- جَاك مَادِين
- ترجمة: مها بنت سرحان العجمي
- تحرير: عَروب محمد
ما الذي يحدث عندما تنظر إلى خيارة؟ ببساطة ترى خيارة. إنّك بوعي ترى قطعة خضار مستطيلة غامقة الخضرة بكلّ ما فيها. ولكن ما الذي يحدث في الحقيقة في عينيك وعقلك لبناء هذه الرّؤية؟ تبدأ القصّة عندما تدير نظراتك إلى الضّوء، يضرب الضّوء الخيار، يمتّص بعضه، وينعكس البعض الآخر منه في قرنيّتك. يمر هذا الضّوء عبر بؤبؤ العين وتُركِّزه عدسة عينك على شبكيّة العين، وهي نسيج رقيق حسّاس للضوء يُحوّل الضّوء إلى إشارات كهربائيّة. ثمّ يتمّ إرسال هذه الإشارات الكهربائيّة إلى الدّماغ عبر العصب البصريّ لتتمّ معالجته في القشرة البصريّة ممّا يُتيح لك “رؤية” جسم مستطيل أخضر داكن، الذي تصنّفه بمهارة على أنه خيار. وهذا، بصفته ملخّص بسيط للغاية، هو ما يحدث عندما تنظر إلى خيار.
لكن هل هذه القصّة الوظيفيّة والبيولوجية تُفسّر كل ما يحدث؟
إذا سألنا عمّا يحدث، على سبيل المثال، عندما تلتقط الكاميرا صورة لخيار، فستكون القصّة الوظيفيّة مشابهة جدًا لتلك التي نحكيها عن أعيننا ودماغنا: تركّز الكاميرا على الضّوء من خلال عدستها، وتُعالج هذا الضّوء في صورة يتمّ تخزينها في الذّاكرة.
هنالك اختلاف واحد واضح بيننا وبين الكاميرات في هذا المثال: بصفتنا بشر، نختبر بوعي الصّور التي نلتقطها، لذلك لدينا تجربة حيّة في رؤية الخيار. ولن ننسب هذا النّوع من التجربة الداخلية الغنيّة إلى الكاميرا: وفقًا لشروطنا عندما تلتقط الصور، لا تواجه الكاميرات أيّ شيء منها على الإطلاق.
بالتّالي، قصّة ما يحدث عندما ننظر إلى الخيار تبدو غير مكتملة: فهي تشرح “كيف” يتم تجسيد التقاط صورة الخيار، لكنّها تغفل عن النّقطة الحاسمة المتعلّقة بالوعي. لماذا هذه العمليّة الجسديّة مصحوبة بتجربة محسوسة؟ وكيف يتمّ تحديد طبيعة هذه التّجربة الواعية؟ هل هو جزء من النّظام السببيّ الماديّ، مجرد مرافقة ذهنيّة دخيلة أم لا؟
تُمثّل هذه الأسئلة ما أطلق عليه الفيلسوف دَيفِيد تَشَالمرِز “المشكلة الصّعبة” للوعي. في مقالته التي صدرت عام 1995م بعنوان “مواجهة مشكلة الوعي الصّعبة”، كتب:
«المشكلة الصّعبة حقًا للوعي هي مشكلة التّجربة. عندما نفكّر وندرك، هنالك أزيز في معالجة المعلومات، ولكن هناك أيضًا جانبًا ذاتيًّا. [..] لماذا عندما تنخرط أنظمتنا المعرفيّة في معالجة المعلومات المرئيّة والسّمعية، يكون لدينا خبرة بصريّة أو سمعيّة: جودة اللّون الأزرق الغامق وإحساس بجمال موسيقى معينة؟ كيف يمكننا أن نُفسّر سبب وجود شيء يشبه المتعة عند رؤية صورة ذهنيّة أو تجربة عاطفيّة؟ من المتّفق عليه على نطاق واسع أنّ التّجربة تنشأ من أساس ماديّ، لكن ليس لدينا تفسير جيّد لسبب وكيفيّة ظهورها. لماذا يجب على الماديّة أن تؤدّي إلى حياة داخليّة غنيّة وكيف؟ يبدو أنّه من غير المعقول من النّاحية الموضوعيّة أن تفعل ذلك، ومع ذلك فهي كذلك».
يعتقد تَشَالمرِز حل مشكلة الوعي لا يكمن في مجرّد وصف العمليات الماديّة المصاحبة له. تكمن المشكلة الصّعبة حقًا كما يوضّحها مثال الخيار لدينا في الإجابة عن سبب حدوث التّجربة الواعية من الأساس.
ما التّجربة الواعية؟
الوعي مستعصٍ على الحل، ومن الصّعب تحديده، ومن الصّعب تعريفه حتّى بأكثر التعريفات عموميّة. هل ما يحدث مجرد يقظة؟ تقبّل؟ وعي؟ نعم، لكنّه يشير أيضًا إلى شيء آخر: فهذه التّجربة تشير إلى الإدراك، وفي الواقع ليس فقط التقاط صورة للخيار، بل رؤية أعمق من هذا.
إذًا ما هي التّجربة الواعية بالضبّط؟ ربّما يمكننا القول أنّا عندما نكون واعين نشعر بالإحساس النّوعيّ الذّاتيّ لما نختبره: الاحمرار النّابض للطّماطم النّاضجة، والنعومة الباردة للحرير، والصّوت الجهير الفرعيّ لقصف الرّعد. لكن في الأدبيات المتعلّقة بالوعي، توجد مجموعة كاملة من المصطلحات المستخدمة لوصفه، بما في ذلك الخبرة الواعية الذّاتية والخبرة النوعيّة والتّجربة الظاهراتيّة و”المشاعر الخام” والكُوَاليَا.
أكثر من ميّز الوعي كما أعتقد، هو تُوماس نَاغِل في كتابه “ما هو شعور أن تكون خُفّاشًا؟” مقال كُتِب عام 1974م:
«يكون لدى الكائن الحيّ حالات عقليّة واعية إذا كان هناك شيء يشبه أن يكون ذلك الكائن؛ أيّ شيء يشبه الكائن الحيّ..
في الواقع، النّقطة المتعلّقة بالتّجربة الواعية هي أنّ هناك شيئًا شبيه بتجربة رؤية الشّخص لشيء ما، أو سماعه لشيء ما، أو شعوره بشيء ما، ومن خلال تجاربنا الواعية الذاتيّة، كل منّا يعرف العالم».
كيف ينشأ الوعي؟
حتى مع وجود فكرة عمليّة عمّا تُشير إليه التّجربة الواعية، تظل محاطة بالغموض. إمكانية المادة أن تستضيف أو تؤدي إلى مثل هذه الظاهرة: هو شيء غير مُفسَّر لدى كل من العلم والفلسفة؛ غير مُفسَّر، لكن ليس غير مُكتَشَف.
عقيدة الماديّة التي تنصّ على أنّ الأشياء الماديّة هي ما يوجد في الكون فقط، تعني أنّ الوعي ماديّ، بمعنى أنّه النّتيجة الفسيولوجيّة للعمليّات والحالات البيولوجيّة للدّماغ.
يقول المتفائلون حول النّظريات الماديّة للوعي أنّه على الرّغم من أنّا قد لا نمتلك حاليًا جميع الإجابات حول كيف ولماذا أو في أيّ شكل تكون التّجارب الواعية ماديّة؛ فمع استمرار البحث في الدّماغ سيتم حل مشكلة الوعي الصّعبة داخل النّظام الماديّ.
