عام

ثلاثية التحصيل

  • منير حقي
  • تحرير: فاطمة حسام السوادي

الحمدلله وبعد،

فإن المشاهد للبرامج العلمية أكانت في أرض الواقع، أو برامج التعلم عن بعد -وهي أكثر من حيث عدد الدارسين-، يجد أمرا مفرحا ويستبشر به خيرا عظيما؛ أن الأمة بدأت تتلمس مصدر عزتها وفخرها. إلا أن هناك أمرا ينبغي التنبه له، وتفعيله في هذه البرامج -لا يقل أهمية عن المادة العلمية والمهارية- ألا وهو المكون الإيماني لطالب الفقه في الدين. وهذا المكون صمام الأمان لحفظ بوصلة طالب العلم من الإنحرافات ،فكم من مشاريع بدأت لوجه الله تعالى ثم انحرفت عن مسارها لمطامع شخصية وتوظيفات سياسية ومنافع حزبية.

ولما كان العلم بالله أشرف العلوم لشرف معلومه أمر الله تعالى نبيه ﷺ بالاستزادة منه (وقل ربي زدني علما). ومن أجمل الآثار الواردة في كتب التفسير لهذه الآية، أن الصحابي الجليل ابن مسعود كان عند قراءته لهذه الآية  يقول (رب زدني علما وإيمانيا ويقينا) وهذا من جوامع الدعاء. احتوى هذا الدعاء على معاني متشبعة بالفهم لمقاصد العلم  من صحبة معلم الناس الخير ﷺ. وقرر الله هذا العلم عبادة من أجل العبادات؛ لشرف مقامه عز وجل. وجعل مجرد طلبه طاعة يثاب صاحبها. وتأمل قول الحق جل وعلا كيف ميز بين أهل هذا العلم وغيرهم فقال:(أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون) فما حملهم على هذه المنازل العالية الا علمهم بالله تعالى الذي اورثهم هذه الخشية.

ولقد قابلت كثيرا من محبي العلم، الباذلين فيه كثير وقت وجهد بحثا عن الخطط والمهارات التي قد تصل الى درجة المبالغة. ولكن قلَّ أن تجد من يجعل لنفسه خطة للترقي في معارج الإيمان، يندر ان  تجد من اذا ضيع ورده من الدعاء أو الذكر أو الصلاة يتحسر على هذا الحرمان، وإنما يجعله كثير منهم أمرا ثانويا، بل قد يعتبرها  بعضهم ضربا من الدروشة.

العلم الذي لايُورّث سلوكا تربويا وإيمانا يرتقي بصاحبه الى معارج اليقين، يكون ضرره على صاحبه أكثر من نفعه. فيصبح العلم لأجل المناكفات والتباهي وتوظيفه لأمور شتى لا تخفى على أي شخص له أدنى اطلاع على  الواقع وأحداثه، فيصير الطالب جزء من المشكلة لا جزءا من الحل! وإن علما لايقود صاحبه الى تعظيم الله تعالى ودوام مراقبته والمبادرة إلى طاعته لهو جهل! وإن خُيّل لصاحبه غير ذلك…  و المراقب لمجريات الساحة العلمية يراها سمة بارزة. فقل لي بربك كم قابلتَ من طلبة علم يشار إليهم في أبواب معينة ورأيت حساباتهم على مواقع التواصل وغيرها فلاتجدهم يذكرون الناس بفضائل الأعمال واغتنام الأيام الفاضلة إلا نزرا يسيرا. ألايخشون في الله أن يلمزوا بصفة الواعظ! نعم…هذه الصفة الشريفة التي يتحاشى كثير من الناس ذكر الأعمال الفاضلة خشية أن يوصفوا بها. ليس المراد من ذلك أن يكون الكل وعّاظا وإن كان ذلك شرفٌ لا يوفق له كل أحد، واتفهم طبائع العلم وشخصياته وابواب الإصلاح فيه، ولكن فصلها بهذه الصورة أمر موجع للقلب.

وهذه الظاهرة قديمة، اعتنى  الأئمة  بالتحذير منها كثيرا وتجد أن كل عالم نبه عليها بشكل عام وبعضهم نبه على الفن الذي اشتهر به. فيقول الفقيه الشافعي تاج الدين عبدالوهاب السبكي متحسراً  على أهل زمنه وعلى المشتغلين بفنه ((ومنهم طائفةٌ لا تترك الفرائض، ولكنَّها أحبَّت العلم والمناظرة وأن يُقال: فلان اليوم فقيه البلد، حبًّا اختلط بعظمها ولحمها، فاستغرقت فيه أكثر أوقاتها، واستهانت بالنوافل، ونسيت القرآن بعد حفظه، وشمخت بآنافها مع ذلك، وقالت: نحن العلماء: وإذا قامت لصلاة الفريضة قامت أربعًا لا تذكر اللَّه فيها إلَّا قليلًا، مزجت صلاتها بالفكر في باب الحيض ودقائق الجنايات. وربَّما جاء ليقول: إيَّاك نعبد وإياك نستعين، فسبق لسانه إلى ما هو مفكَّر فيه من جزئيات الفروع، فنطقَ به. ثم إذا سألت واحدًا من هذه الطائفة: أصلَّيت سنَّة الظهر؟. قال لك: قال الشافعي: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة أو قلت له: أخشعت في صلاتك؟. قال: ليس الخشوع من شرائط صحة الصلاة. أو قلت له: أنسيت القرآن؟. قال لك: لم يقل إن نسيانه كبيرة إلَّا صاحب العدة، وما الدليل على ذلك؟ وأنا لم أنسَ الجميع؛ فإنِّي أحفظ الفاتحة، وكثيرًا من القرآن غيرها. فقل له: أيُّها الفقيه، كلمة حق أريد بها باطل؛ إنَّ الشافعيّ لم يعن ما أردت، ولكلامه تقرير لسنا له الآن، ويخشى على من هذا شأنه المروق من الدين رأسًا)) (معيد النعم ومبيد النقم (ص68)) وفي سير أعلام النبلاء (7/167) ذكر الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمة الإمام مسعر بن كدام قوله (إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله، وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون ؟) ثم علق عليها بما يزيل توهم التعارض بين طلب العلم والعبادة وما يرى آثار ذلك على المشتغلين بعلم الحديث ((قلت : هذه مسألة مختلف فيها : هل طلب العلم أفضل، أو صلاة النافلة والتلاوة والذكر ؟ فأما من كان مخلصا لله في طلب العلم، وذهنه جيد، فالعلم أولى، ولكن مع حظ من صلاة وتعبد، فإن رأيته مجدا في طلب العلم، لا حظ له في القربات، فهذا كسلان مهين، وليس هو بصادق في حسن نيته.وأما من كان طلبه الحديث والفقه غية ومحبة نفسانية، فالعبادة في حقه أفضل، بل ما بينهما أفعل تفضيل، وهذا تقسيم في الجملة، فقلَّ – والله – من رأيته مخلصا في طلب العلم، دعنا من هذا كله. فليس طلب الحديث اليوم على الوضع المتعارف من حيز طلب العلم، بل اصطلاح وطلب أسانيد عالية، وأخذ عن شيخ لا يعي، وتسميع لطفل يلعب ولا يفهم، أو لرضيع يبكي، أو لفقيه يتحدث مع حدث، أو آخر ينسخ. وفاضلهم مشغول عن الحديث بكتابة الأسماء أو بالنعاس، والقارئ إن كان له مشاركة فليس عنده من الفضيلة أكثر من قراءة ما في الجزء، سواء تصحف عليه الاسم، أو اختبط المتن، أو كان من الموضوعات. فالعلم عن هؤلاء بمعزل، والعمل لا أكاد أراه، بل أرى أمورا سيئة. نسأل الله العفو))

وثمة خلط يحصل لدى بعض طلبة العلم، بين العلوم التي تصنع عقلية طالب العلم، وتشحذ ذهنه وتقوي ملكته من تفكير وتحليل واكتساب مهارات، وبين العلم الذي يورث صاحبه الخضوع والإخبات لمولاه، العلم الذي يجعل صاحبه باحثا للموعظة، باحثا عن أمر يرقق القلب من رياح القسوة. فالأولى يؤجر عليها إن شاء الله إن قصد بها المقاصد الحسنة، وهي وسيلة للثانية، ولكن الإغراق فيها ليس جيدا، وإنما حصر للعلم فيها وتسلية النفس وهذا يحتاج للمراجعة والتأمل.  فـ”من طلب العلم للعمل كسره العلم، وبكى على نفسه ومن طلبه للمدارس والإفتاء والفخر والرياء تحامق، واختال، وازدرى الناس، وأهلكه العجب، ومقتته الأنفس”. الذهبي “سيرالأعلام”18/192.

وليس المراد من ذلك أن يعمل الإنسان بكل مايعلم، فهذا مقام الأنبياء والصحابة، وإنما ينبغي له أن يسدد ويقارب، وأن يجعل له أصلا لايتنازل عنه، ويجعل له كمالا يتدرج في منازله. وليجعل نصب عينيه حصون الإيمان،فقد ذكر السفاريني في “غذاء الألباب شرح منظومة الآداب م1\27” قال:((وقال الحجاوي في شرحه : يقال مثل الإيمان كمثل بلدة لها خمس حصون،الأول من ذهب، والثاني من فضة، والثالث من حديد،والرابع من آجر،والخامس من لبن، فما زال أهل الحصن متعاهدين حصن اللبن لايطمع العدو في الثاني،فإذا أهملوا ذلك طمعوا في الحصن الثاني ثم الثالث حتى تخرب الحصون كلها، كذلك الإيمان فيه خمس حصون اليقين، ثم الإخلاص، ثم أداء الفرائض،ثم السنن، ثم حفظ الآداب، فما دام يحفظ الآداب و يتعاهدها فالشيطان لايطمع فيه،وإذا ترك الآداب طمع الشيطان في السنن،ثم الفرائض،ثم في الإخلاص،ثم في اليقين )). فينبغي لقاصد التفقه في الدين أن يجعل هذه الثلاثية أمامه  (العلم،والإيمان،واليقين) وألا يفرط في جانب على حساب الآخر.

نسأل الله تعالى أن يرزقنا علما وإيمانا ويقينا،إنه بكل جميل كفيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى