عام

سأتولى هذا الأمر! الكمالية وأخطارها

  • فيجايتا سينه
  • ترجمة: أسيل جرار
  • تحرير: سهام سايح

ارفع يدك، إذا كانت الثقافة الأُسرية التي نشأت فيها تُملي عليك أن “أنجز هذا وتحمّل الأمر”. حيث تكون التوقعات منك كبيرةً بينما لا يهتم أحدٌ بما تشعر به، مما يدفعك للمُضي قدما ولو على حسابك الشخصي، فلا مجال للشعور بالضعف أو التردُّد. وعلى الرغم من صراعك الذاتي المستمر الذي لا ينفكّ يهمس في أذنك: “أنت لست جيداً بما فيه الكفاية “، فإنّك تستمر بسحقِ أيّ شعور بالخوفِ لعلمك أنّ الآخرين لن يتعاطفوا معك أو يراعوا احتياجاتك.

عندما ننشأ في ظروف كهذه، فإنّنا نتعلّم أن نبستم رغم ألمنا و انزعاجنا أو أن نكتفي بتمني زوالِهِما. كما أنّنا نتعلم كيف نتجاهل مشاعرنا وندسُّها تحت وسائدنا. أضف إلى ذلك عدم قُدرتنا على منح أنفسنا أية استراحة، لا بل وزد على ذلك، أننا قد نصل أحيانا إلى دفع أنفسنا نحو نقطة الانهيار. إنّنا بذلك نتعلّم أن نُقدر الانجاز أو التحصيل الزائد، اعتقاداً منّا أنّ الغاية تُبرّر الوسيلة والغاية هنا تتمثل بشعورنا المزعوم بالقوة و التماسك والشجاعة أمام أنفسنا وأمام الآخرين. كما لو أنّنا نُصوّر أنفسنا ونحن نتسابق نحو خط نهاية خيالي والجميع يقف خلفه يشجعوننا ويصفقون لنا، فيما نتجاوز الأهداف التي نضعها لأنفسنا لنقول في النهاية: ” ذلك لم يكن سيئا ! “

عندما نحكم على أنفسنا على أساس ما نُحقِّقه من نجاح وإنجازات ونعتقد أن الآخرين يُقيّمونَنا على هذا الأساس كذلك، فإنّنا نقع ضحية الاعتقاد الخاطئ بالكماليّة، مما يعني ظننا بأنّنا نتحكّم باحترام الآخرين لنا وإعجابهم بنا، فقط إذا كنا بخير ونُقدّم أحسن ما عندنا، وأنّ إظهارنا أيّ علامة للضعف أو القَابلية للتأثّر قد يثير اشمئزاز الآخرين.

تُوضّح بريني براون – أستاذة البحث في جامعة هيوسن والمؤلفة لعددٍ من الكتب حول الكماليّة والضُعف – كيف أنّ الكماليّة قد تكون خيَاراً غير صحي يتخذه الأشخاص عند السعي للإنجاز بالاعتماد بنسبة كبيرة على” ما يَعتقده الآخرون” وبنسبة أقل على الحرص على تحسين الذات.

تقول براون:

غالباً ما كنت ألاحظ هذه الحالة عبر سماع عباراتٍ مثل : “لا أحتاج للمساعدة فأنا لستُ مجنوناً كما تعلم” أو “نحن نعاني من المُشكلات ولكن من منّا لا يفعل!”  و التي تعكس لي أنّ هؤلاء الأشخاص يعانون من نفس الخَلل الذي يعاني منه أصحاب عبارة: “سأتولى هذا الأمر”. على الرغم من أنّ ظاهرة الكماليّة تبدو عالمية، إلاّ أنّ العملاء الذين يتصلون بي من آسيا الجنوبية هم أكثر من يعاني من هذه الظاهرة على ما يبدو، فعندما يُنظر إليك على أنّك من” الأقلية النموذجية” فإنّ ذلك يخلُق لديك الرغبة للظهور بصورة جيّدة لدى الآخرين ولو على حساب التضحيات الشخصية و الفردية. بالتالي فإن الصُمود لفترةٍ أطول من المحتمل أن تدفعهم في النهاية للشعور بالإحباط و اليأس و الغرق في الأَعباء.

إنّ الخوف من حُكم وسُخرية الآخرين “ماذا قد يظن الآخرون؟” والغرق بانعدام الثقة والهشاشة المفروضين ذاتياً، قد يجعل الأشخاص في بعض الأحيان يُركّزون بشكل أكبر على ما يعتقده الآخرون أكثر من التركيز على إمكانية العلاج النفسي كفرصة للنمو و الحرية والدعم العَاطفييْن. أمّا أنا فيمكنني القول أنني أعرف شيئا عن هذا الشعور كوني قد عانيت من نفس المشكلة لمدة طويلة.

كَونِي مغتربة تقوم على رعاية أسرتها و تحاول أن تُنهي دراسات الدكتوراه الخاصة بها فإنني قد تجرعت عبارة “يمكنني القيام بكل هذا بمفردي”. يمكنني أن ألعب دور الطالبة الذكية والأم الكفؤ التي تهتم بصحة أبنائها، والأخت و الشقيقة الداعمة و الأم و الابنة و زوجة الابن بشكل جيدٍ نسبياً. لقد كنتُ ماهرةً بإقناع نفسي بضرورة هذا وبالكاد أدركت ما كنت أقوم به في النهاية، ومع محاولة التوفيق بين التعلم و عائلتي ومهنتي، و المحافظة على كوني رائعةً طِوال الوقت أصبح الأمر متعباً و شاقاً. لم أرغب أبداً بالرفض، ظناً مني أنني أستطيع القيام بكل هذا في نفس الوقت. عندما أدركت أخيراً أنني قد جلبت لنفسي حِملاً كنت قد عَملت على خلقه، لم أشعر بالأسف على نفسي بل ظننت أني غبية و أنّ أحداً ما قد اكتشف هذا في وقت سابق. دعوني أقولها بوضوح: نحن نقسو على أنفسنا أحيانا أكثر مما ينبغي ونُصرّ على فعل الأمور بمفردنا. كما لو أن هنالك جائزة أو كأساً سوف يمنح في نهاية اليوم لأفضل خريج أو طالب أو زوجة أو أم، أو أخت، أو ابنة، أو كلِّ ذلك معا.

عندما ننظر للعلاج أو طلب المساعدة كدليل على الهزيمة و الفشل لا كعلامة على مراقبة النفس و القوة و الشجاعة، فإننا بذلك نعمل على إدامة هذه الوصمة، فالرفض يُبقينا عالقين في عجلة الهامستر، لأنّ “عدم اعترافنا بوجود مشكلة، يعني (باتباع طريقة تفكيرنا المعقدة) أنها ليست بمشكلة” وإذا لم تكن “مشكلة” إذن “أنا أستطيع التعامل مع هذا لوحدي ولستُ بحاجة للتحدث مع أحد عن الأمر فشكراً جزيلاً”.

ومما قد يُضاعف المشكلة، اعتقاد البعض بناءً على المظاهر أننا بخير وبأفضل حال بالتالي تقِل الفرص لتلقي المساعدة و الدعم. كما أنّنا نعمل بجدّ لنوهم أنفسنا أنّنا بخير، لذلك من باب الاحتياط فإنّه من المهم حال شعورنا بالضغط أن نقيس درجة حرارتنا العاطفية وأن نسأل أنفسنا كيف نُبلي. مما يساعد على إبقاء الأداء تحت السيطرة ويجعل الشخص أقل عُرضة لإصدار الأحكام و المقارنة بالآخرين. ليس من السهل العمل على تحسين انتقاص الذات وطبيعتك التنافسية في آن واحد. لكن في النهاية فإن وصولك لمرحلةٍ تستطيع أن تقول فيها إنني بحاجة للمساعدة ولترتيب أولوياتي فإن هذا بحد ذاته يعتبر خطوة كبيرة في الطريق الصحيح. هذا يدلُ على قدرتك على التخلي عن السيطرة وعدم الحاجة للشعور بأنك أفضل معلم أو مدرس أو طاه أو موظف أو زوج طوال الوقت.

بالنسبة لي كأم عاملة، فإنّ الطعام الذي أُعده ليس بالضرورة أن يكون دائماً بشكل وطعم رائعين، ولكنه على الرغم من ذلك صحي. و قد لا أكون قادرة طوال الوقت على قضاء وقت مُميّز مع عائلتي إلاّ أنني عندما أقوم بذلك فإنني أبقى بعيدة عن هاتفي أو أيّ مُشتتات أخرى. إنني أحاول أن أركّز على موازنة احتياجاتي إلى جانب احتياجات أطفالي و زوجي كما أعمل على إبقاء توقعاتي لنفسي وللآخرين واقعية وغير مرتفعة فأنا لم أعد أتفاخر بقول : ” أنا أستطيع القيام بهذا و هذا وهذا في نفس الوقت”.

اقرأ ايضاً: عمل المرأة: لماذا أصبح ضرورة؟

دائماً ما كُنت قلقة حِيال ما إذا كان هذا الأمر يجعلني أبدو ضعيفةً أو غير كافية أو خارج الصورة. كنت قلقة حول ما إذا كان أطفالي سيستاؤون إذا لم أُعِد لهم قالب حلوى في أعياد ميلادهم، أو أنّ زوجي سوف يتذمَّر إذا وجد المنزل في حالة فوضى، لكنني دائماً ما أتفاجئ بعدم اكتراث أحدهم لمثل هذه الأمور، بالتالي أدركت أنّ إقراري بضعفي ومواجهة مخاوفي ومعرفة أولوياتي (في أغلب الأيام) يساعدني على الشعور بأني إنسانة أكثر من كوني رجلاً آلياً.

اسأل نفسك عمّا إذا كان من المنطقي أن تتَمهل قليلا و ترجِع خطوة للوراء، أو عما إذا كانت مشاعر الغضب و الاستياء و الحزن تسيطر عليك لأنك مُتعب وغير سعيد في الوضع الراهن، أو عما إذا كنت تعتقد أنك يجب أن تحل مشاكلك بنفسك. بعد هذا كله، اسأل نفسك ما الذي يُبقيك عالقاً في كل هذا هل هو الكبرياء أو العناد، أو الخوف من عدم الكفاية أو تدنِي تقدير الذات. وفي النهاية اسأل نفسك “هل يستحق ذلك مني كلَّ هذا العناء؟”. فكما يقول مايكل فيلبس – السبّاح التنافسي المتقاعد و حامل لقب أولمبياد كل العصور و الحائز على ما مجموعه ثمانية وعشرين ميدالية – : “لا بأس أحيانا أن لا تكون على مَا يرام”.

اقرأ ايضاً: هوس السعي إلى الكمال


المراجع :

براون ب. (2008). ظننت أنني فقط من يشعُر بهذا ( لكن لم يكن الأمر كذلك): إخبار الحقيقة حول الكماليّة والقصور والقوة. نيويورك: جوثام بوكس.

المصدر: psychology today

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى