الدين

الاختلافات العقدية في أقوال القاضي أبي يعلى أقواله في الحد والجهة والمكان أنموذجا

  • الكاتب: أحمد الغريب
  • تحرير: لطيفة الخريف

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد..

فهذه مقاربة لأقوال القاضي أبي يعلى الحنبلي-رحمه الله- المختلفة في بعض المسائل العقدية كإثبات الجهة والحد ومعنى الاستواء ومسألة المكان وغير ذلك، وقد حررت هنا بعض ما يدل على المطلوب، ويفي بالمقصود.

قال في مختصر المعتمد: (ولا يجوز عليه الحد، ولا نهاية، ولا القبل ولا البعد، ولا تحت ولا قدام، ولا خلف، لأنها صفات توجب المكان) [1].

وقال: (فإن قيل: هو محدود وله نهاية؟ قيل: هو خالق المحدودات، وجاعل ذي النهايات، ليس بمحدود ولا متناه) [2].

وذكر القاضي مسألة الاستواء هل يكون بحد أم لا، ونقل عن أحمد روايات الإثبات والنفي، ثم ذكر أنه ذاكر بعض أصحابه في ذلك فنفي الحد يُخرّج على قول التميمي، وروايات الإثبات تُخرّج على قول ابن حامد وأن الاستواء بمعنى المماسة فيكون الاختلاف في الحد راجعًا إلى هذا.

ثم نقل عن أبي الحسن الجزري أنه كان يقول: (هو على العرش بحد يعلمه هو ولا نعلمه نحن، فيجعل راجعًا إلى ذاته لا إلى الاستواء وكان يحتج في ذلك بقوله تعالى: (وترى الملائكة حافين من حول العرش)، فاقتضى أن العرش محدود وهو على العرش وهذا قول بعيد [3].

وقال: (ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، ولا في مكان.. خلافًا.. للمجسمة في قولهم: هو في مكان) [4].

وقال: (والدلالة على أنه لا يجوز إطلاق القول عليه بأنه في مكان هو أن إضافته إلى المكان توجب قدم المكان بقدمه تعالى، إذ لم يزل موجودًا، والمكان لا يكون إلا جسمًا أو جوهرًا، والجواهر والأجسام محدثة… فأجاز أحمد رحمه الله إطلاق القول بأنه في السماء لا على وجه الحد لورود الشرع بإطلاق ذلك، ولم يجز القول في مكان لأن الشرع لم يرد بإطلاقه) [5].

وقال في الباب الذي عقده لإكفار المتأولين: (فصل فيمن يعتقد أن الله تعالى جسم من الأجسام، ويعطيه حقيقة الجسم من التأليف والانتقال من مكان إلى مكان فهو كافر؛ لأنه غير عارف بالله تعالى، لأن الله تعالى يستحيل وصفه بهذه الصفات، فإذا لم يعرف الله وجب أن يكون كافرًا) [6].

وقال في مختصر المعتمد عن الاستواء: (والواجب إطلاق هذه الصفة… لا على معنى القعود والمماسة… وخلافًا للكرامية والمجسمة أن معناه المماسة للعرش بالجلوس عليه) [7].

وقال في ترجيحه لقول التميمي على قول ابن حامد في المسائل العقدية من الروايتين والوجهين: (لأن كل من نقل عن حمد نقل الاستواء مطلقًا من غير ذكر مماسة، ولأن هذا مذهبه في الصفات، وأنها تمر كما جاءت… ولأن المماسة والمباينة تستحيل عليه لأنها من صفات الحدث فلم يجز إثباتها عليه) [8].

وقال عن صفة النزول: (لا على وجه الانتقال والحركة، كما جازت رؤيته لا في جهة) [9].

وقال: (اعلم أنه غير ممتنع إطلاق حجاب هو نور من دون الله، لا على وجه الإحاطة والحد والمحاذاة) [10].

فهذه النصوص يؤخذ منها الآتي:

1- أن الله لا يجوز وصفه بالحد، وأن ذلك ممتنع عليه.

2- أن الله لا يجوز وصفه بأنه في مكان، وأن القول بأنه في مكان هو قول المجسمة.

