- رينيه دانزيجر
- ترجمة: آلاء رضا
بأبسط صورة، يتكون الانتقام من قيام الطرف أ بطريقة ما بالثأر من الطرف ب لقيامه بإيذاء الطرف أ، لكن السؤال هنا: لماذا يرغب الطرف أ بالقيام بذلك؟
فالأمر يبدو من نواح كثيرة غير عقلانيّ، وذلك بالنظر إلى أن الانتقام لن يتمكن من إبطال الأضرار التي حدثت للطرف الأول. ليس هذا فقط، بل إن الانتقام نادرا ما ينتج عنه أكثر من شعور عابر ووقتي بالراحة والرضا. وعلى الرغم من ذلك، معظمنا يألف الحاجة إلى الانتقام، ويمكن للكثير منا، في بعض الأحيان، أن يتصرف بناء على هذه الرغبة، فما الذي يجعل الرغبة في الإنتقام رغبة من الصعب التخلي عنها؟
عزا العديد من الكُتاب؛ ومنهم عالم النفس الأمريكي مايكل ماكّولوغ، إنتشار الإنتقام في كل مكان إلى وظيفته التطوّرية الرادعة والهامة. والفكرة هنا هي أنّه -ومنذ زمن بعيد- أدرك الإنسان أنّه إذا ردّ على المعتدي بقوة كافية، فإنّ المعتدي سيمتنع عن أيّة هجمات مستقبلية خوفا من المزيد من الانتقام. ووفقا لهذا الرأي، كان الانتقام استجابة تكيّفية لمخاطر حالة الطبيعة، وتطوّر بمرور الوقت ليصبح سّمة عالمية.
على الرغم من أن حجة الردع هذه مقنعة من نواح عديدة، إلا أنّ التّجربة تظهر أنّ أعمال العنف غالبا ماتثير المزيد من الأذى بدلا من ردعها له.
فعندما انتقم الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما من دونالد ترامب لنشره النظريات “البرثية” (حيث ادّعى أنّ باراك أوباما لم يولد في الولايات المتحدة) من خلال السخرية منه في عشاء جمعية مراسلي البيت الأبيض في عام ٢٠١١، ربما لم يتوقع انتقام ترامب المضاد بعد خمس سنوات لاحقة.
وجادل بعض المراقبين أمثال ديفيد كورن بأنّ الرغبة في الانتقام المضاد حينها كانت عاملا رئيسيا في قرار ترامب للترشح للرئاسة في عام ٢٠١٦. وبمجرد أن تم انتخابه، ذهب ترامب إلى أبعد مدى للانتقام لنفسه، من خلال التراجع عن الكثير من التشريعات التي قام بها أوباما. وكذلك الإشارة علنـا إلى أوباما كأحد أسوأ الرؤساء في تاريخ الولايات المتحدة.
إنّ هذا النوع من الدورة الانتقامية يحدث في حياتنا اليومية كذلك (على سبيل المثال؛ فكر في تصعيد ضوضاء السيّارات والقيادة العدوانية والتي غالبـا ما تسبق أفعالا أكثر تدميرية من الغضب على الطريق)، كذلك الأمر في السياسة والحرب.
كما أنّ الهجمات المتكررة بين المحتل الإسرائيلي والسكان الفلسطينيين في الضفة الغربية تتعلق بشكل أساسي بمسائل حقوق الإنسان، وملكية الأراضي، ولكنها بمعنى أكثر إلحاحا هي أعمال انتقام وانتقام مضاد لقتل السكان المحليين. فإذا كان هذا الانتقام لايمكن تفسيره من خلال وظيفته المزعومة في الحفاظ على الذات؛ فكيف بإمكاننا إذن تفسير انتشاره؟
في كتابه الشرف والانتقام (٢٠١٣)، جادل الفيلسوف وايتلي كوفمان باقتناع، بأنّ الانتقام موجودٌ في كل مكان بسبب ارتباطه الذي لاينفصم بالدفاع عن شرف الفرد. بالنسبة لكوفمان، الانتقام ليس مدفوعا بفوائد مستقبلية محتملة مثل الردع، بل هو يعيد -في حد ذاته- شرف الشخص. ووفقا لهذا الرأي، فإنّ استرداد الشرف هو مايجعل الانتقام مقنعا ومرضيا للغاية، سواء تم تنفيذه من خلال أفعال انتقامية عفوية أو عن طريق أعمال انتقام محسوبة بدقة أكبر.
بالرغم من أنّ حجة الشرف لدى كوفمان قوية، إلا أنّها لا تأخذ في الحسبان حقيقة أنّ الدافع للانتقام يتطوّر في الواقع، في وقت أبكر في الحيّاة عن مفاهيم الشرف والتي تم بناؤها مجتمعيا. وعلى عكس الشرف؛ فإنّ الرغبة في الانتقام تسبق التنشئة الإجتماعية وتظهر في المراحل المبكرة من الحياة، وإن يكن ذلك بشكل بدائي للغاية.
إنّ أيّ شخص قد شاهد طفلا ينخرط في رد فعل جسدي مرارا مع والدته أو من يقدم له الرعاية، -في بعض الأحيان يكون بشكل مرح، وفي أحيان أخرى يكون أكثر اشتباكا- سوف يشهد شكلا بسيطـا من المعاملة بالمثل بين الأم وطفلها.
وقد وجد طبيب الأطفال والمحلل النفسي دونالد وينيكوت خلال خبرته الواسعة مع الأطفال المرضى أنّ شكلا خامـا من الانتقام يمكن ملاحظته في بعض الأطفال حتى من لاتتجاوز أعمارهم أسابيع قليلة.
إنّ هذا الرأي لايقترح بالضرورة أنّ الطفل يتصور أفعاله من حيث الانتقام والثأر. ففي هذه المرحلة المبكرة يكون دافعـا غريزيـا خاليا من المعنى الرمزي للرضيع، والذي لايزال غير قادر على التفكير التمثيلي. فهي استجابةٌ بدائيةٌ لما يبدو وكأنه تهديدا للذات الجسدية. ولكن عندما ينمو الرضيع إلى طفل ثم يصبح بالغـا، تكتسب الذات عددا من السمات الجسدية والعاطفية والنفسية؛ ومن ثَمّ تصبح التهديدات على الذات أكثر تعقيدا ودقة. كما أنه في المراحل الأكثر نضجـا من التطور النفسي والاجتماعي يظهر الشعور بالخزي أو الشرف جنبا إلى جنب مع المشاعر المعقدة الأخرى؛ مثل الضعف والخوف. وقد يكون من الصعب تحمل هذه المشاعر العسيرة، فضلا عن الاضطرابات الذهنية التي تصاحبها غالبـا. وفي حالات كثيرة، يحاول الناس إراحة أنفسهم من هذه المشاعر من خلال إسقاطها على الآخرين، وعادة يكون ذلك مع الأشخاص الذين يعتبرونهم مسؤولين عن مظالمهم، وهنا يأتي دور الأفعال الانتقامية.
وتكون بعض أفعال الانتقام غير ضارة نسبيّـا؛ فعندما ينتزع طفلٌ لعبة من طفل آخر، قد يستجيب الطفل المتضرر من خلال هدم لعبة برج التّراصّ للطفل الأول: عملٌ انتقاميٌّ بسيط، يكون فيه المعتدي لمرة واحدة هو الذي يعاني الآن من الخزي والغضب.
وعندما يقاطع شخص ما، طابور انتظار الحافلة؛ هذا الفعل قد يدفع الشخص الواقف خلفه إلى أن يدفعه (عمدا متظاهرا بأنه عن غير قصد) بمجرد صعوده إلى الحافلة. وعندما يسألك ساعي البريد عمّا إذا كنت ستستلم طرد جارك المزعج جدا والذي يبقيك ضجيجه مستيقظا في الليل، فقد ترفض بأدب. كل هذه هي أمثلةٌ عمّا يمكن أن يطلق عليه ” الانتقام العادي “. وأحد أسباب اعتبارها عادية هو أنّ الانتقام يتناسب تقريبـا مع كم الضرر الذي قد وقع.
إنّ التناسب مفهومٌ معقد، ومع ذلك، فإنّ ما يعتبر متناسبا في سياق ما قد ينظر إليه على أنّه قاس بشكل غير مقبول (أو متسامح) في سياق آخر.
ومن الأمثلة على ذلك ما يسمى بجرائم الشرف؛ حيث يعتبر في بعض المجتمعات أنّه من المناسب معاقبة المرأة على جريمة التحدث مع رجل غير زوجها، وذلك بأشكال وحشيّة من التعذيب أو حتى بالموت. بينما يعتبر هذا الأمر – في نظر الكثير من الناس – شكلا قاسيًا من الانتقام مقابل فعل لا يمكن حتى أن يعتبر ضررا.
اقرأ ايضًا: لماذا نغضب؟
إنّ طبيعة “التناسب” المعتمدة في السياق لا تعني أنّنا يجب أنّ نستغني عنها حين التقرير في الفرق بين “الانتقام العاديّ” و”الانتقام المتطرف”. وهناك طريقةٌ واحدةٌ للتخلص من هذا المأزق الذي ينتج عن احترام النسبية؛ وهي الاعتماد على منطق أليسون دونديس رنتلن، والذي توضحه بالتفصيل في مناقشتها حول المقاربة بين الثقافات لإقرار حقوق الإنسان الدولية.
يؤدي هذا المنطق إلى موقف يمكننا فيه النظر إلى فعل معين على أنه انتقامي وقاس أو متطرف بشكل غير مقبول، مع الاعتراف أيضا بأنّ نفس هذه الممارسة المعنية تعتبر “مقبولة وملائمة” في سياق ثقافي مختلف.
وهذا الأمر يمكن المرء من الحفاظ على احترام صحيّ للنسبيّة، دون فقدان القدرة على الحكم على صفات فعل انتقامي محدد.
وإلى جانب التناسب، هناك معيارٌ آخر يجب أن يفي به الانتقام الاعتيادي؛ وهو أن يكون موجهـا للشخص أو الأشخاص الذين تسببوا بالفعل بالضرر المتصوّر. وهذا أمرٌ قد يبدو جليّـا؛ ومع ذلك، فإنّ العديد من الأعمال الانتقاميّة تستهدف في الواقع أناسا أبرياء من التسبب في أي ضرر على الإطلاق.
وهذه قد تكون مسألة راديكالية وليست انتقاما عاديا، وأكثر مثال شائع على مسألة الانتقام الراديكالي هو الانتقام الإباحي.
اقرأ ايضًا: ما الذي يُغضب المتعجرفين؟
إنّ العديد من مرتكبي الانتقام الإباحي هم رجالٌ يشعرون بالخزي والضعف حين ينفصل الشريك عنهم، ويكون ردهم على ذلك من خلال نشر صور ومقاطع الفيديو الخاصة لشريكهم السابق على الإنترنت. وبهذه الطريقة يحاولون إسقاط مشاعرهم الخاصة بالخزي والعار على شريكهم السابق؛ من خلال جعل هذا الأخير يشعر بالخزي والضعف كذلك.
صوفي مورتايمر؛ وهي مديرة خدمة (خط مساعدة ضحايا الانتقام الإباحي) في المملكة المتحدة، تناقش وبشكل مقنع بأن “الانتقام الإباحي” هي تسمية خاطئة؛ لأن كلمة الانتقام تشير خطأً إلى الضحية قد ارتكبت أمرا خاطئـا، في حين أنّ كل ما فعلوه غالبـا هو إنهاء الصلة، ومع ذلك، يشعر الجاني أنّ انتقامه مشروع.
تصل هذه المعضلة إلى قلب الانتقام الراديكالي. وفي الواقع، إنّ هدف الانتقام الإباحي لم يقدم شيئـا لتبرير الانتهاك الفظيع لخصوصية المجني عليه. أما في ذهن الجاني المضطرب، الضحية تستحق أن تعاني لتسببها بهذا الكم من الخزي والألم.
إنّ الدافع للانتقام جزءٌ من حالة الإنسان، والرغبة في إظهار المشاعر المعقدة أمرٌ نألفه جميعا، على الرغم من أنّنا لاندرك ذلك دائما، لكن الذي يهم ليس ما إذا كنا نشعر بالحاجة إلى الانتقام، بل ما نفعله مع هذه الحاجة. قد نستطيع إرضاء أنفسنا بخيال الانتقام، أو عن طريق إزاحة مشاعرنا إلى كائن جامد (على سبيل المثال، حين يخلع الأطفال رؤوس ألعابهم بينما يتخيلون – على مستوى ما – أنهم يقطعون رأس شخص ما). أو قد نرضى بشيء عادي وغير ضار نسبيّـا. وهذا فقط في حالة اليأس؛ وغالبا من خلال التفكير الواهم؛ قد يتجه البعض إلى أفعال تدميرية كأشكال من الانتقام الراديكالي المتطرف.
اقرأ ايضًا: عن الحسد
الانتقام هو شر كامن في النفوس والغلبة لمن غلب نفسه
سلمت الأيدي على هذا المقال