- ستيفن لو
- ترجمة: رزان الصليهم
- تحرير: بلال الخصاونة
- مراجعة: مصطفى هندي
عندما يَنتقد الملحدون المعاصرون المعتقداتِ الدينية، فإنهم عادة ما ينتقدون تلك التي لا يَعتنقها سوى المفكر المتدين الأخرق، أو هكذا يَدّعي بعضُ الناس؛ وكثيرًا ما يقال إن معتقداتِ الشخص المؤمن المتمرس محصنةٌ ضد مثل هذه الانتقادات.
وأولئك الذين يقدمون هذا النوع من الردود غالبًا ما تعجبهم الأعمالُ المتأخرة لـ “لودفيغ فتغنشتاين” (١٩٥١-١٩٨٩)، وعلى وجه الخصوص الملاحظات التي أدلى بها في محاضراته ومحادثاته حول علم الجمال وعلم النفس والعقيدة الدينية (١٩٦٧) وكتاب الثقافة والقيمة (١٩٧٠)، وكلاهما نُشر بعد وفاته. قدم فتغنشتاين عددًا من التعليقات المثيرة للاهتمام -وإن كانت غامضةً نوعًا ما- حول العقيدة الدينية في هذه الكتب، والتي يبدو أنها توحي بأن مثل هذه الانتقاداتِ الملحدة قد أخفقت في بلوغ غايتها.
فيما يلي دليلٌ موجزٌ للدفاعاتِ “الفتغنشتاينية” القوية عن العقيدة الدينية، والمتجذرة في أعماله المتأخرة. من الجدير بالذكر أن آراء فتغنشتاين اللاحقة حول العقيدة الدينية تعد موضعَ خلافٍ في ماهيتها؛ الآراء التي أناقشها لا تمثل بالضرورة وجهة نظر فتغنشتاين نفسه، ولكنها تُنسب إليه.
بعد درس هذه الآراء المختلفة عن كثب، لن نجد سوى القليل لطمأنة كثير من المؤمنين أن معتقداتهم “في مأمن” من نقد الملحد. وهذا لا يعني أن نقول بأن الانتقاداتِ المعاصرة الموجهة للإيمانِ صائبة، قد لا تكون كذلك؛ لكن المقصود أن تبني الدفاعاتِ الفتغنشتاينية يوفر حصانةً ضئيلة ضد مثل هذه الهجمات.
ففي محاضراته، قال فتغنشتاين إن غير المؤمن لا يستطيع نقضَ ما يعتقده الشخص المتدين:
“إذا سألتني ما إذا كنت أؤمن بيوم القيامة أم لا بالمعنى الذي يؤمن به المتدينون، فلن أقول: “لا، لا أومن أن شيئًا كهذا سيحدث” يبدو لي أنه من الحماقة التامة قول شيء مماثل. ثم أعطي تبريرًا: “أنا لا أؤمن بـ …”، ولكن حينها لن يصدق الشخص المتدين أبدًا ما سأتطرق اليه.
ولا أستطيع القول أنه بإمكاني معارضة ذلك الشخص.”
بالفعل، يُفسَر طرح فتغنشتاين على نطاق واسعٍ أنه يفرض عدم استطاعةِ غير المؤمنين إنكار ما يعتقده المتدينون، بل ولا دحض تلك المعتقدات أيضًا. لكن لماذا؟
عند هذه النقطة يختلف مفسرو فتغنشتاين؛ هناك اتفاق كبير إلى حد ما على أن فتغنشتاين يفترض أن المتدينين والملحدين يستخدمون جملًا مثل: الله موجود، قام المسيح من بين الأموات، وسيكون هناك يوم للحساب استخدامًا مختلفًا تمامًا، وبالتالي في معانٍ مختلفة، إلا أن ذلكَ يثير أسئلة أخرى:
– أين يكمن اختلافُ استخدامهم بالضبط؟
– لمَ علينا أن نفترضَ أن الملحدين يمتنع عليهم إنكار-بل ويفشلون في دحض -ما يعبر عنه المتدينون باستخدام مثل هذه الجمل؟
وكإجابةٍ على هذه الأسئلة، نقدم عددًا من الآراء الفتغنشتاينية المختلفة. سأفصل القول في ثلاثة ادعاءات رئيسةٍ أدناه.
وفقًا لما سأطلق عليه اللامعرفية الفتغنشتاينية، فإن جملًا مثل الله موجود وقام المسيح من بين الأموات، لا يستخدمها المتدينون لتقديم أي ادعاءات أو مزاعم؛ وعليه إذا لم يُقدم أي ادعاء ديني، فليس هنالك ما يمكنُ للنقاد الملحدين نقده أو دحضه.
لكن: إذا كانت جملة الله موجود لا تستخدم كادّعاء، بل تستخدم بطريقة أخرى، فكيف تستخدم؟
تدعو إحدى الاقتراحاتِ إلى التعبير المجازي، والتي تقول أن الجملَ مثل الله موجود يستخدمها المتدينون للتعبير عن عواطفهم أو سلوكهم. على سبيل المثال، قد تُستخدم جملة الله موجود كتعبيرٍ عن شدة التفاؤل أو شعورٍ بالرهبة والتبجيل. وربما عندما يقول المتدينون أن الله موجود، فإنهم في الواقع يقولون “رائع!” في ذهول من أن الكون موجود أصلًا. ولكن إذا كانت جملة الله موجود تستخدم بهذا الشكل، فعندئذٍ سؤالنا: كيف تعرف بأن الله موجود؟ وما دليلك على وجوده؟ هو طرح لأسئلة لا يمكننا التعامل معها. وفي نفس الوقت هذه هي الأسئلة التي يُطالب النقادُ الملحدون بإجاباتٍ لها.
فأطروحة اللامعرفية حول كيفية استخدام اللغة الدينية تفضي إلى أن ما يعبّر عنه الأشخاصُ المتدينون باستخدامِ هذه اللغة ليس شيئًا قد يستطيع النقادُ الملحدون أن ينتقدوه أو يدحضوه بنجاح. رغم ذلك، فإن من مساوئ اللامعرفية هو أن أخذها كبيان لكيفية عمل اللغة الدينية المعتادة يعد أمرًا غير منطقي. ويحضُّ فتغنشتاين على عدم افتراض كيفية استخدام اللغة، بل العمل “بالنظر والاطلاع”. كما يحثنا على التركيز على الممارسات اللغوية العادية؛ لكن لا يبدو أن الممارساتِ اللُّغوية الدينية العادية هي ما يحتجُّ بها مسلك اللامعرفية. يبدو أن الغالبية العظمى من المتدينين -بما في ذلك معظمُ من عدّوا أنفسهم فتغنشتاينيين-يستخدمون اللغة الدينية لتقديم مجموعةٍ متنوعة من الادعاءاتِ الميتافيزيقية والتاريخية ونحوها. وعادةً ما تهمهم صحةُ هذه الادعاءات للغاية.
قيامةُ المسيحِ من بين الأمواتِ على وجه الخصوص تُعد حقيقة تاريخية مهمة للغاية لدى مُعظم المسيحيين؛ بل غالبًا ما يقدمون أدلةً لدعم هذا الادعاء التاريخي، مثل تقارير شهود عيان عن رؤية المسيح بعد وفاته. يبدو أن معظمهم يستخدمُ الله موجود ليقدموا ادعاءً بوجود كيانٍ متعالٍ كامل -وهو الادعاء الذي يحاولون الدفاع عنه عندما تواجههم انتقادات مثل معضلة وجود الشر. فلماذا تقدم دفاعًا عن ادعاءٍ لا وجود له من الأساس؟
إذن: يتبين لنا أنه إذا كان هناك قومٌ متدينون يستخدمونَ اللغة الدينية بطريقةٍ لامعرفية بشكلٍ كامل، فإنهم يشكلون أقلية ضئيلة.
ونظرًا لأن اللامعرفية يستحيلُ لها معرفة كيفية استخدامِ اللغة الدينية بشكل عام؛ فقد رفضها العديد من مفسري فتغنشتاين؛ ولا يتعارض اتباعهم لفتغنشتاين مع تقديم ادعاءات دينية؛ فاللغة الدينية ليست مجازية بحتة أو غير ذلك، كما تشير الفيلسوفة جينيا شونباومسفيلد في كتاب “A Confusion of Spheres (2007)”، فإن العقيدة الدينية ليست أكثر من ‘نوع غريب من النشوة’؛ وأبدى الفيلسوف سيفيرين شرودر في مقاله” The Tightrope Walker (2007)” موافقته على ما يلي:
“وخلافا للرأي السائد، فإن فتغنشتاين لم يطرح تفسيرًا مجازيا محضًا للأقوال العَقَديَّة […] يُشدد فتغنشتاين على أهمية الالتزام، والبُعد العملي للعقيدة الدينية، دون إنكار أنها تتضمن الاعتقاد بأن بعض الأمور يجب أن تكون صحيحة”.
ومن هذا الرأي، فهناك ادعاءاتٍ تخالف اللامعرفية يقدمها قوم متدينون يقولون بأن الله موجود وأن المسيح قام من بين الأموات؛ وغالبًا ما تكون هناك أبعادٌ إضافية للمعاني التي لا يستطيع الملحد فهمها.
وأشار الفيلسوف الديني جون كوتينغام الى الرأي الفتغنشتايني في عام ٢٠٠٩: “تتشابكُ ألعابنا اللُّغوية مع شبكةٍ من الأنشطة غير اللُّغوية، ولا يمكنُ فهمها دون السياق الذي يمنحها الحياة”. ويستخدم كوتينغام بعد ذلك تشبيهًا ليشرح ما يفوتُ غالبًا على النقادِ الملحدين. حيث يقترح أن النقد الفلسفي للعقيدةِ الدينية يستخدمُ “نهجَ عصّارة الفاكهة“: وهو محاولةٌ استخلاص سائلٍ صافٍ من العقيدة الدينية بصوة مزاعمَ مؤكدة يمكن دراستها بمعزل عن سياقها. ومع ذلك، فإن مستَخلص العصير لا يعطينا الجوهر الحقيقي للفاكهة كما يُفترض. بل يُقدِّم مشروبًا غير مستساغِ الطعم، بالإضافة إلى فوضى اللّب. والشخص الذي تذوقَ الفراولة فقط من خلال خلاصة العصّارة قد يقرر بحسمٍ أنه “لا يفضل هذه الفاكهة”، وقد تكون لديه فكرة متطرفة جذريًا عن الفاكهة التي تجعل محبّ الفراولة مولعاً بها.
وجاء تفسير شونباومسفيلد بالمثل، حيث قالت أن فتغنشتاين يشيرُ إلى أن هناك أبعادًا لاستخداماتِ ومغزى اللغة الدينية لا يفهمها الملحدون المعارضون. تمامًا مثل أنَّ الشخصَ الذي يفتقرُ إلى “أُذنٍ موسيقية” لن يكون قادرًا على نقض حكم متذوقِ الموسيقى، فإن شخصا كهذا يفتقر إلى الحساسية الموسيقية لفهم ما يقوله الخبير. وتكمل شونباومسفيلد: لذا يفترض فتغنشتاين أن غير المؤمنين لا يمكن أن ينقضوا ما يقوله المتدينون، لأنهم يفتقرون أيضًا إلى المفاهيم ذات الصلة.
وتقول شونباومسفيلد أن كلاً من فتغنشتاين والنقاد الملحدين يمكنهم ترديد الكلماتِ التي يقولها المتدينون كالببغاء، بنفس الطريقة التي يستطيع بها شخصٌ يفتقر إلى أذنٍ موسيقية ترديد الكلمات التي يستخدمها متذوقو الموسيقى (فيمكنهم أيضًا الحديث عن الملحنين العظماء وقواعد مزج الألحان، وهكذا). وعلى أيةِ حال، فإن أقصى ما يمكن أن يكتسبه أولئك الذين يفتقرون إلى أذنٍ موسيقية أو حساسية دينية هو الفهم “الفكري” البحت للموضوع، “ويمكن مقارنة ذلك بمجرد تعلم الرموز “. ومن وجهة نظر شونباومسفيلد، لكي نكون قادرين بالفعل على نقضِ المتذوقِ الموسيقي أو الشخصِ المتدين، علينا اكتساب “نوع الفهم الذي يجعلُ العملَ الموسيقي أو الصلاة (الكلمات الدينية) حيّة بالنسبة لي، وليس النوع الذي يسمح لي بترديد أشكال الكلام”.
هناك بعض الوجاهة لهذه النظرة الفتغنشتاينية -دعنا نسَمِها وجهة نظر العصارة- بأن هناك طبقات غنية بالمعاني والأهمية تتلخص في الاستخدام الديني لعبارة الله موجود وما إلى ذلك، التي غالبًا ما يفتقدها الملحدون. وليس من المستبعد أن نقول أن العديدَ من الملحدين لديهم فهمٌ معدوم “كالعصَارة” لما يؤمنُ به المتدينون.
ومع ذلك، فإن فتغنشتاين “بحسب وجهة نظر شونباومسفيلد” قد يكون مخطئًا في استنتاجه القائل: بما أن هناك طبقاتٍ غنية بالمعاني مفقودة بالنسبة للملحدين؛ لذلك يمتنع عليهم مناقضة ما يعتقده المتدينون.
فلتتأمل في هذا التشبيه: لنفترض أن ماري سمعت توم وهو يصف أوتو بـ “كراوت” “Kraut” (مصطلح مهين للألمانيين)؛ من هذا القول، يستطيع توم بوضوح إيصالِ أنه يعتقد بأن أوتو ألماني، إلَا أنَّ ذلك قد لا يكون هو كل ما يرغب توم بإيصاله، فقد ينوي باستخدام هذه الكلمة المسيئة للتعبير عن ازدرائه للألمان، وبالتالي ازدرائه لأوتو، وقد يكون الهدف الحقيقي مما قاله توم هو إهانة أوتو.
فلنفترضِ الآن أنَّ ماري تعاني من حالةٍ تجعلها غير مُميزةٍ للإهانات، وبالتالي لم تفهم على النحو الصحيح الاستخدام الكامل لكلمة “كراوت”؛ وعلى وجه الخصوص، فقد فشلت في فهم الطريقة التي استخدم بها توم هذا التعبير في هذه المناسبة بالذات. إن الاستخدامَ الغني والمتنوع لنوع المفردات التي تنتمي إليه كلمة “كراوت” مفقود تمامًا عند ماري التي تعتقد أنها تعني فقط “ألماني”. وعندما تعرفُ أن أوتو ليس ألمانيًا، تقول لتوم: لا، أنت مخطئ: أوتو ليس كراوت (أي إنه ليس ألمانيًا). هل نجحت ماري في معارضة كلام توم؟
بالتأكيد فعلت ذلك. صحيح أنه قد يكون لديها فقط فهم هزيل، أعمى، أو “كالعصَارة=إهمال السياق” لما قاله توم؛ لكن هذا لم يمنعها من معارضته بنجاح، وبل ودحضه بشكل مباشر.
وبالمثل، حتى لو لم يمتلك الملحدون إلا الفهم الهزيل ذي المعنى الديني الأعمى الشبيه بالعُصارة لما يعبر عنه المتدين باستخدام الله موجود وغيرها، فذلك لا يعني أنهم لا يستطيعون معارضة المعتقدات الدينية التي يتم التعبير عنها باستخدام جمل كالجملة السابقة؛ ولا يستتبع ذلك بالطبع أن الملحدين لا يمكنهم دحض ما يؤمن به المتدينون.[1]
ولكن ربما ما ينوي فتغنشتاين وشونباومسفيلد اقتراحه هو أنه لا يوجد تداخل على الإطلاق بين ما يلتزم به المتدينون وما يفترض الملحد أنهم ملتزمون به؟
لكن ماذا لو كانت معاني الشخص الديني مجازية على سبيل المثال؟ لنفترض أنني قلت أن توم كحشرة العثّ التي تنجذب لشعلة جين؛ إذا سمعتني ماري (التي لا تفهم الاستعارات المجازية) صدفةً وأجابتني: لكن من الواضح أن جين ليست جسمًا متوهجًا من الغاز المشتعل، وتوم لا يمتلك أجنحة، فسيصبح من الواضح أن ماري أساءت فهمي تمامًا. هناك القليل من التداخل -وإن وجد-بين ما فَهِمته ماري وما قصدته بالفعل، لكن من المؤكد أن ماري فشلت تماما في معارضتي.
ولكن لعلَّ ما يعنيه المتدينون عندما يقولون أن الله موجود هو معنى مَجازي بشكل كامل، مما أدى إلى جعل الناقد الملحد يسيء فهم ما يلتزم به المتدين؟ ولنسمي ذلك وجهة نظر” العصَّارة القوية“.
وإذا صحت، فقد انتهى الأمر، وسأسبب حينها حيرة تامة لمن معي.
المشكلة في وجهة نظر “العصَّارة القوية” تكمن في أنها، مثل اللامعرفية، لا يمكن لها تبيان كيفية استخدام اللغة الدينية عادةً. فعندما يقول المتدين: الله موجود، سيجيبه الملحدون بالإشارة إلى تعمّق وتجذّر الشر في العالم، وحينها يحاول المتدين عادة أن يبين ماهيةَ الشر من خلال تقديم نظرية العدالة الإلهية -أي تفسيرات للشر مثل (هذا الشر -الحرب مثلا -هو نتيجة التصرف بحرية، هذا الشر موجود لبناء شخصياتنا) -أو من خلال التمسك بالغموض (على حدّ علمنا، الله موجود ولديه سبب وجيه للسماح بهذه الشرور). فإذا كان مقصدُ الشخص المتدين مجازيا بالكامل، فإن مثل هذه الإجابات الدينية ستكونُ منطقيةً بقدر منطقية ردي على ماري بالإشارةِ إلى أن دليلي على أن جين ليست جسمًا متوهجًا من الغاز المشتعل وأن توم لا يمتلك أجنحة هو دليلٌ أقل من قاطع، أو من خلالِ الإصرار على أننا جميعًا نعرف أن جين هي بالفعل جسمٌ متوهج من الغاز المشتعل.
يظهر شكل آخر من نظرية العصَّارة القوية متأثرًا بالفكرة الفتغنشتاينية القائلة بأن استخدامنا للغة هو جزء لا يتجزأ من “الألعاب اللغوية” و”أشكال الحياة”. لنفترض أنني صِحت خلال مباراة الورق: كش ملك! بالنظر إلى أن “كش ملك” أهميتها تكمن في لعبة مختلفة تمامًا وملتزمة بقواعد مختلفة جدًا عن لعبة الورق، من المحتمل أن يؤدي تعليقي إلى خلق حيرة تامة. وبالطبع، لا يبدو أنني كنت سأنجح في قول أي شيء على الإطلاق. وبالمثل، يقترح البعض أن أقوالًا مثل قام المسيح من بين الأموات لها أهميتها في التلاعب الديني اللغوي، وعندما تُستخدم في تلاعب لغوي مختلف، ملتزمٍ بقواعد مختلفة (على سبيل المثال، في مختبر العلوم أو حصة التاريخ الأكاديمي) يتم تجريدها أيضًا من فحواها. ولكن أقوالٌ كهذه لا تُقدِّم أي شيءٍ يجعلها موضعًا للجدل بالنسبة للعالِمة في مختبرها أو المؤرخة في صفها الأكاديمي. إن النقد العلمي والتاريخي للعقيدة الدينية أمر مستحيل.[2]
ومرة أخرى، هذا الشكل من أشكال نظرية العصَّارة القوية لا يمكن له تبيان كيفية استخدام اللغة الدينية عادةً. يستخدم المتدينون جملاً مثل الله موجود وقام المسيح من بين الأموات وما إلى ذلك، بشكل دائم في سياقات علمية وتاريخية، ويستخدمون الحجج الدقيقة لإثبات وجود الله، والحجج التاريخية لإثبات حقيقة قيامة المسيح. وحتى لو كان الحديث صحيحًا حول أن وجود الله وقيامة المسيح لهما أهميتهما في إطارٍ ديني من أشكال الحياة، والذي يفشل غير المؤمنين بالانتماء إليه، فلا يترتب على ذلك أن هؤلاء لا يمكنهم معارضة تلك المعتقدات ورفضها بشكل معقول. وعلى أية حال، كانت للاتهامات التي وُجهت خلال محاكمات الساحرات في مدينة سايلَم في القرن السابع عشر منزلة خاصة في إطارٍ ديني من أشكال الحياة يفشل الملحدون المعاصرون في الانتماء إليه، لكن هذا لا يمنع أولئك الملحدين من التعارض بل ودحض الاتهامات الدينية بالسحر في القرن السابع عشر.
وجهة نظر ثالثة تُعزى إلى فتغنشتاين بشأن اللغة الدينية هو ما أُطلق عليها وجهة نظر الملحد السلبي. وفيها يكون الشخص المتدين ملتزمًا، ليس بأكثر مما يفترضه الملحد، بل أقل.
وهنا توضيحٌ بسيط: لنفترض أن: (تيد) قد أخذ الصورة التشبيهية لله ‘كأبٍ يراقبنا من فوق السحاب’ على محمل الجد؛ يعتقد تيد أنه عندما يسلمّ المتدينون بوجود الله، فإنهم يسلّمون بوجود شخص مادي يجلس حقًا على سحابة في مكان ما فوق السماء، يحدق لأسفل. وهكذا، من أجل دحض هذا الاعتقاد، يتفقد تيد كل سحابة ولا يجد مثل هذا الشخص على أيٍ منها.
من الجليّ أنه عندما يقول تيد بعدم وجود إله، باستخدام معنى “الله” كما يفهمه، فإن تيد لا يتعارض حقًا مع الشخص المتدين. علاوة على ذلك، في حين أن تيد ربما قد قام بدحض مفهومه الخاص من جملة الله موجود، إلا أنه فشل بشكل واضح في دحض ما يستخدمه الموحِّد المتمرس للتأكيد عندما يقول الله موجود.
بطبيعة الحال، فإن معظم نقاد الدين الملحدين ليسوا مسؤولين عن سوء الفهم هذا المثير للسخرية.[3] ولكنهم ربما مسؤولون عن شيء أكثر عمقا؛ غالبًا ما يؤكد اللاهوتيون على أن الله ليس “شيئًا”: الله ليس عنصرًا إضافيًا مشابها لعناصر الكون ومحتوياته. بالطبع، لا يوجد مثل هذا “الشيء”. وهكذا يقول اللاهوتي دينيس تيرنر للملحدين في كتابه “البحث عن الإيمان (٢٠٠٢)”:
“لا فائدة من الافتراض أنك لا تتفق معي عندما تقول: “لا يوجد ما يسمى بالرب.” لأنني قد وصلت إلى هناك قبلك بمدة طويلة”.
بالنظر إلى أن مفهوم الملحدين للرب من أنه عبارة عن “شيء” [من جنس ما هو في هذا العالم] الموجود بالإضافة إلى كل الأشياء الموجودة الأخرى، فمهما كانت الطريقة التي قد يصفون بها الله -مع انكارهم لوجوده -فإنهم سيفشلون بالفعل في نقض ما يعتقده اللاهوتيون المتمرسون مثل تيرنر.
ومن المثير للاهتمام أن فتغنشتاين نفسه يقول بأنه عندما يتعلق الأمر بالله، فإن القضية هنا ليست “وجود شيء”. لذلك ربما يتفقُ كلٌ من فتغنشتاين وتيرنر على النقطة ذاتها: إن إنكار الملحد لوجود الرب “كشيء” هو إنكارٌ لأمر لا يؤمن به أي شخصٍ متدين عاقل. وعلى أية حال، فإن وجهة النظر الثالثة الفتغنشتاينية حول كيفية عمل اللغة الدينية تواجه كذلك اعتراضات ذات أهمية.
أولاً: وجهة نظر الملحدين السلبيين تعد غير منطقية عندما تُستخدم مع العديد من الجمل الدينية. تأمل جملة قام المسيح من بين الأموات: هل نفترض أن المعنى الذي قصد المسيحي ايصاله باستخدامها يختلف عمَّا فهمه الملحد منها؟ بالتأكيد لا: معظمُ المسيحيون مؤمنون حقًا بالقيامة الجسدية كحقيقة تاريخية، تمامًا كما يفترض معارضوهم الملحدون.[4]
ثانياً: حتى لو أساء النقاد الملحدون فهمَ ما تعنيه جملة الله موجود -ربما يعتقدون أنه “شيء” مشابه للكون ومحتوياته -فلا يعني ذلك أنهم لم يدحضوا ما يلتزم به المتدينون عندما يقولون أن الله موجود. لنفترض على سبيل المثال أن ماري لا ترى بوجود إله كلي القدرة والخيرية، فلا يُحبَّذ للمؤمن أن يرد: ولكن يا ماري أنتِ تعتقدين أن كلمة “الله” تُستخدم للإشارة إلى كائن كلي القدرة والصلاح يعيش على سحابة، وأنا لا أومن بمثل هذا الشيء! وفي الحقيقة، ربما ماري لا تؤمن بوجود إله سواءً أساءت فهم ما يقصده المؤمن أو فهمته تمامًا.
ثالثًا: وفقًا لوجهة نظر الملحد السلبي؛ حتى ما إذا أساء الناقد الملحد فهم ما يعنيه المسيحي المتمرس بكلمة “الله” فهذا لا يعني أن ماري غير قادرة على استيعاب ما يعنيه المسيحي. وإذا ما كانت وجهة نظر الملحد السلبي صحيحة، فإن فهم ما يقصده الشخص المتدين المتمرس هو أمر واضح بما فيه الكفاية[5]: كل ما يحتاجه الملحد هو شطب “شيء”، و “يعيش على سحابة” … إلخ من قائمة السمات الإلهية.
لا تقدم التقريرات الفتغنشتاينية المذكورة أعلاه والتي تتعلق بكيفية استخدام اللغة الدينية كثيراً للناس المتدينين للرد على النقاد الملحدين. إِمّا لأنها فشلت في توفير نوع الحصانة التي كان يأملها كثير ممن عدّوا أنفسهم فتغنشتاينيين، أو أنها ليست مقنعةً كبيانٍ لكيفية استخدام معظم المتدينين للغة الدينية، بمن فيهم معظم الفتغنشتاينيين. وكما قال الفيلسوف جون سيرل ذات مرة: “عليك أن تكون من النوعِ النادر من المفكرين الدينيين لتُواصل الصلاةَ وأنت لا تعتقد بوجودِ إلهٍ حقيقي يستمع إلى صلواتك مهما كانت لغتك”.
اقرأ ايضاً: أكثر من الحب وأكثر من الخمرة
[1] قد يُعترض على المثال بأن الكلمة تتضمن معنيين متصاحبين هما: الإهانة وكون الشخص الذي وجهت إليه ألمانيا، فإذا لم يكن الشخص ألمانيا يصح حينها الاعتراض، لكن هنا “ماري” لم تكن تفتقد إلى السياق بكامله بل إلى جزء منه، وعليه فإذا وجه شخص ما إهانة لا تقال إلا لرجل ألماني لشخص غير ألماني فالاعتراض على استخدامه صحيح حتى لو لم نلتفت إلى الإهانة؛ لكن المسألة المطروحة هي: أن الملحد الذي يفتقد كامل السياق الذي تكون فيه عبارات المؤمن ذات معنى بالنسبة له، لا يمكنه دحض عقيدة المؤمنين من الخارج أو اعتمادا على قواعد “لعبة لغوية” أخرى -المراجع-
[2] وهذا يتضمن أنها لا تخبر شيئا عن العالم، فإن الذي لا يمكن دحضه ولا إثباته= هي العبارة الخالية من المعنى. والأهم من ذلك هو أنه إذا لم يكن ثم سياق مشترك يستطيع الملحد والمؤمن النقاش على أساسه، فلن يكون في العالم إمكان للحوار بين مجالين أصلا؛ فأي سياقين مهما بدا البون شاسعا بينهما فهناك مساحة تقاطع واشتراك، تتسع وتضيق كلٌ بحسبه، والفكرة القائلة بأنه يجب أن يرى الملحد ما يراه المؤمن من كل جزء من المعتقد الديني كي تقوم عليه الحجة= ليست صحيحة، بل يكفي الإمكان. بمعنى: أن الاعتقاد الديني منه ما يرتبط بسياق تاريخي وحضاري ونزعه عن هذا السياق يفقده دلالته -مثل معجزات الأنبياء- ومنه ما ليس كذلك -مثل وجود الله- فمن هنا يتبين أن الدين ليس على طبقة واحدة، فإذا كان الحديث عن النوع الثاني: فهذا لا يتطلب من غير المؤمن -إذا خلا عن المؤثرات النفسية والاجتماعية التي غيرت الفطرة- غير بحث عقلاني بسيط ومتجرد، أما النوع الأول فالمؤمن غير ملزم بإقناع غير المؤمن بوجود الله ابتداء بأنه كان ثمة نبي وله من المعجزات كذا وكذا، فإذا لم يكن على علم بالمنظومة التي تعطي هذا الحدث دلالته، فغاية ما يجب على المؤمن هو إمكان أن يعرف غيره كما عرف هو، فعلم العرب بلغتهم وإتقانهم لها أفادهم أن القرآن ليس من جنس كلام البشر، ولن يقدروا على الإتيان بمثله وهم خير من يعرف العربية، فإذا أتى أحدهم في القرن الحادي والعشرين ورأى غير ما رأوا= يقال له اعرف كما عرفوا تصل إلى ما وصلوا، لكن الاقتطاع وإهمال السياق التاريخي والحضاري المصاحب لنوعية معينة من المعتقد الديني ومعالجتها بمعزل عنه هو كمن يعرض صورة لخلية عصبية على رجل أمي لم يتعرض لا للكيمياء ولا البيولوجيا، فلن يرى فيها سوى خطوط لا تدل على شيء، لكن نفس الصورة تمثل معنى ما لشخص دارس. -المراجع-
[3] الحق أنهم مسؤولون، لأن من مبادئ نقد المخالف فهمُ مقالته على وجهها ودحض ما يفهمه هو منها، لا تأسيس معنى غريب لا يعرفه المخالف أصلا ولا يقر به ثم نقده، هذا يعرف بمغالطة رجل القش. -المراجع-
[4] وهذا يدل على وجود مساحات يمكن الحديث عنها، ولكن ليس كل المعتقد الديني من هذه النوعية. -المراجع-
[5] بما فيه الكفاية كي لا يكلف غير المؤمن نفسه عناء فهمه، العبرة في النهاية: هل ما فهمه الملحد من المعتقد الديني هو ما يقول به المؤمن أم لا؟ إذا لم يكن هو فلا كلام فيه أصلا، ولا يلزم المؤمن في شيء؛ وإذا كان هو فننتقل إلى الكلام على رتبة هذه الجزئية من الاعتقاد الديني، هل هي مما يدل ضمن سياق تاريخي وثقافي معين بحيث تتعين الحاجة إلى معرفته للوصول إلى العلم، فهذا يكفي فيه إمكان العلم، فيقال ادرس كما درسوا تعرف كما عرفوا، وإذا كان مما ليس كذلك: فالمؤمن يستطيع أن يقدم برهنة على معتقده اعتمادا على البدهيات والإجماعات الإنسانية والفطرة البشرية تماما كما يمكنه مخاطبة العقل السليم المتجرد من الأهواء. -المراجع-