاجات في المنازل. فهذا الشعار دعوةٌ لطيفةُ الإيجاز للمرء لأن يعيش وفقاً لشخصيّته وطبعه، وهذا أمرٌ قد يكون عظيماً بالغَ الحُسن. لكن ينبغي أن نستحضر هنا أنّه بالنسبة للبعض أن يكون الشخص على طبعه وسجيّته يعني أن يكون نذلاً بالغَ الحقارة، وغوغان قد اتّبع عميقَ نزواته فآل إنساناً فظيعاً.

وثمَّة أيضاً مسألة أخرى لا ينبغي الغفلة عنها، وهي أن تحسين الذات أمرٌ صعبٌ مُجهدٌ. ففي واقع أيامنا ليس لدى معظم النّاس وقتٌ خاصٌ بهم. فالعمل يستهلك طاقات معظمنا، وإذا أضيف إليه رعايةُ الأبناء، فقد اجتمع على المرء ما يُبليه ويتلفه، وحينما يعودُ أحدُنا إلى بيته وقد أنهكه العمل، لن يجدَ في نفسه قدرةً على فعل أي شيء، ويبعُد أن تَتركه إعلاناتُ التلفزيون يستجيب لتأخير الإشباع، ولعلّه لن يقوى على الخروج للتمشي وسيؤثر أن يطلب البيتزا ويقلّبَ في صفحات الفيسبوك. ومن كانتْ هذه حالُهُ كان عرضةً لأن يصبح حيناً بعد آخر أقلَّ اهتماماً بتغيير نفسه بَلْهَ العالم الواسع من حوله، وسينصرف همُّه وحرصُه إلى نعومة أغطيته ووسائده.

غيرُ مجدٍ صبُّ اللومِ على العواتق المُثقلة سلفاً، بل ينبغي أن نبحثَ عن وسائل لتحرير النّاس من ضغوط فرط العمل، وهم بعدُ أحوجُ للفكاك من أسْر الأفكار المضللة التي تغويهم بالبقاء دائماً على حالهم.

إن كانت مساعي التغيُّر تشتملُ على الإصرار وإسلاس قياد النّفس، فإنَّ توجهَ الإنسان ليصبح كما هو قد يقوّي نزوعَ النّفس للبقاء في فضاءات رغباتها الآنية المُريحة، إن لم ترغب يوماً بالتأنق، ارتدي بناطيلَ رياضيّةً ولا تبالي. إن لم تجد في نفسك قدرةً على ذلك، فلتبقَ بثياب النّوم إذن. ولو أحسست أنّك غير مستعدٍ للنّهوض من سريرك أصلاً، فواصل الاستلقاء فحسب. وهكذا، كونك متصالحاً مع نفسك قد يهوي بك أحياناً في دوّامة سقوطٍ بعيدة.

والمفارقة الطريفةُ هنا أنّ الأصالةَ، وهي هدفٌ مميّزٌ لصناعة تطوير الذات، قد تفضي للحد من تحسُّن المرء بإلزامه مالا يلزم. إنَّ كونك متصالحاً مع نفسك كما هي حقاً، يحول بينها وبين كل ما يمكن أن تصير إليه، تستحق كلماتُ الفيلسوف الفرنسيّ ميشيل فوكو الآتية شيئاً من التأمل: “ لا أرى أنّه من الضروري أن أعرف ما أنا تماماً، الهدف الرئيسي في الحياة والعمل هو أن تصبحَ شخصاً آخر لم تكنه في البداية”.

 

– – – – – – – – – – – – – – – – – – –

[1] تُحيلُ Yuppie، وهي اختصارٌ موضوعٌ لـ(young upwardly mobile professional)، إلى من كان محترفاً لعملٍ ما من الشباب، وقد حصّل ثروةً مكّنته أن يعيش منعّماً، مع شيء من التَرف والانتفاخ. وقد وضعنا اختصار “حرصاني” ترجمةً لـYuppie، حيث أنّها تقوم بالمطلوب، ومعلوم أنّه لا جمع ثروة إلا مع حرص، ولا تعاظم وتفاخر إلا بالحرص على إظهار المُكتسَب للغير. (م)

[2] نسبةً إلى رئيسة وزراء المملكة المتحدة ما بين (1979-1990) مارغريت تاتشر التي مثّلت حزب المحافظين وكانت أوّل امرأة تتقلد هذا المنصب. داخلياً، ساهمت سياساتُ تاتشر الاقتصادية الليبراليّة مثل الخصخصة، وإضعاف النقابات العماليّة، بتقليل نسبة التضخم ونسبة البطالة، وبتحسين مستوى المعيشة. لكنها خلّفت آثاراً على المستوى البعيد اجتماعيةً واقتصاديّة، حيث ازدادت اللامساواة في المجتمع وعمّتْ فيه روح الماديّة والطمع. انظر: (1997 Thatcher and Thatcherism) (م)

[3] عَلَمٌ على الأشخاص حديثي السن المنتمين للطبقة الغنيّة في إنجلترا، وهم يتشابهون عموماً في الاهتمام بالمظهر، وطريقة الكلام، وأنواع ما يستخدمون من فاخر السيارات .. الخ (م)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى