- فيليب كارل سالتزمان
- ترجمة: محمد صديق أمون
- تحرير: أحلام زينول
توّجه إليّ الرجال الملتفون حولي، ذوو العمامات، واللحى، وقمصان الجماق الطويلة، وبناطيل الشلوار الفضفاضة، بالسؤال قائلين: “ما تعداد قبيلتك؟” كان ظنّهم أنّها لا بد قبيلة كبيرة وذات شوكة، حيث وفّرت لي الحراسةَ بعيداً عن الديار. وقد تساءل أحدُهم: “هل أمريكا أبعدُ من طهران؟”
كان ذلك قبل خمسين عاماً تقريباً لا غير، حين اعتليت مركبتي الـ Land Rover عند المصنع في إنجلترا، عابراً خلالها أوروبا فتركيا، ثم إيران لأقيم في بلوشستان الإيرانية، على الحدود مع باكستان.
بعد كبير دعم من نِزار محمود، أخي زعيم قبيلة شاه نوازي (يارأحمدزي سابقاً)، أقمت خيمتي الصغيرةَ، القماشية زرقاء اللون، في نهاية خطٍ طويل من خيامِ شعر الماعز الأسود، التابعة لسلالة أخوة، أو brasrend، الدادولزي. حيث أنّ الجماعات القائمة على النّسب توصف باستخدام مصطلح rend، ومعناه الحرفي هو الخط، والذي يشمل السلالات من كل الأحجام، من الأسر الصغيرة وصولاً إلى القبيلة نفسها.
في تلك الأرض القاحلة، معدومة الأشجار، كنّا محاطينَ بسهول صخريةٍ، وترابيّة، وبهضاب بركانيّة سوداء وعرة، وبجبل الطفتان، Kuh-e Taftan، البركاني النشط يلوحُ في الأفق.
حينما أخبرت الرجال بأنّه ليس لدينا قبائل، أو سلالات، دُهشوا.
“لكن ماذا تفعلون إن اعتدى عليكم أحدُهم؟”
“نقصد الشرطة”.
أخذا يضحكون، ثم قالوا متعجبين: “ومن سيدافع عنكم ضد الشرطة؟” لقد كانوا يعلمون بأنّ الشرطة في إيران لا تعمل في سبيلهم، بل في سبيل الدولة، وفي سبيل أنفسهم بالطبع.
الذي علمه أولئك القبليون البلوش، قد علموه استناداً إلى مسلماتهم الثقافيّة، وتجاربهم في بيئتهم السوسياسية، وهكذا يعلم معظمنا الأمور. إنّ منظور المؤرخ، أو الأنثروبولوجيّ الواسع نادرٌ، وفي معظم الحالات غير عمليّ في الحياة اليوميّة.
أدرك أولئك البلوش أنّ الحياة من غير سلالاتهم ستكون” منعزلة، فقيرة، فوضوية، وحشيّة، وقصيرة” على حد تعبير توماس هوبز. فبالنّسبة لهم كانت القبيلة أكبر جماعة يعرّفون بها أنفسهم، وينتظرون منها أن توفر لهم شيئاً من التضامن الاجتماعيّ، والسياسيّ. لكن القبيلة لم تكن بأي حال من الأحوال جماعة النّسب الوحيدة التي يعرّفون بها أنفسهم، ويلتمسون تحت لوائها التضامن.
سمّيت كل جماعات النّسب من جميع الأحجام باستخدام المسمى عينه rend، وكل جماعة من الصغرى إلى الكبرى قد ادّعت هوية، وتضامناً. ومع أنّها تربط نفسها بنسب من سلف مشترك، الدادولزي تنتسب إلى دادول، فإنّ هذه الجماعات قد برزت للوجود من خلال نزاع مع جماعات مماثلة في العدد والبنية.
فوصايا الحياة القبلية هي أولاً، انصر بني رحمك دوماً، وثانياً، انصر دائماً الرحم الأقرب على الرحم الأبعد. حيث كان البلوش يتطلعون إلى بني رحمهم لتحصيل الأمن والمنافع. فشركاء النّسب عليهم دوماً الدفاع عن ذوي القربى عند أي اعتداء، والسعي في العِوض أو الثأر عند أي خسارة أو إصابة. عليهم أن يهبوا لمساعدة المحتاجين من أقربائهم، سواء أكان مرضاً، أو خسارة اقتصاديّة، أو فاجعةً.
ثمّة حادثتان كنت شاهداً عليهما.
أمّا الأولى فمرتبطة بدادولزيّ، وهو بالوش شاكار، والذي منذ سنوات بعيدة، قد تزوّج امرأة كرديّة، وانتقل معها للعيش في إقليم كرديّ، على سفح جبل الطفتان، على بعد حوالي خمسين كيلومتراً من موطن الدادولزيّ. أمّا ما جرى، فواحدٌ من أبناءه البالغين، واسمه محمود، قد تنازع مع يارأحمدزيّ، من سلالة كامل هانزي، بسبب غلامٍ كان يدين لأخيه الصغير. حيث وقعت مشاجرة، وكسر محمودٌ سناً، وهي إصابة فيها نصف الدّية، وقيل أنّه قد نزف من أذنه في الصباح التالي.
لم يكن لبالوش شاكار ولمحمود أيّ أنصارٍ من أقربائهم في الجوار، وقد كانوا وجلين من أن يتكرر النزاع مع كامل هانزي. حيث أنّ جميع أفراد السلالة يعدّون مسؤولين عن أفعال أي منهم، والثأر يمكن أن يستهدف أي فرد في الجماعة، كما جرى بذلك العرف. ومن ثمَّ ارتأى بالوش شاكار أنّ الحيطةَ كانت وقتها خير ما يمكن الإقدام عليه، ولذلك فهو سيشد الرّحال نحو موطنه، حيث سيوفر له رجالُ قبيلته الأمان، وسيردعون أيّ معتدين محتملين. وبمساعدة من ثلةٍ من الدادولزي، حمل بالوش شاكار وعائلته خيامهم، واستاقوا مواشيهم، وتوجهوا نحو منطقة الدادولزي، منضمين لمخيّم للرعي هناك. وقد استقبلوه، لأنهم وجدوا أنّ عليهم أن يدعموه وعائلته في هذا النّزاع.
أمّا الحادثة الثانيّة، فكانت تتعلق بدادولزي آخر، وهو ساب هان، والذي، قبل ذلك بعقود، وهو شاب، غادر منطقة اليارأحمدزي، وهي أرض صحراوية قاحلة، حيث من كل خمس سنين، تكون سنتا قحط. وفي عام 1935، قوّضت الحكومة غارات السلب والنّهب على القوافل، والقرى الفارسيّة، وكان رجال القبائل حينها يكافحون في سبيل النجاة. سار ساب هان الطريق بطوله عبر باكستان وصولاً إلى السند، حيث عمل في شؤون الزراعة. تزوّج، وولد له أطفال، ثم غرق في الدّيون. أما بنو رحمه، الذين بقوا في بلوشستان الإيرانيّة، فقد تحسّن وضعهم الاقتصاديّ، ومن ثمّ دبروا في 1970 خطة لإعادته. حيث جمعوا 10000 تومان من أفراد السلالة، القريب منهم والبعيد، وسددوا بهذا المال ما عليه من ديون، وهيئوا له أمور السكن. وأعاروه من مواشيهم، ورتبوا لزيجات بناته. وهكذا، في ربيع سنة 1976، عاد ساب هان وعائلته إلى موطن الدادولزي، والتحقوا بمخيّمهم للرعي.
تبيّن هاتان الحادثتان، أنّه حين تكون في ورطة، فإن من المرجح جداً أن المساعدة، سياسيّة كانت أو اقتصاديّة، ستأتيك من بني رحمك.
إنّ الدادولزي ليست إلا جماعة، من جماعات النّسب التي ينتمي إليها أفرادها. وهي جماعة متواجهة، يتراوح عدد أعضاءها بين 50 و150 نفساً، ولهذا توصف بـbrasrend أو “سلالة الأخوة”. وكل الدادولزي يعرفون بعضهم شخصيّاً، حيث أنّهم اشتركوا في نشاطات مختلفة على مر الزمان. وأيضاً، فالبلوش، شأنهم شأن الكثير من الشرق أوسطيين، كان زواجهم داخليّاً، فتزوج الدادولزي من بعضهم البعض. إنّ أفراد الـ brasrend لم يكونوا فقط منحدرين من أصل واحد، بل كانوا يعيشون معاً، ويتعاونون اقتصاديّاً، ويصلّون جماعةً، وينصرون بعضهم في النزاعات، ويتزوج بعضُهم بعضاً. وقد كانت تربطهم أواصر مختلفة: النّسب عبر خط الذكور، والروابط الأموميّة من جهة الأمهات، والمصاهرة عبر الزوجات، مكان العيش المشترك، والمذاهب الدينيّة الواحدة، وجماعات العمل المتعاونة، وجماعات الدّفاع والثأر المشتركة.
كان الدادولزي كذلك أفراداً في جماعات نسب أوسع، والتي تعرّف بالآباء السالفين في خط النّسب، وهي نور محمودزي، والقسم القبليّ السوهربزي، والقبيلة يارأحمدزي. وفي لحظة معيّنة، يمكن للواحد أن يعدّ نفسَه عضواً في هذه الجماعة أو الأخرى، وقد كان هذا يعتمد على من هم الخصوم. فالجماعة ذات العلاقة، تكون من نفس رتبة الجماعة المعادية.
حادثة كنتُ شاهداً عليها، كفيلةٌ بالإيضاح.
كان الدادولزي في مقر إقامتهم الصيفيّة في جوراني في ماشكِل، حيث كانوا يزرعون التمور. قام محمود كريم بقطع جذع نخلة، وجهّزها لتكونَ سقفاً خشبيّاً لكوخ الحجر الذي كان عاكفاً على بناءه. ترك الجذع وراءه، على أن ينقله لاحقاً. لكن أحداً ما من الجوار، حيث يعيش أبناء العمومة سلالة كامل هانزي، أخذه. تملّك كريماً الغضبُ، وعزم على تشكيل حلف حرب، ليستعيد ما أُخذ. أمر كبير الدادولزي، جعفرٌ، بأن حلفاً من عشرات الرجال، عليه أن يسترجع الجذع، لكن من دون مواجهة، أو اقتحام مناطق كامل هانزي، إلا عند الضرورة القصوى. جرى ذلك، وسرعان ما جاء رؤوس كامل هانزي لزيارة جعفرٍ، لحل النّزاع. حيث عُد الأمر أنّه نزاع بين الدادولزي، وبين كامل هانزي، أي اثنان brasrend أبناء عمومة، في مواجهة بعضهم البعض، حيث أحلاف الحرب من أبناء كل سلالة متأهبة للقتال.
إلّا أنّه في نفس الوقت، كانت تجري حادثة أكثر أهميّة. بدأ الأمر صغيراً: حيث أكل جمل تمرات من إحدى النّخلات. لكن هذا الحادث الصغير لم يمرّ هكذا. حيث احتجز صاحب الشجرة، الجملَ، مطالباً صاحبَه بالتعويض حينما جاء ليستعيده. حيث تبادلا الكلمات، ثم اللكمات، وخرج صاحب الجمل من النزاع بحالة أسوء. لكن ما جعل هذا الحادث الصغير، أمراً خطيراً، هو أن المتنازعَيْن كانا من قسمين قبليين مختلفين: السوهربزي، والرحمتزي.
لكن الذي أشعل النزاع فعلاً كان الحادث التالي، فقد لقي نفرٌ من الرحمتزي، وكانوا حانقين مما نزل بصاحبهم، عدداً من السوهربزي الذين كان ينتظرون مَن يوصلهم. وكان من بين الذين آذوهم، رجلٌ مبرّز ومقدّر بين أفراد السوهربزيّ، الذين أنكروا هذا الفعل وشجبوه. ومن ثمّ أصبحَ الدادولزي، وكامل هانزي، الذين كانوا بالأمس على شفا الاقتتال، يرون أنّهم السوهربزي، المستعدين لقتال الفئة المعادية، الرحمتزي.
شاع الخبر أنّ الرحمتزي يجمعون أنفسهم للقتال، ولملاقاة السوهربزي عند تل محايدٍ خارج البساتين. اجتمع الدادولزي، وكامل هانزي، وباقي السوهربزي، فيما يقارب المئة رجل، فيهم الصغير والكبير، والقادر والعاجز، مسلحيّن بالعصيّ، والحجارة، والقبضات الحديديّة، والسكاكين، وغيرها من أنواع الأسلحة البدائيّة. رافقتهم، وكاميرتي معدّة، وفي نفسي تطلّع لشهود نزاع حقيقيّ، ووجل من أن يصاب أصحاب بأذى، بيد أنّ الرحمتزي لم يظهروا أبداً.
تفعّل هوية الجماعات اعتماداً على من يكون العدو. ويطلق الأنثروبولوجيّون على هذا مسمّى التضاد المتتام، أو التضاد المتوازن. حيث أنّ وظيفته في المنظومات السلاليّة القبليّة أو التفرعيّة، هي ضمان نوعٍ من التكافؤ بين الخصوم. فهو يزيد الرّدع، في سبيل السلم. وهكذا، وفي هذه الحالة، ُّ الرجال الذين قد رأوا أنفسهم أفراداً أو أرباب عائلات في يوم ما، قد يعدّون أنفسهم في اليوم التالي دادولزي، وفي الذي يليه سوهربزي. فجماعات النّسب تفعّل عرضيّاً، في الغالب عند وقوع نزاع، واستجابةً لتناصر الخصوم.