منتقدو الماديّة يخالفون هذا المبدأ؛ فهم يُجادلون بأنّه من الصّعب تخيّل كيف يمكن للمشاعر الذّاتيّة والفريدة والمعقّدة التي تنطوي على حالات واعية للبصر والشّم والسّمع واللّمس والتّذوق أن تتقلّص إلى تنظيمات ماديّة مُعيّنة في الخلايا العصبيّة في الدّماغ. كيف يمكن أن تُفسِّر “الأشياء” الماديّة التّجربة الذّاتية المحسوسة لقضم الخيار البارد في يوم صيفيّ حار؟ الفجوة التّفسيريّة بين عمليات الدّماغ الماديّة وحياتنا الدّاخلية الغنيّة للتّجربة الواعية هي ببساطة واسعة جدًا بحيث لا يمكن سدّها باستخدام الماديّة فقط؛ يجب أن يكون هناك ما هو أعمق من الماديّة لاستكمال الصّورة.
ومع ذلك، إذا رفض المرء نظرية ماديّة الوعي، فإنه يعترف بوجود أشياء غير ماديّة، ولا وجود للأشياء غير الماديّة في الصّورة العلميّة الحاليّة للعالم. لذلك، بدائل الماديّة لا تُعيد التّفكير في طبيعة الوعي فقط، بل في نسيج الواقع بأكمله.
كل شيء واعٍ
إحدى النّظريات التي تستحق الذّكر بإيجاز بصفتها نقطة مُقَابِلَة للماديّة هي نظريّة الرّوحية الشّاملة (panpsychism). وهي فكرة أنّ كل شيء واعٍ في شكل ما، من الخيار والملفوف إلى الإلكترونات وقطرات المطر. في حين أنّ هناك أشكالًا مختلفة من الرّوحية الشّاملة، فإنّ الموضوع الرّئيس هو أنّ الوعي لبنة أساس للوجود، بالتّالي يحلّ لغز الكيفيّة. قد ينبثق الوعي المعقّد من الأنظمة الماديّة من خلال تجاوزه تمامًا.
لا تعني وجهة نظر الرّوحية الشّاملة بالضرورة أنّ كل شيء يختبر العالم كما يفعل البشر؛ إنّها تعني ببساطة أنّ كل شيء على المستوى الجزئيّ، يحتوي على أشياء من العقل الواعي.
تمامًا كما هو الحال مع “الأشياء” الماديّة التقليديّة ذات المستوى الجزئي، يمكن ترتيب اللّبنات الأساس لنزعة الرّوحية الشّاملة بطرق تؤدي إلى أنظمة بسيطة أو معقّدة. العقول البشرية متطوّرة للغاية وبالتّالي لديها وعي متطوّر للغاية. أدمغة الفئران أقلّ من ذلك. الخيار أقلّ من ذلك. بالتّالي، الوعي ليس ثنائيًا، لكنّه تطوّر بالتّزامن مع الحياة من الأشكال البسيطة إلى الشّكل المعقّد الذي نختبره اليوم.[1]
ماذا يحدث عندما تنظر إلى خيار؟
بينما أصبحت نظريّة الرّوحيّة الشّاملة أكثر شيوعًا بصفتها نظريّة، يظلّ الوعي عمومًا في مهده بصفته مجال للبحث، وهو محفوف بالجدل والنّقاش. يُنكر بعض المفكّرين الفيزيائيين مثل دَانيال دَينِيت وجود مشكلة الوعي الصعبة، مُدّعِين أنها مجرد وهم من صنعنا. بينما المناهضون للماديّة مثل تَشَالمِرز يشعرون بالمشكلة العميقة.
بغضّ النّظر عمّا إذا كنت تميل إلى الماديّة أو نظريّة غير فيزيائية مثل الرّوحيّة الشّاملة، في المرة القادمة التي تنظر فيها إلى خيار، خذ لحظة للتّفكير فيما يحدث في عقلك، وإلى أيّ مدى لا يزال يتعيّن علينا جميعًا أن نتعلّم.
[1] – انظر مقال: https://atharah.net/the-mind-evolution-problem/