- لحرش عبد السلام*
الفرنكفونية ربيبة الاستعمار
انطلقت فكرة الفرنكوفونية من كون اللغة لا تقوى إلا بكثرة الناطقين بها، واتساع مجالات استعمالها.
فالفرنكوفونية منذ البداية، ليست مجرد لغة للتواصل كباقي اللغات. ولم تبق مقتصرة على التنافس مع باقي لغات العالم في ميدان البحث العلمي، والمعرفي، وباقي مجالات التعليم والإبداع، بقدر ما أصبحت حركة تسعى إلى إغراق الشعوب الأخرى، في منتجات الثقافة الفرنسية، وتكوين مجموعة من الفرنكفونيين، الذين يتقنون اللغة الفرنسية، ويقرؤون الأدب الفرنسي، ويستمعون إلى الموسيقى الفرنسية، ويعرفون تاريخ فرنسا، وأعلامها عبر التاريخ، ويترجمون لأشهر الكتاب، والمفكرين الفرنسيين إلى لغاتهم الحديثة.
إذن الفرنكفونية في طبيعتها الميالة للهيمنة، لا تزيد عن كونها نموذجًا من نماذج الاستحواذ الحضاري، وغسيل المخ الجماعي للمجتمعات، بهدف إحداث انقلاب فكري في المجتمعات على المدى الطويل، لصالح الثقافة الفرنسية، وذلك على حساب القيم، والثقافة التي تصطبغ بها الشعوب الأصلية.
إذن طبيعة الهيمنة للفرنكفونية، لا يجعلها أفقا بالنسبة للمجتمعات الإسلامية، لضيق صدر الفرنكفونية عن قَبول الآخر، وقصدها في الهيمنة على باقي اللغات، زيادة على استلاب الهوية، والهيمنة الحضارية.
وتعود بدايات النموذج الفرنكفوني إلى البعثات التنصيرية التي دفعت بها فرنسا إلى الدول الإفريقية خلال استعمارها لتلك الدول في القرنين الماضيين (التاسع عشر والعشرين. وكان المد الاستعماري يتستر بالمعونات الإنسانية. وإثر انهيار الإمبراطورية الفرنسية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتحرر الدول المُستَعمَرة، تبلورت فكرة الفرانكفونية لمحاولة استعادة المجد الضائع، ولملمة العقد المنفرط، ثم أصبحت أكثر إلحاحًا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وتنامي الدور الأمريكي لمحاولة الهيمنة على العالم.
وعلى إثر التراجع المهول الذي عرفته الثقافة الفرنسية، ولغتها مقارنة بما كانت عليه سابقًا، وحيث أن اللغة الفرنسية فقدت كل إمكانية للتوسع داخل أوروبا، اتجهت فرنسا إلى مستعمراتها الإفريقية، بعد منتصف القرن العشرين من أجل إحلال الفرنسية، محل اللغات المحلية، واجتذاب الطاقات الفكرية لصالحها.
وفي البداية انتهجت فرنسا سياسة ثقافية شبه عالمية، محورها اللغة الفرنسية، كعامل مشترك يجمع بين شتات مستعمراتها السابقة، والدول التي انتُدبت عليها. وتتخذ من “تجمع الفرانكفونية” الذي أصبح يضم 52 دولة، يبلغ تعداد سكانها 450 مليون نسمة، من بينها خمس دول عربية هي: لبنان والمغرب وتونس وموريتانيا ومصر، -تتخذ منه-سبيلًا إلى ذلك، وتسعى من خلاله إلى التغلغل التدريجي في صميم الحياة الثقافية، والتعليمية والسياسية، والاقتصادية، بل والرياضية، والفنية لتلك الدول.
وفي البداية اتجهت الفرنكفونية نحو إخفاء طابعها الهيمني الاستعماري، وتقديم نفسها بدل ذلك على أنها حركة ومنظمة كونية، لمناصرة الهوية الثقافية للشعوب، ودعم الحوار بين الدول، ضدا على خط الهيمنة، وفكرة الصدام والصراع الحضاري الذي تجسده سياسات الإدارة الأمريكية، وخاصة بعد أحداث 11شتنبر 2001م.
من وسائل نشر الفرنكفونية
والمغرب باعتباره من الدول التي خضعت للاستعمار الفرنسي، ومن الدول التي توجد ضمن “تجمع الفرنكفونية”، فقد أصبحت للفرنكفونية آليات ووسائل تدافع بها من أجل التغلغل في سائر الميادين والمجالات بالمغرب.
فلقد اخترقت الفرنكوفونية كل مظاهر الحياة العامة في المغرب: الإدارات، المرافق العمومية، الشركات والمؤسسات الصناعية، التعليم، الثقافة حتى كثير من أسماء الشوارع والمقاهي، والمحلات التجارية تحمل الفرنسية.
لذلك فالفرنكوفونية في المغرب تبقى عند داعميها بالأساس، رهانا اقتصاديا للمؤسسات والشركات الاقتصادية والمالية التابعة لفرنسا، قصد توسيع نفوذها، زيادة أنها رهانا ثقافيا للأسر المترفة وعِلية القوم وأبنائهم، الذين يدرسون بالمؤسسات، والمعاهد الفرنسية. وتلك المعاهد الفرنسية الموجودة بأغلب المدن المغربية التي يُناط بها عملية فرنسة أبناء الطبقات الميسورة، وإعدادهم لتحصيل الشواهد الجامعية الكبرى، واستلام المناصب العليا في الإدارات.
وهكذا أصبحت اللغة الفرنسية، لغة النخبة المتحكمة في القرار السياسي والاقتصادي بالمغرب، مع تبرمها وتأففها من الحديث باللغة العربية، زيادة على أدائها الدور المنوط بها وهو الدفاع عن الفرنكفونية.
كما أن الشركات الفرنسية هي المستفيدة الأولى من كل الصفقات التجارية المغربية المعلن عنها، إلا في حالات نادرة، وليس ذلك فحسب، بل إن هذه الشركات تفوز بصفقات ليست من طبيعة اهتمامها، كبناء القناطر وشق الطرق، علما أن شركات إيطالية وإسبانية مشهود لها على الصعيد العالمي، بكفاءتها في هذا المجال.
وتجربة رئيس لجنة “النموذج التنموي” الذي يترأسه شكيب بنموسى (السفير الحالي للمغرب بفرنسا)، لا زالت حاضرة في الأذهان، حيث قدم تقرير لسفيرة فرنسا في الرباط “هيلين لوغال” في يونيو 2020م،حول خلاصات عمل اللجنة، قبل عرضها على المؤسسات والشعب المغربي. مما فجر موجة انتقادات واسعة من طرف المغاربة، واعتبروا أن ما أقدم عليه بنموسى يشكل “مسا بالسيادة الوطنية، وتكريس للتبعية العمياء للمستعمر القديم”. وتخيلوا لو أن سفيراً فرنسياً قام بربع ما قام به السفير المغربي بنموسى، أكيد ستقوم الدنيا ولن تقعد أبداً. فالسيادة الوطنية ليست مجالا للمقامرات والمغامرات المستفزة للشعور الوطني.
وهذا يدل على أن الفشل يعتري المشروع التنموي الجديد منذ البداية، نظرا لكون الرهان بات منصبا على فرنسا أكثر من المغرب، وكأن مستعمر الماضي القريب، أدرى بخصوصية وشؤون ومصالح بلادنا، أكثر من المغاربة أنفسهم !!
إن صياغة مشروع نموذج تنموي ينبغي يقوم على فهم خصوصيات واحتياجات المجتمع المغربي، وليس ربط المشاريع الوطنية بالاختيارات والطموحات الفرنسية، عبر استيراد النماذج والقوالب الجاهزة من فرنسا.
كما أن القطاع البنكي، أغلب مؤسساته يفرض على المواطن المغربي العادي المستفيد من خدماتهم، كتابة وثائقه البنكية بالفرنسية، وكذلك الشأن في قطاعات مالية أخرى.
فرنسة التعليم
كما أن المغرب لم يستطع تجاوز هيمنة اللغة الفرنسية في العديد من القطاعات الحساسة، بما في ذلك قطاع التعليم. وفي هذا المجال قد أثار قانون الإطار[1]، المعروف بـ”قانون فرنسة التعليم”، موضوع جدل واسع في المغرب، حتى بعد المصادقة عليه من طرف غرفتي البرلمان.
مشروع قانون-إطار 51.17، الذي أعده المجلس الأعلى للتربية والتكوين[2] (هيئة استشارية) أثارا الجدل من خلال الهندسة اللغوية، القانون، الذي يتكون من ديباجة و10 أبواب بـ 60 مادة، يمكن رصد هذه الهندسة اللغوية من خلال المادتين 2 و31
حيث ورد في المادة 2 “التناوب اللغوي مقاربة بيداغوجية، وخيار تربوي يستثمر في التعليم المزدوج أو المتعدد اللغات، يهدف تنويع لغات التدريس، وذلك بتعليم بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد باللغات الأجنبية، قصد تحسين التحصيل الدراسي فيها”.
وفي المادة 31 من الباب الخامس: إعمال مبدأ التناوب اللغوي من خلال تدريس بعض المواد، ولا سيما العلمية والتقنية منها، أو بعض المضامين أو المجزوءات في بعض المواد بلغة أو لغات أجنبية.
“إذن هاتان المادتان من قانون الإطار، فرضت اللغات الأجنبية لتدريس المواد العلمية، وغيرها في كل أسلاك التعليم”، مما يشكل شرعنة قانونية، لفرض التدريس باللغة الفرنسية، وتمكينا للمد الفرنكفوني بكل تجلياته في منظومة التربية والتكوين، والأخطر من ذلك مختلف مجالات الحياة العامة بالمغرب.
وفي قانون الإطار، قفزت اللغة الفرنسية، بقدرة قادر، من لغة الانفتاح، كما هو شأن جميع اللغات الأجنبية، في جميع منظومات التعليم عبر العالم، إلى لغة أساسية تتمتع بحق الترسيم الواقعي. حيث تمت ترقيتها إلى لغة أساسية في تدريس بعض المواد الدراسية (المواد العلمية والتقنية غالبا) ابتداء من مرحلة التعليم الإعدادي، وبالتأكيد المرحلة الثانوية والجامعية كاستمرار لسابقتهما.
وهناك خلط مقصود بين تدريس اللغات، التي نؤمن بضرورة تعلمها وإتقانها، ولغات التدريس التي وجب أن تقتصر على اللغتين الرسميتين-العربية والأمازيغية-الواردتين في الدستور.
إذن قانون الإطار الذي أعده المجلس الأعلى للتربية والتكوين، قام بأكبر عملية التفاف على الدستور أولا، الذي ينص على أن اللغتين الرسميتين للمغرب هما العربية والأمازيغية، حيث قام بإفراغ هذا المقتضى الدستوري من محتواه، بآلية ملتوية سمّتها “التناوب اللغوي” الذي لا يعني عمليا سوى فرض لغة غير دستورية في النظام التربوي المغربي، بحجة الانفتاح على اللغات الأجنبية، هذا الانفتاح الذي يتم في كل بلاد العالم من خلال “تدريس اللغات”، وليس بِلُغات التدريس.
وتحت تحت عناوين الهندسة، والتناوب والانسجام اللغوي وخلط مقصود بين تدريس اللغات، التي نؤمن بضرورة تعلمها وإتقانها، ولغات التدريس التي وجب أن تقتصر على اللغتين الرسميتين-العربية والأمازيغية-الواردتين في الدستور.
نعم للانفتاح على اللغات العالمية الحية، التي تساهم في تقدم الدولة والمجتمع مثل: الإنجليزية والألمانية والصينية في الطريق، وليست الفرنسية التي ساهمت في تخريب كل الامتداد الإفريقي، عبر استئصال ذاكرته الجماعية وتخريب حاضره السياسي، والاقتصادي.
وقد كشفت دراسة حديثة أعدها المجلس الثقافي البريطاني عن انخفاض رهيب في عدد الطلاب الذين يقررون تعلم اللغة الفرنسية في العالم، إذ تراجع العدد في المملكة المتحدة بنسبة 30 في المائة خلال الخمس سنوات الأخيرة، وهو نفس المنحى التنازلي الذي تأخذه الجزائر وكندا.
وجاء في التقرير الحديث للمجلس الثقافي البريطاني أنه في غضون عام 2020 ستصبح اللغة الإسبانية الثانية التي يتم تدريسها في المملكة المتحدة أمام الفرنسية.
كما أن ظهور الثورة الإعلامية، خاصة الإنترنت، واعتماده على الإنجليزية بشكل أساس، بدأت المؤشرات تتوالى على تراجع استخدام الفرنسية المنتجات التقنية.
ورغم أنّ الفرنسية ما زالت لغة مهمة، وهي إحدى اللغات الرسمية الستة بالأمم المتحدة، فإن البون يتسع بينها وبين الإنجليزية بمرور الوقت. ففي مجال المعلومات والأبحاث تتوافر المصادر والكتب باللغة الإنجليزية، أضعاف ما هو متوافر بالفرنسية، التي ما زالت تتفاخر بأنها لغة العطور والموضة والنبيذ، ولهذا بدأت الأصوات ترتفع بضرورة إحلال الإنجليزية محل الفرنسية في الجامعات، والمؤسسات التعليمية بالدول الفرنكوفونية.
كما أن اللغة الفرنسية أضرت بأجيال عديدة، وحرمتهم من فرص عمل، وتأهيل، توفره اللغة الإنجليزية لدارسيها، أكثر مما توفرها الفرنسية لطلابها.
لذلك، يجب على كل الفاعلين الثقافيين، والسياسيين والمدنيين، الوطنيين، مقاومة المد الفرنكفوني، من خلال تعبئة جماعية، تعيد الاعتزاز باللغة العربية، لتكون لغة للتدريس، وأهم مكون في الهوية الوطنية، مع الانفتاح على اللغات العالمية الحية التي تساهم في الارتقاء بالتعليم، وتحقيق التنمية، بدل الارتهان للغة الفرنسية، وبالأحرى للفرنكفونية، التي تحاول مسخ الهوية، واحتقار اللغة العربية.
- لحرش عبد السلام: كاتب ومدون مغربي
[1] مشروع قانون-إطار رقم 17.51، المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، أعد المجلس الأعلى للتعليم الرؤية الاستراتيجية 2015-2030 لإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، الوثيقة للملك بتاريخ 20 ماي 2015، بعد ذلك أعطى الملك هذه الوثيقة لرئيس الحكومة، ووجهه إلى صياغة إصلاح في إطار تعاقد وطني ملزم من خلال اعتماد قانون إطار يحدد رؤية الإصلاح على المدى البعيد، وفي 4 يناير 2018 صادق المجلس الحكومي على المشروع، ليعرض على المجلس الوزاري الذي صادق عليه بتاريخ 20 غشت 2018، ثم أحيل على مجلس النواب يوم 5 شتنبر 2018، وتمت المصادقة عليه بتاريخ 22 يوليوز 2019، وصدر في ظهير بتاريخ 9 غشت 2019، ونشر بالجريدة الرسمية بتاريخ 9 غشت 2019.
[2] المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، هيئة استشارية مستقلة، أحدثت بموجب الفصل 168 من الدستور(المغربي)؛ مهمتها إبداء الرأي في كل السياسات العمومية، والقضايا ذات الطابع الوطني، التي تهم ميادين التربية والتكوين والبحث العلمي.
يسعى المجلس، بصفته هيئة استشارية مستقلة للحكامة الجيدة والتنمية المستدامة والديمقراطية التشاركية، وأن يكون بوتقة للتفكير الاستراتيجي في قضايا التربية والتكوين والبحث العلمي وفضاء تعدديا للنقاش والتنسيق بشأن مختلف القضايا المتعلقة بهذه المجالات.
من أدوار المجلس كذلك، تنوير ذوي القرار والفاعلين والرأي العام، بواسطة التقييمات الكمية والنوعية، المنتظمة والدقيقة لمختلف مكونات منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي التي ينجزها.