مهما كان المستوى، أو المجال، ينبغي على أبناء النّسب أن يتناصروا. حيث أنّ السلالات المتآزرة تنزل منزل التقدير. فهم من ثمَّ patopak، أي متضامنين، في مقابل من هم ليسوا كذلك، أي غير المتضامنين، الـ beatopak
القبائل والسلالات هي جماعات أمن ودفاع. فعلى كل الرجال، سوى عددٍ من الرموز الدينيّة، واجبات توفير الأمن والدّفاع. جميع الرجال إذن محاربون، وهم متأهبون دوماً للقتال دفاعاً عن سلالتهم وقبيلتهم.
النزاعات مع القبائل المجاورة ليست مما يُنسى بسرعة. فجد الدادولزي، دادول، كان من نفر اليارأحمدزي الذي كُمن لهم، وقتلوا على يد قبيلة ريغي، من أهل الشمال. أمّا النزاعات مع الأكراد المتمركزة في جبل الطفتان، فقد أعطت اليارأحمدزي السيطرة على سهل الخاش. وقد وقعت عدّة نزاعات مع الغامشزي، من أهل الجنوب. ومن الوسائل التي كانت تتخذ للحد من هذه النّزاعات، الزواج بين العائلات الرئيسة في القبائل المتجاورة.
في بلوشستان، حتى في السنوات الجيّدة، كانت الأرض تنتج القليل، أمّا الجفاف، فقد كان حادثةً متكررة. أيّ نقص في الدخل، كان يعوّض من طريق الغارات. حيث أنّه كان يُحتفظ ببعض الاسرى ليستخدموا عبيداً في الحقل أو في المنزل، وربما سبايا، بينما كان يباع الباقون في جنوبي بلوشستان. بعضُ الفتيات اللواتي أسرن، تزوجهن آسروهن، الذين قد تجنّبوا دفع المهر بفعلهم هذا. والي محمود، الذي كان شيخاً حينما زرته، كان قد ذهب في غارة إبّان فتوّته، وعاد مصطحباً فتاةً، وقد تزوّجها، والتي كانت، حينما كنت أقوم بعملي الميدانيّ، عجوزاً بين أولاد أحفادها، وشيخةً كبيرةً من شيوخ الدادولزي.
إنّ الإقدام والتأهب للقتال من السّمات المتجّذرة ثقافيّاً، والتي يسهل أن تتحول من الدّفاع إلى الهجوم. حيث أنّهم قبل أن يسلموا لجيش رضا شاه في 1935، كان الدادولزي غزاة متمرّسين. وقد عنون الجنرال الركن ريجينالد داير كتابَه عن مجريات توسّع جيشه الهنديّ في مواجهة اليارأحمدزي بـ” غزاة السارهارد“، وفي طيّاته أكّد أنّ القبائل كانت ” حرفيّاً تعيش على الغزو”. فعن طريق المخبرين البلوش، والكمّ الوافر من الدلائل التوثيقيّة، نعلم أنّ اليارأحمدزي قد أغاروا على قرى الفلاحين الفارسيّة في مقاطعة كرمان، بالإضافة إلى القوافل التجاريّة المسافرة بين الهند وفارس، وعلى الرّعاة في منطقة الحدود الغربيّة مع الهند البريطانيّة. حيث حملوا معهم المحاصيل، والسّجاد، والمواشي، والأسرى.
لن يكون دقيقاً القول بأن قبيلة البلوش قبيلة نموذجيّة، لأنّ القبائل تختلف في جوانب هامّة. فهي مثلاً تتفاوت في أحجامها، حيث أنّ أكبر قبيلة بلوش لم يكن يتجاوز عدد أفرادها الـ 5000، بينما تراوح عدد أفراد قبائل الزاگروس الضخمة في غربي إيران، القشقاي وبختياري، بين النصف مليون والمليون. وقد كان ثمّة اختلافات أخرى، فالبلوش كانوا يقاسون في صحراء قاحلة، بينما كانت تتمتع قبائل الزاگروس في بيئة أكثر اعتدالاً، وفي حين كان اليوموت التركمان يعيشون في وادي وارف. وبينما كان البلوش ينتجون في الغالب لاستهلاكهم اليوميّ، كان إنتاج قبائل الزاگروس موجّهاً أكثر نحو السوق. وأيضاً كانت تختلف درجة ارتباط الدولة، وتحكمها بالقبائل حسب الزمان والظروف، ومن قبيلة إلى أخرى.
لكن في كل حال، كانت هذه القبائل تشترك في سمات معيّنة، منها ما قد أشرت إليه من قبل. فهم منظّمون في جماعات متعاونة، السلالات المرتبطة بالنّسب المنحدرة من جهة الآباء. وهذه الجماعات ترتبط ببعضها من خلال التضاد المتوازن، الذي فيه تتحد جماعة النّسب الأقرب على النّسب الأبعد. وهناك بعد سمات أخرى. فوسائل العنف من سلاح، ومهارات النّزال، واعتلاء الركائب، موزعة بالتساوي بين أفراد القبيلة من الذكور. الرجال متساوون أمام الحُكم، والقرارات الجماعية تتخذ بالتشاور داخل كل جماعة. ثم إنّ المراعي، وهي من ضروب رأس المال الأساسيّة، متاحة لجميع أفرد القبيلة، شأنها شأن مصادر المياه الطبيعيّة. ثم إنّ العديد من القرارات، كتلك المتعلقة بالمواشي مثلاً، هي فرديّة، وتبقى متروكةً للفرد.
إنّ التنظيمات القبليةَ جماعيّة، وديمقراطية، ومساواتيّة، وغير مركزيّة. حيث توجد هذه السمات المهمّة بين البلوش، والتركمان، والبدو، والنّوير، والعديد الآخرين من أهل القبائل.
المنظومات القبليّة تفرعيّة أيضاً، حيث يكون النّاس موّزعين على العديد من الجماعات ذات الحجم والخصائص المشتركة. وحينما يكون مجتمع مثل هذا مبنيّاً على روابط النّسب، فإنّه يسمى منظومة سلاليّة تفرعيّة. كل فرعٌ منوط به توفير الأمن، ويمكن له أن ينشطَ مثل وحدة عسكرية في الدّفاع والهجوم. وبما أنّه ليس في هذه المجتمعات زعيمٌ، فإنّها توصف بـأنّها أسيفلس acephalous (عديمة الرأس). غير أنّها هذا لا يمنع وجود رجالٍ مميزين، ولهم لقب يُدعون به: فقبائل البدو قد يوجد فيها الشيخ، ولكل قبيلة من قبائل البلوش هناك ساردار، والقبائل الفارسية لديها خان. لكنّ رجال القبيلة الرّحل، المسلحين لا يمكن أن يُحكموا من قبل فرد أو عائلة. فعلى أقصى تقدير، ينظر إلى هؤلاء الشيوخ وباقي الأفراد المميزين على أنّهم متقدمون بين أفراد متساويين. حيث أنّ وظيفتهم هي الوساطة، وحل النّزاعات، سواء كانت داخليةً، أم مع الأغراب. فالوساطة تخفف حدةَ الخلاف السياسيّ، الذي قد يكون شديد الخطورة على وحدة القبيلة.
فقط حينما تكون القبيلة جزءاً من دولة قوية، تنشأ تراتبيّة الرؤساء المستقلّة التطبيق. عند تلك النقطة يقع الانقسام والتراتبيّة بين البيوتات الرفيعة، وبين العامّة من أفراد القبيلة، ويمكن للزعيم، إلى حد ما، أن يمضي أحكامه على رجال القبيلة. إنّ سلطة الدولة تفرض تراتبيّة الحكم على القبيلة، وتوهن التنظيم القَبليّ.
توفّر المنظومات السلاليّة التفرعيّة القَبليّة النّظام، من دون التراتبيّة السياسيّة. وقد وصف إدوار إيفانس بيتشارد، في قولة مشهورة، هذا الشكل من التنظيم بـ”الأناركيّة المنظّمة”. حيث يُفرض الضبط المجتمعيّ من خلال التضاد المتوازن، والرّدعُ مؤمَّن من خلال أعراف القصاص والثأر.
كل مجتمع يحتاج نظاماً. فقابلية التوقع هي فقط ما يخوّل النّاس أن يحسبوا تبعات تصرفاتهم، فيأتون بالتالي تصرفاتٍ ذات قصد. فمن غير نظام، لا تكون العلاقات المجتمعيّة، ولا الإنتاج والتبادل الضروريان لقيام الاقتصاد، أمراً ممكناً. بيد أنّ التنظيمات القَبليّة توّفر هذا النظام.
لكن للتنظيمات القبليّة أدوار مهمة أخرى، فهي تحد النزاعات بين أفراد القبيلة عن طريق فرض أعراق مقيّدة. حيث أنّ هناك، على سبيل المثال، قيودٌ على أنواع السلاح الذي يمكن استخدامه ضد أبناء القبيلة. أمّا نساء القبيلة، فمستثنيات من كل نزاع. وينبغي على رجال القبيلة أن يتوصلوا إلى حلول سلميّة للإشكال، من خلال دفع الدّيات مثلاً، حينما تكون مسألة النّزاع داخل القبيلة. ومن الأدوار المهمة أيضاً، الدفاع عن أراضي القبيلة، وكذلك، أحياناً، التوسع العنيف في المكان. حتى أن مارشال سالينز قد ادّعى أن الأنظمة السلاليّة التفرعيّة هي بحد ذاتها آلية للتوسع الضاري. إنّ هذا الشكل من التنظيم يتيح للعلاقات المجتمعيّة أن تنعقدَ بين عدد كبير من النّاس، الموزعين على مساحة شاسعة من الأراضي. وهذا أمر شديد الأهميّة بالنّسبة للكثير من الرعاة البدو في إفريقيا وآسيا، المضطرين للتنقل لمسافات طويلة عبر المنطقة، طلباً للماء والكلأ لمواشيهم. إنّ الأراضي الجافة بيئات غير متوازنةٍ، حيث هطول الأمطار، وبالتالي الماء والكلأ، متغيّر على مدى الزمان والمكان، ولذا لا يمكن توقعه، أو الاعتماد عليه. والترحال البدوي، الضروري في بيئات مثل هذه، يكون ممكناً فقط بقيام علاقات سلميّة بين الأقوام المتنقّلين. توفّر الروابط القَبليّة هذه العلاقات، ولهذا السبب القبائل دوماً أكبر بكثير من المجتمعات البدائية.
ثمة تفسير مغاير لنشأة التنظيمات القبليّة، فالحياة في العالم الثالث كانت وادعةً، حتى جلب الإمبرياليون الغربيّون الاستغلال والاضطهاد الكولونياليّ. واستثماراً لنظرية مورتن فريد عن أن القبائل ظهرت بصفتها مجرد تشكيل ثانويّ جاء رداً على فرض الدول الكولونياليّة، تفترض النظرية ما بعد الكولونياليّة أنّه لم يكن هناك قبائل قبل الإمبرياليّة الغربيّة، والحكم الكولونياليّ. حسب هذا المنظور، كان الناس قبل الإمبرياليّة الغربية يعيشون في مجتمعات متداخلة، من غير حدود، يختلطون، ويمتزجون، في هجنةٍ مغتبطين. ثم بعد ذلك جاء الوكلاء الكولونياليّون، وجمدوا هذا التيار المتدفق من الحياة الفطرية، وفصّلوه بدقة على شكل وحدات سياسيّة قَبليّة، هي أسهل في الحكم والإدارة. لكن هذه الحكاية تغفل تماماً الكم الهائل من الدلائل الإثنوغرافيّة والتاريخيّة التي تخبرنا عن القبائل.
تختلف القبائل عن الدول في مبادئ التنظيم الأساسيّة. لكن ليس كلّ الدول سواء. تأمل التباينات بين الدول الزراعيّة ما قبل الصناعيّة، وبين الدول الصناعيّة. فالدول ما قبل الصناعية تنشأ حين تقوم طائفة من الأفراد، أو السفاحين كما نعتهم إرنست غيلنر، بفرض سيطرتها على قومٍ ما، مدّعية لنفسها الحق الحصريّ في الحُكم وفرض القوة. لكن نخب الدول الزراعية دائماً ما يواجهون مشكلة، حيث أنّ عليهم أن يجدوا طريقة لدعم مستوى العيش الآخذ في الارتفاع، ولتطوير مشاريعهم، سواء كانت معماريةً أم فنيّة. لكن الرّبح الذي يمكن أن يستخلص من قوم مزارعين يبقى محدوداً، بما أن مستويات الإنتاج منخفضة. ثم إنّ جبي الثروات من النّاس يحتاج جهازاً بيروقراطيّاً، وعسكريّاً، وهو ما يجب أن يُدفع من أجله. لكن ببساطة لا يوجد مالٌ كافٍ لكل شيء.
من الحقائق البسيطة في الحياة ما قبل الصناعية، أنّ أخذ المرء الثروة من غيره أسهل من إنتاجها بنفسه. وهذا ينطبق على الجماعات أيضاً. فأن تسلب الثروات من المجتمعات الأخرى، أسهل من أن تستخرج مقداراً كافياً من مجتمعك. ولهذا السبب، التفتت المجتمعات الزراعية نحو التوسع، مرسلةً الحملات العسكرية وراء الحدود من أجل سلب الثروات من الأقوام الآخرين. ثم إنّ الجيش ينبغي أن يُدفع له من غنائم الغزو، مما يجعل المزيد من التوسع والغزو أمراً ضروريّاً. إنّها دورة ارتجاع إيجابيّ. ومن الأمثلة البيّنة على هذا، الإمبراطوريّة الرومانيّة، والإمبراطوريّة العربية الإسلاميّة.
كان أخذ العبيد من العوامل المهمة. فالربح المكتسب هو القوة العاملة طويلة الأمد، التي تتطلب أقل القليل من التعويض. حيث أنّ المجتمع الذي ينتج القليل، يحتاج إلى استقدام العمالة التي لا تكلفه كثيراً في المقابل، أو تكلفه القليل للغاية. وهذا يحوّل ربح الإنتاج إلى النّخبة وأذرعها. ففي أثينا القديمة وروما، كان العبيد يمثّلون أكثر من نصف السكان. أما الحضارة الهنديّة، فقد حلت مشكلة الإنتاج بطريقة مختلفة بعض الشيء، وذلك عبر العمل من غير تعويض، الذي يبذله من أطلق عليهم المنبوذون untouchables.
كانت الدّول الزراعية إذن تراتبيّةً، مركزيّة، واستبداديّة، ووسائل العنف كانت مقصورةً بقدر الإمكان على النّخبة وجيشها. لكن في حين أنّ ما كان في متناول النّخبة كان واسعاً، إلّا أن منظورها كان ضيّقاً. فكل ما أرادته من تابعيها كان شيئين لا غير: المحاصيل، والقوى البشريّة. لم تكن متحكّمةً بأكثر من هذا، ولم تكن مهتمةً بأكثر من هذا. طيب عيش رعاياهم لم يكن يشغل بالهم كثيراً، اللهم إلّا حمايتهم من اعتداء الدّول والقبائل الأخرى. ومن أجل أن تضمن هذه الدّول استمرارها، كان لزاماً أن يكون عدوانُها على رعاياها محدوداً كذلك.
لم تكن هذه الدّول الزراعية ما قبل الصناعية كتلاً ضخمةً مستقرة من الأراضي، ذات سيطرة للدولة نافذة، وحدود مرسومة بدقة. بل كان هناك مراكز قوّة تدعي السلطةَ والحُكمَ على ما يحيط من مناطق وسكان. وعلى مر الزمان، كان يمكن لهذه الدّول أن تتفاوتَ في القوة الاقتصاديّة والسياسيّة والعسكريّة. حيث أن جزءاً من هذا كان متعلّقاً بمدى قدرة وصلابة حكّامها. فتعاظمت وتضاءلت، كان ما تحت يدها أخذا في التعاظم مرةً، أو أخذاً في الانحسار مرة أخرى.
على هامش سلطتها النّافذة، قد تعقد هذه الدول أحلافاً مع جماعة شبه مستقلّة أو مستقلّة من النّاس، وتكون في معظم الحالات قبائل. حينها ستكون أولوية القبيلة أن تحتفظ باستقلالها وشوكتها. فإذا هي لم تنجح في ذلك، فإنّها ستناضل حتى تبقى مستقلةٍ، ربما من خلال الدخول في حلف مربح مع الدّولة. أما في حالةِ الدّولة المتوسّعة، فإن القبائل التي في طريقها ستتراجع، وهو أمر يسير تماماً على البدو الرّحل، بمساكنهم، وأموالهم المتنقلة. ثم حينما تكون الدولة ضعيفة، وتبدأ في الانحسار، فإن القبائل ستعود لاستقلالها، وغاراتها.
هذه الصورة عن الدّولة تصحُّ إلى القرن الثامن عشر، حتى في بريطانيا. فإلى ذاك الوقت، كانت بريطانيا ودول أوروبا الغربيّة محكومةً من قبل الأوتوقراطيّة، أو الملكيّات المُطلقة، وعانى حُكمهُم محاولات انقلاب، وحروب أهلية، وغزوات متواصلة. إنّما كان في القرن الثامن عشر، ليس من قبيل المصادفة أنّ كانت تلك فترة الثورات الزراعية والصناعية الحديثة في أوروبا، حينما تغيّرت الدّولة. حيث تغيّرت بنيتها من الحكم العمودي من الأعلى للأسفل، نحو مشاركة أعمّ في صنع القرار، ومن الطغاة إلى الحكومات المبنيّة على القانون.
إنّ الدول الحديثة، وبخاصة الديمقراطيّات الليبرالية في أميركا الشماليّة وأوروبا الغربية، قد خرجت من شرنقة الاستبداد. حيث صاغت وطبّقت دساتير وفّرت أساساتٍ قانونيةً للحكومة وللمجتمع بأكمله. فغدت من ثمَّ ديمقراطيّات تمثيليّة مؤسسة على القانون، حيث تصل الأحزاب المتنافسة إلى الحكم بالاقتراع العامّ، ويمكن أن تستبدل في آخر الأمر بالاقتراع العامّ كذلك. أمّا الدول ما قبل الحديثة الراغبة بتقليدها، فقد اقتبست منها الدساتير، لكن دون تطبيقها فعلاً. حيث استمروا في الحُكم استناداً إلى مبادئ استبدادية أو قَبليّة. إنّ الدولَ ما قبل الحديثة ذات الأساسات القَبليّة، مثل دول الشرق الأوسط العربي، قد جمعت بين الأوتوقراطيّة، وولاء القبيلة، وكلا الأمرين غير متوافقٍ مع الدستور، وحكم القانون، والديمقراطيّة.
مثلما قد رأينا، إنّ للثقافة القَبليّة، سواء كانت سافرةً بوضوح في البيئة القبليّة، أو مقيّدةً تحت حكم دولة جائرةٍ، مبدأين. أمّا الأول، فهو أن الفرد يدين بأعمق الولاء لبني قبيلته. وأما الثاني، فينصّ على أنّ الفرد يجب على الدّوام أن ينصر الرحم الأقرب على الرحم الأبعد. إنّ هذه مقدّمات إدراكية، إنّها طرائق لتقسيم ناس هذا العالم. وإنّها لأخلاقية بعد، لأنّ ثمة واجبات ينبغي أن تؤدّى، ويحاكم النّاس حسب إمضاءهم لها.
من تبعات هذا أن كل جماعة نسب، من الأُسر النووية، إلى السلالات، والعشائر، الأقسام القبلية [العمارات]، والقبائل، والاتحادات، هي في تضاد متوازنٍ مع الجماعات الأخرى من الرتبة عينها. ليس هناك قاعدة لأمّة محيطة شاملة، فعند كل مستوى، تكون الجماعات في تضاد. والأحكام مستندة إلى معايير خاصة لا إلى معايير عامّة. حيث أنّه في الثقافة القبليّة، يدعم الواحد أسرتَه، أو سلالته، أو عشيرته، أو قبيلته، في الحق وفي الباطل على السواء.
إنّ الدول ذات الثقافة القبليّة، مثل السعودية، وسوريا، والعراق، ولبنان، والأردن، والجزائر، وليبيا، والمغرب، واليمن، يمكن أن تُحكَم فقط بالاستبداد، أو أنها ستتفتت على طول خطوطها القبليّة، وهو أمرٌ، وأسفاه، يدلل على نفسه اليوم.
في الحالتين، لا يمكن لها أن تكون ديمقراطيّة، أو دستوريّة.
يشترك الإسلام مع الثقافة القبلية البدويّة في مقدماته البنيويّة، وهو أنّ ولاء المسلم الأول إنّما هو للإسلام، وأنّ على المسلم أن ينصر على الدوام المسلمين على الكافرين. حيث أن التضاد المتوازن هنا هو بين المسلمين والكافرين. إن الانشغال بالإسلام في الشرق الأوسط المعاصر، ليس ابتعاداً عن الثقافة القبليّة، بل هو إعادة إنتاجها على صعيد أوسع. فالإسلام في شكله الحاليّ إذن غير متوافق في بنيته مع أي شيء خارج الثقافة القبليّة.
مما لا شك فيه أن كون المرء فرداً في قبيلة، في مقابل أن يكون تابعاً تحت طغيان الدولة الزراعيّة، له مزايا عديدة: المساواة، والاستقلال، والديمقراطيّة. لقد كانت الثقافة القبلية ابتكاراً بشريّاً في غاية البراعة.
إنّ زمانها قد مضى.