3- أن من يعطي الله حقيقة الجسم من التأليف والانتقال من مكان إلى مكان فهو كافر.

4- أن الله لا يجوز وصفه بالمحاذاة.

5- أن الله لا يجوز وصفه بالمباينة للعرش.

بينما تجد القاضي له آراء أخرى متأخرة في هذه المسائل..

 فتجده يقول عن إثبات الحد لله: (قد أطلق أحمد القول بذلك في رواية المروذي، وقد ذكر له قول ابن المبارك: نعرف الله على العرشّ بحدٍّ، فقال أحمد: بلغني ذلك، وأعجبه. وقال الأثرم: قلت لأحمد: يُحكى عن ابن المبارك: نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه بحدٍّ، فقال أحمد: هكذا هو عندنا) [11].

ثم ذكر القاضي أنه رأى بخط أبي إسحاق بإسناده إلى أبي داوود أنه قال: (جاء رجل إلى أحمد بن حنبل، فقال له: لله تبارك وتعالى حد؟ قال: نعم لا يعلمه إلا هو، قال الله تبارك وتعالى: (وترى الملائكة حافين من حول العرش)، يقول: محدقين). ثم قال القاضي: (فقد أطلق القول بإثبات الحد لله تعالى) [12].

ثم ذكر أن أحمد قد نفى الحد في رواية حنبل، وحمل النفي على الحد الذي يعلمه خلقه، ويكون المعنى أنه ليس له حد يعلمه خلقه.

ثم أوضح أن المعنى الذي أطلقه أحمد وأراد به إثبات الحد يحمل على أحد معنيين:

الأول: أنه تعالى في جهة مخصوصة، وليس هو تعالى ذاهب في الجهات الست، بل هو خارج العالم مميز عن خلقه، منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات، ثم قال القاضي: (وهذا معنى قول أحمد: له حد لا يعلمه إلى الله).

الثاني: أنه على صفة يبين بها عن غيره ويتميز… فهو تعالى فرد واحد ممتنع عن الاشتراك له في أخص صفاته.

ثم قال القاضي: (وقد منعنا من إطلاق القول بالحد في غير موضع من كتابنا، ويجب أن يجوز على الوجه الذي ذكرنا).

ثم قال: ( ويجب أن يحمل اختلاف كلام أحمد في إثبات الحد على اختلاف حالين، فالموضع الذي قال إنه على العرش بحدٍّ معناه: أن ما حاذى العرش من ذاته هو حد له وجهة له والموضع الذي قال هو على العرش بغير حد معناه: ما عدا الجهة المحاذية للعرش، وهي الفوق والخلف والأمام واليمنة واليسرة، وكان الفرق بين جهة التحت المحاذية للعرش وبين غيرها مما ذكرنا: أن جهة التحت تحاذي العرش بما قد ثبت من الدليل، والعرش محدود، فجاز أن يوصف ما حاذاه من الذات أنه حد وجهة، وليس كذلك فيما عداه، لأنه لا يحاذي ما هو محدود، بل هو مازال[13] في اليمنة واليسرة والفوق والأمام والخلف إلى غير غاية، فلهذا لم يوصف واحد من ذلك بالحد والجهة).

ثم يقول: (وجهة العرش تحاذي ما قابله من جهة الذات، ولم يحاذ جميع الذات لأنه لا نهاية لها) [14].

ومن هذه النصوص يتضح الآتي:

1 – أنه يثبت الحد لله على المعنى الذي أوضحه في النصوص، وأن إثبات الحد على هذا المعنى هو نص الإمام أحمد بن حنبل.

2 – أن الرب تعالى عنده محدود من جهة التحت المحاذية للعرش.

3 – يثبت المحاذاة لجهة التحت، وكان قد نفى المحاذاة قبل ذلك.

4 – يثبت لذات الله جهات غير محدودة هي جهة اليمنة واليسرة والفوق والأمام والخلف.

5- أنه ينسب ذلك إلى الإمام أحمد من مجموع الروايات، وكان قد استبعد في كتابه الروايتين والوجهين ما نقله عن أبي الحسن الجزري من أن الحد راجع إلى الذات، ثم أثبته هنا من رواية أبي داود من نص كلام الإمام -رحمه الله-، ولعل هذه الرواية قد اطلع عليها من خط أبي إسحاق بعد ما كان قد سطره في كتابه الروايتين عند نقله عن أبي الحسن الجزري، فيكون هذا رجوعًا إلى إثبات الحد بهذا المعنى.

وفيما يتعلق بإثبات صفة الجلوس على العرش أو الكرسي يقول:

(ولا يمتنع أيضًا أن يحصل للكرسي أطيط بجلوس ذاته عليه، لا على وجه الاعتماد والمماسة وثقل الجثة).

وذكر أن الأطيط يحصل بالجلوس لأنه أضافه إليه تعظيمًا لشأن الجلسة، وغلّط من قال: إن الله يخلق أطيطًا في الكرسي.

وذكر أثرًا موقوفًا عن ابن مسعود، وآخر مقطوعا عن خالد بن معدان يثبتان فيه لفظ الثقل للرب جل جلاله وأنه يثقل على العرش، وعلق القاضي على ذلك بقوله: (اعلم أنه غير ممتنع حمل هذا الخبر على ظاهره، وأن ثقله يحصل بذات الرحمن، إذ ليس في ذلك ما يحيل صفاته)، ثم ذكر أنه لا يثبت ثقلًا من جهة المماسة والاعتماد والوزن لأن ذلك من صفات الأجسام ويتعالى الله عن ذلك!

وفي أثناء إنكاره لتأويل هذه الألفاظ قال: (لأن الذات ليست معاني ولا أعراض فجاز وصفها بالثقل). وقال: (لأن ثقل ذاته عليهم تكليف لهم-أي للملائكة-) [15].

وفي هذه النصوص ما يلي:

1 – إثبات صفة الثقل لذات الرب، وأن ثقل الذات تكليف على الملائكة.

2 – إثبات صفة الجلوس لله، وأنه جلوس الذات.

3 – أنه ينشأ عن هذا الجلوس أطيط للعرش، وأكد ذلك بأن الأطيط قد حصل تعظيمًا لشأن جلسة الرب.

وذكر أن الله يقعد على الكرسي وفي لفظ على العرش وما يفضل إلا مقدار أربع أصابع، وقال في تفسير ذلك: (فالفضلة من الكرسي وإن الله أخلاها من وصفه بالجلوس عليها).

ثم ذكر أنه لا يعقل معنى الأصابع لأنه غير منصوص عليها، وهو يقصد هنا أنه لا يُعلم هل المراد بالأصابع أصابع ذات الرب، أم أصابع غيرها، ونقل قولًا بأن حد الفضلة بالأصابع أنها أصابع الرب، ثم رجح أنه لا يعقل معنى الأصابع لأنه غير منصوص عليه [16].

وفي إثباته للاستواء قال: (اعلم أن القرآن والأخبار قد جاءا بالاستواء على العرش، والواجب في ذلك إطلاق هذه الصفة من غير تفسير ولا تأويل وأنه استواء الذات على العرش لا على وجه الاتصال والمماسة).

ثم يثبت القاضي أن السلف قد أثبتوا الاستواء وينقل أقوالهم في الإثبات بتفسير معنى الاستواء، فيروي عن عبدالوهاب الوراق أنه قال: استوى، قال: قعد.

وعن يزيد بن هارون قال: (من زعم أن ((الرحمن على العرش استوى)) على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي).

ثم ينقل عن ابن قتيبة تفسيره للاستواء بأنه الاستقرار، كما قال: (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك)، أي: استقررت [17].

ويجب أن يلاحظ هنا أن القاضي قد أوجب إثبات الاستواء من غير تفسير ولا تأويل، ثم أثبت أن السلف يثبتون الاستواء بمعنى القعود والاستقرار وعلى ما يقر في قلوب العامة، فعُلِم من ذلك أن نفيه للتفسير هنا هو نفي للتأويل البدعي.

وقال عند ذكره للاستواء في الروايتين والوجهين في المسائل العقدية: (وقال شيخنا أبو عبدالله: الاستواء بمعنى المماسة وأنه قاعد على عرشه. وهو قول عبدالوهاب. قال شيخنا أبو عبدالله: أحمد قد أثنى على عبدالوهاب، وقال: هو إمام، وذلك أن إطلاق الاستواء في لغة العرب هو ما ذكرنا فيجب أن يحمل عليه) [18].

وقد قدمنا قول القاضي والذي فيه أن المماسة والمباينة تستحيل عليه لأنها من صفات الحدث فلم يجز إثباتها عليه، بينما نجده يثبت المباينة في إبطال التأويلات حيث يقول: (وإنما وجب حمل هذا الخبر على هذا لما تقدم من نص القرآن والأخبار الصحاح أنه في السماء مستو على عرشه بائن من خلقه) [19].

وقال القاضي في قضية الجهة: (فإذا أثبت أنه على العرش، والعرش في جهة، وهو على عرشه، وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه، والصواب جواز القول بذلك؛ لأن أحمد قد أثبت هذه الصفة التي هي الاستواء على العرش، وأثبت أنه في السماء، وكل من أثبت هذا أثبت الجهة، وهم أصحاب ابن كرام، وابن منده الأصبهاني المحدث).

ثم نقل القاضي احتجاجًا لابن منده على إثبات الجهة، ولم يتعقبه، فقال: (وقد احتج ابن منده على إثبات الجهة بأنه لما نطق القرآن بأن الله تعالى على العرش وأنه في السماء، وجاءت السنة بمثل ذلك، وبأن الجنة مسكنه، وأنه في ذلك، وهذه الأشياء أمكنة في نفسها، فدل على أنه في مكان) [20].

وفي هذه النصوص ما يلي:

1 – إثبات القاضي للجهة، وإثبات رجوعه عن نفي ذلك.

2 – أن كل من أثبت الاستواء على العرش وأنه في السماء فقد أثبت الجهة، وعلى رأس هؤلاء الإمام أحمد، ومنهم الإمام ابن منده الأصبهاني المحدث، وكذلك الكرامية.

3- نقل القاضي كلام ابن منده وفيه إثبات المكان لله ولم يتعقبه.

وقد جاء في كلام القاضي ما يدل على سواغ إثبات المكان.. فقد قال: (وأما قوله: [ثم رجع إلى ربه فقال هذه تحيتك] ظاهره يقتضي رجوعًا إلى المكان… وليس في حمله على المكان ما يحيل [21] الصفات) [22].

وعند حديثه عن حديث الجارية الذي فيه السؤال بأين التي تأتي للسؤال عن المكان قال: (لأن الحقيقة في هذه اللفظة أنها استفهام عن المكان دون المنزلة والرتبة، وإنما تستعمل في ذلك على طريق المجاز-يقصد في المنزلة والرتبة-، فكان حملها على الحقيقة أولى) [23].

ثم قال: (فإن قيل: فإذا لم يكن سؤالا عن المنزلة لم يبق إلا أنه سؤال عن المكان وأنتم لا تثبتون ذلك. قيل: بل هو سؤال عن كونه في السماء لا على وجه الحلول) [24].

فالقاضي يثبت أن حديث الجارية صيغة السؤال فيه دالة على المكان، ويثبت معنى المكان في قوله: (بل هو سؤال عن كونه في السماء على وجه الحلول)، لكنه يتلاشى استخدام لفظة المكان، والعبرة بالمعاني.

ويمكن أن يقال: إن المكان المنفي في كلام القاضي والذي وصف القائل به بالتجسيم هو المكان الذي يكون بمعنى حلول الرب فيه، وأما إثبات مكان يعلو الرب تعالى عليه فلا يمكن أن يكون صاحبه مجسمًا عنده إلا إن كان يقول بذلك ثم رجع عنه كما رجع عن نفي الجهة، وأنت ترى أنه ساق كلام ابن منده مستشهدًا به وفيه إثبات لفظ المكان، كما أنه نفى أن يكون في إثبات المكان ما يحيل صفات الرب.

وفيما يتعلق بالنزول هل هو بانتقال أم لا؟ فقد سبق أنه حكم على من قال: إن الله جسم من الأجسام وأعطاه حقيقة الجسم من التأليف والانتقال فهو كافر.

والعجيب أن ممن يثبت الانتقال في نزول الله تعالى شيخُه ابن حامد، وقد حكى قوله في الروايتين والوجهين فقال: (واختلفوا في صفته فذهب شيخنا أبو عبدالله– هو ابن حامد- إلى أنه نزول انتقال، قال: لأن هذا حقيقة النزول عند العرب… ولأن أكثر ما في هذا أنه من صفات الحدث في حقنا، وهذا لا يوجب كونه في حقه محدثًا.. إلخ).

ثم ذكر القاضي أن طائفة أخرى قد أولت النزول بمعنى القدرة، وعن طائفة ثالثة بأنه نزول لا يُعقل معناه هل هو بزوال أم بغير زوال كما جاء الخبر، وذكر أن هذه الطريقة هي المذهب.

لكن القاضي لم يذكر هنا في كتابه هذا حكم القائل بأن نزول الله نزول انتقال، فما حكم شيخه ابن حامد عنده وهو القائل بهذا المنتصر له؟ هل رجع القاضي عن ذاك التكفير للقائل بالانتقال والذي ذكره في المعتمد؟

لا يظهر هذا فقد نص ابنه في الطبقات على أن هذا من اعتقاده فقد قال: (قال الوالد السعيد: فمن اعتقد أن الله سبحانه جسم من الأجسام وأعطاه حقيقة الجسم من التأليف والانتقال فهو كافر.. إلخ) [25].

أم إنه لم يقصد تكفير القائل بمجرد الانتقال، بل قصد أن يحكم بالكفر على المجسم الذي يقول إن الله جسم من الأجسام وأعطاه حقيقة الجسم من التأليف والانتقال؟ فيكون التكفير للقائل بمجموع هذه المقالة فلا يندرج شيخه تحت ما قصده؟ وذلك أن شيخه نفى التشبيه وقال: (وهذا لا يوجب كونه في حقه محدثًا كالاستواء على العرش، هو موصوف به مع اختلافنا في صفته، وإن كان هذا الاستواء لم يكن موصوفًا به في القِدم، وكذلك نقول تكلم بحرف وصوت، وإن كان هذا يوجب الحدث في صفاتنا ولا يوجبه في حقه كذلك النزول) [26].

أم إنه لم يكفر شيخه لأنه يعذره بالتأويل؟ والظاهر من صنيع القاضي أنه لا يعذر المتأولين في هذه الأبواب.

وهذا اجتهاد منا في الوصول إلى مراد القاضي، وإلا فإن أقواله في هذه الباب قلقة مضطربة، وقد نفرد مقالة نذكر فيها مسألة الانتقال والحركة-إن شاء الله-.

وبعد فإننا نخرج بالنتائج التالية:

1- هناك مراحل عقدية مرّ بها القاضي أبو يعلى، نتج عنها اختلاف في اختياراته في مسائل جوهرية أصلية يُبنى عليها حكم بالكفر أو الإيمان، وربما نُنازع في إثبات المراحل، لكن لا يمكن منازعتنا في إثبات الاختلاف والتطور في بعض الأقوال المحورية.

2- أن المرحلة الأولى يتضح فيها تأثره بالطرح الأشعري، وتأثير كتاب الإنصاف للباقلاني واضح جلي في كتاب المعتمد للقاضي.

3- أنه رجع عن كثير مما ذكره في كتابه المعتمد، بل رجع في آخر كتابه إبطال التأويلات عن بعض ما ذكره في أول ووسط نفس الكتاب، وهذا يحتاج إلى إنعام نظر في تلك المسائل التي بناها على ما رجع عنه، فكثيرًا ما كان يبني تقريراته على نفي الجهة أو نفي الحد، فيُحتاج إلى مراجعة هذه المواضع، وهل ستؤثر على تلك التقريرات أم لا؟

4- أن القاضي كان يحرص على بناء آرائه على نصوص الإمام أحمد، وفي بعض المواضع كان يستدل بكلام أحمد للقولين القديم والجديد، وهذا يؤكد على أن بعض تقريراته لم تكن منصوصات للإمام وإنما هي راجعة إلى فهمه هو لكلام الإمام، وهنا يُطرح السؤال: ما الذي يجعل فهم القاضي أولى من فهم شيخه ابن حامد؟ خاصة وأن ابن حامد لم يُنقل عنه اختلاف في الأقوال كالذي حصل للقاضي، كما أن طريقة ابن حامد أقرب لتقريرات من سبقه من الحنابلة في الكتب المسندة، وأبعد عن المادة الكلامية الموجودة في كلام القاضي والتي تلقفها عن الأشعرية ومن تأثر بهم من الحنابلة.

5- لم أتطرق هنا لقضية التفويض عند القاضي، فعامة ما ذكرته لا يدخله التفويض، وإنما أكدت على أنه قد يستخدم عبارة: (من غير تفسير)، ويكون المراد نفي التفسير البدعي الذي هو بمعنى التحريف، وقد رأيتَ أنه يثبت الاستواء من غير تفسير ثم ذكر إثبات السلف للاستواء، وإثباتهم الذي نقله إنما هو تفسير للمعنى بالقعود والاستقرار وعلى ما يقر في قلوب العامة.

6- أن القاضي ينقل عن عبدالوهاب الوراق وعن ابن قتيبة، وهما من المثبتة لا المفوضة، وهو يكثر النقل عن ابن قتيبة، ويستشهد به كثيرًا في كتابه، وفي هذا دلالة يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند تحرير موقفه من التفويض، بل إن القاضي نقل في أكثر من موضع من كتابه إبطال التأويلات عن مقاتل بن سليمان!

7- أنه ينبغي للباحث الجاد أن يتأمل في القول الذي استقر عليه رأي العالِم، ولا يُنسب إليه ما عرف أنه قد رجع عنه، وفي حالتنا هذه لا يجوز نسبة القول بنفي الجهة، أو الحد، أو المكان إلى القاضي مع ما نقلناه من نصوص، وهناك مسائل أخرى قد رجع عنها القاضي تُعرَف بالتتبع، وأشار إلى بعضها ابن حمدان في عقيدته، وليس غرض هذا المقال جمع ذلك، ولكن تجدر الإشارة إلى أن بعض ما رجع عنه القاضي قد اختاره ابن حمدان في نهاية المبتدئين، فالقول بأن نهاية المبتدئين هو امتداد لاعتقاد القاضي غلط فاحش بهذا الإطلاق.

هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

اقرأ ايضاً: تحرير مواقف المعاصرين من تفويض الإمام ابن قدامة


[1] مختصر المعتمد ص 57.

[2] السابق ص 58.

[3] انظر: المسائل العقدية من الروايتين والوجهين 54- 56.

[4] مختصر المعتمد 56،57.

[5] السابق ص 57

[6] السابق ص 271.

[7] مختصر المعتمد ص 54.

[8] المسائل العقدية من كتاب الروايتين والوجهين ص53، 54.

[9] السابق ص 55.

[10] إبطال التأويلات ص 325

[11] إبطال التأويلات ص 598

[12] انظر: السابق.

[13] في المطبوع: ما دل، ولعل الصواب ما أثبته.

[14] انظر هذه النصوص في: إبطال التأويلات ص 598، 599.

[15] انظر هذه النصوص في: إبطال التأويلات ص 537، 538

[16] انظر هذه النصوص في: إبطال التأويلات ص 585-587

[17] انظر هذه النصوص في: إبطال التأويلات ص 591، 592

[18] المسائل العقدية من كتاب الروايتين والوجهين ص53.

[19] إبطال التأويلات ص285.

[20] إبطال التأويلات ص 595، 596

[21] في المطبوع: (يحير)، ولعل الصواب ما أثبته، وهو كثيرًا ما يستخدم هذا اللفظ فيما يثبته.

[22] السابق ص 349

[23] إبطال التأويلات ص 278.

[24] السابق ص 279

[25] طبقات الحنابلة 2/ 212.

[26] المسائل العقدية من الروايتين والوجهين ص 60.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى