- ريان إف ماندلبوم
- ترجمة: هالة باجابر
- تحرير: هديل اليوسف
نحن لا نرى عادة أن ورقة علمية واحدة تحاول تفنيد حقلًا علميًا بأكمله؛ ومع ذلك، هذا ما حاوله بحث أستاذة الفلسفة في جامعة نيو هامبشير- سوبرينا سميث- القيام به في يناير الماضي في ورقة بعنوان “هل علم النفس التطوري ممكن؟” حيث تصف قضية رئيسة في علم النفس التطوري تدعى “بالمطابقة”.
إن النقد في مجال علم النفس التطوري ليس غريبًا، نظرًا لفكرته المركزية؛ أن السلوكيات البشرية يمكن تفسيرها بمصطلحات تطورية، وأن الوحدات العصبية الأساسية التي تحكم أفعالنا لم تتغير منذ العصر الحجري. ولكن أدت ورقة سميث إلى ردة فعل قوية خاصة بعد أن ناقشها صحفي العلوم (آدم روثرفورد) على تويتر، وناقشها بي زيت مايرز في مدونته.
لقد وجهنا انتباهنا في غيزمودو منذ فترة طويلة إلى الاستنتاجات غير المنطقية التي يتوصل إليها بعض الناس عند تطبيق نظرية علم النفس التطوري، وهنا يكمن سبب حماسنا للدردشة مع سميث بخصوص عملها.
اختصرت هذه المقابلة وحررتها من باب التوضيح.
– غيزمودو: النقطة التي يبدأ منها تفنيدك في بحثك تدعى بمشكلة المطابقة؛ هل بإمكانكِ شرح ماهيتها؟
– سوبرينا سميث: يعتقد علماء علم النفس التطوري، أنه -بالنسبة لبعض سلوكياتنا على الأقل- لدينا هياكل معرفية صلبة تعمل في جميع البشر المعاصرين كما عملت مع أسلافنا على السافانا. والفكرة هي أنه في العالم الحديث، لدينا نوع من الجماجم الحديثة، ولكن الوصلات العصبية – الهيكل المعرفي للدماغ نفسه – لا يمكن تعديلها، لأنه لم يكن هناك وقتًا كافيًا لتطورها. وهذا ينطبق على وظائف التطور، مثل: اختيار الشريكة، والرعاية الأبوية، وتجنب المفترس، إذ كانت أدمغتنا إلى حد كبير في الحالة نفسها مثل أدمغة أسلافنا. إن التماثل في طريقة عمل أدمغتنا يعود إلى الاختيار الجيني لوحدات معينة ما تزال تعمل في بيئتنا إلى اليوم. (ملاحظة المحرر: هذه “الوحدات” تشير إلى فكرة أن الدماغ يمكن تقسيمه إلى هياكل منفصلة ذات وظائف معينة).
مشكلة المطابقة هي في الحقيقة القضية الأساسية التي يجب على علماء علم النفس التطوري إظهارها، وهي التي يمكن أن تتمركز اجتماعاتهم حولها وهو أن هناك تطابقًا فعليًا بين وحداتنا ووحدات أسلاف ما قبل التاريخ؛ وأنهم يعملون بالطريقة نفسها كما هو الحال الآن، وتعمل هذه الوحدات بالطريقة نفسها لأنها تنحدر من نفس السلف الوظيفي؛ ولكنني لا أرى أي طريقة يمكن الإجابة بها عن هذه التهم.
– غوزمودو: ما الذي ألهمكِ كتابة هذا البحث؟
– سميث: تحدثتُ عن بعض هذه القضايا في رسالتي العلمية، ولكن تطورت الأفكار منذ الدراسات العليا. اعتقد أن السؤال ” لماذا علم النفس التطوري؟” قد ارتبط بصورة وثيقة بهذا المجال قبل عدة سنوات، وما وجدته هو أن تعبيرات علم النفس التطوري عن السلوك البشري هي في حد ذاتها مثيرة وتخالف في الوقت نفسه ما أفهمه من نظرية التطور، ولاسيما أهمية التنوع. لقد كان الناس يتحدثون عنه لفترة طويلة، قائلين إنه مشكل ولا ينجح. لم أتخذ هذا الموقف من قبل؛ إنني أنظر إلى علماء علم النفس التطوري بصفتهم علماء يحاولون حل هذه الأشياء، وطريقتي كانت التأمل العميق فيما يفعلونه، لم أتصرف بسخرية، ولكن حاولت بكل حرص إيضاح المشكلة الكبرى وتأطيرها في هذه الورقة.
– غيزمودو: هل يمكنك ضرب بعض الأمثلة على تصورات لمشكلة المطابقة التي تحدث؟
– سميث: سأذكر لك المشكلة: مع كل الاحترام للبشر، ليس لدينا أدلة تثبت أي ادعاء عن الكيفية التي تصرف بها أسلافنا، يمكننا فقط استخدام أدلة من سلوكنا لاستنتاج أنواع السلوك المحتملة التي كانوا سيظهرونها في الماضي. نعلم أن البشر القدامى قد تجنبوا الافتراس، على سبيل المثال. ما فعلوه هو ما يجب على علماء علم النفس التطوري إظهاره بالضبط. هل تجنب أجدادنا الافتراس لأنهم كانوا جيدين في الاختباء بين الشجيرات أو لأنهم كانوا يركضون؟ سيقول علماء علم النفس التطوري أن التفسير الأفضل هو الركض، ولكن الحقيقة أنهم ركضوا لتجنب الافتراس، والحقيقة أن لدينا القدرة على الركض عندما نكون معرضين للخطر لا تثبتان أن هناك وحدة بمفردها مسؤولة عن هاتين العمليتين.
– غيزمودو: ذكرتِ مثالًا آخرَ من ورقة علمية كتبها آرون جويتز وكايلا كوزي عن “الديوث”، هل بإمكانك شرح هذا؟
– سميث: الفرضية هي أنه: في بيئة التكيف التطوري، كانت الخيانة الزوجية أكثر تكلفة للذكور مما هي عليه للإناث، ومن المفترض أن يرجع ذلك إلى حقيقة أنه إذا كنت رجلًا، فقد ينتهي بك الأمر لرعاية طفل شخص آخر. وبناءً على ذلك، سئل طلاب الجامعات عن مدى احتمالية ممارسة الجنس مع شخص آخر، أي غير شريكهم الحالي.
أحد مهامي الأساسية الآن مع علماء علم النفس التطوري الذهاب إلى الأشخاص العاديين وطلاب الجامعات وسؤالهم عن أشياء حميمية، مثل: سلوكهم الجنسي. نحن نعلم أن الناس لا يريدون الإجابة بمصداقية عن هذه الأمور، ومن المؤكد أن علماء علم النفس التطوري على دراية بذلك، فالقضية الأخرى متعلقة بإجابات هذه الأسئلة، حيث تعمم الإجابات بعد ذلك على الإنسانية بأكملها.
الفكرة هي أننا نتوقع وجود هذا السلوك تحديدًا في العالم المعاصر، أي أن الذين أجابوا عن الأسئلة هم عرضة ليكونوا حذرين تجاه شركائهم؛ ويميل الذكور في هذا السياق إلى الحرص المكثف للحفاظ على شريكاتهم. (لم يقم مؤلفو الدراسة بطرح أي سؤال حول العلاقات المثلية، ولكن دعونا نترك ذلك جانبًا). يفترض علماء علم النفس التطوري استنادًا إلى إجابات هذا الاستبيان، أن سلوك حماية الشريك يستند إلى وحدة إدراكية عصبية معينة ومحددة المجال، وظيفتها كسب وحماية الشريك من العلاقات خارج إطار الزواج. ولكن لم تكن أدلتهم أكثر من الأجوبة التي قدمها طلاب الجامعات المعاصرين عن هذه الأسئلة الفضولية.
إن ما يشغل اهتمامي هو أنه ليس لدينا مسارًا لدراسة علمية، إذ لا يوجد أي طريقة للانتقال من الحالة المعاصرة إلى حالة ما قبل التاريخ، وهي حالة افتراضية حول كيفية تصرف الذكور في عصور ما قبل التاريخ فيما يتعلق بالخيانة وحماية شريكاتهم.
الفرضية هي: أننا نحصل على هذه التقارير في السياق الأمريكي؛ لأن لدينا وحدة ورثوها من أسلافهم. لذلك نحن ننتقل من تقرير عن كيفية تصرف الناس في هذه الحالات إلى ادعاءات حول كيفية تصرف أسلافنا في الواقع. هذا نقص شديد بالفعل، لا أعتقد أن هذا جيد بما فيه الكفاية لنوعية الأشياء التي يريد علماء علم النفس التطوري أن تقوم بها نظريتهم، إنها تحتاج إلى أكثر من ذلك.
– غيزمودو: هل يمكنك تعيين بعض الأضرار التي قد تنتج عن علم النفس التطوري بوصفها نظرية؟
– سميث: باعتقادي أن نظرية التطور هي الجزء الوحيد الذي يمكنه أن يعطينا دلالات عن الأسئلة البيولوجية عندما نفكر في التاريخ التطوري والانتخاب الطبيعي، وأعتقد أيضًا أنه أسيء تعميمها إلى حدٍ كبير. أحد الأشياء التي يميل الناس إلى نسيانها عند قراءة “أصل الأنواع” هي أن “داروين” في عدة فصول يتحدث عن التنوع ومع ذلك، فإن الانطباع الذي يصل للمرء من علماء علم النفس التطوري من استخدامهم نظرية التطور هو أنه عندما نتحدث عن الإنسان والدماغ فإن التطور هو من أعطانا هذا النظام الثابت. ومن ثم فأدمغتنا ثابتة.
في الواقع، لا شيء يمكن أن يكون أبعد من الحقيقة من هذا الادعاء. أما الدماغ وسلوكيات البشر فإنها ديناميكية بصورة كبيرة، نحن نبتكر ونبدع سلوكيات جديدة في سياقات لم نتعرض لها من قبل، وذلك التنوع هو أحد أجزاء التطور التي يجب أن نضمنها ضمانًا أكبر في نظرياتنا.
إن علماء علم النفس التطوري الذين أتحدث معهم ليسوا أغبياء، إنهم وقورون ويحبون المباحثات الفلسفية في هذه الأمور، ومع ذلك، فإن جاذبية النظرية التطورية الممزوجة بالتحيزات الأيديولوجية عن الشعوب تجبرهم على عدم توخي الحذر، لذلك أعتقد أن الآثار التي تنعكس على عالمنا عندما نسيء تعميم أطروحات تطورية هي خطرة حقًا.
يقول الناس: إن الأشخاص غير البيض لديهم أدمغة أصغر، ولكن هذا غير صحيح، وأن المرأة أقل مرتبة من الرجل في سلم التطور، وهذا غير صحيح أيضًا. أعتقد أن لدينا مسؤولية خاصة -عندما نقول التطور جعلنا على ما نحن عليه- لنتأكد أن الناس لن يخلطوا بين “الكامن والفطري” بوصفها مرادفات للتطور. ينبغي أن نكون حذرين بصورة خاصة لعدم تقديم ادعاءات كهذه، لأن عواقبها قد تكون وخيمة.
إذا قلت إن التطور جعلنا كذلك، فعندئذ يمكن للحكومات بكل أحقية أن تقول أنت لا تملك القدرة على القيام بشيء ما، لذلك لن تستخدم مصادرنا لتفعل أشياء لا يمكنك القيام بها. هذا يتعلق بالعلوم والسياسة – ونحن لسنا متأكدين من أننا لا نسيء استخدام العلم لنضمن سياستنا بطريقة تتناسب مع المصالح، سواء مصالحنا أو مصالحهم. إذا كان لدي مصالح لا تتفق مع ما يقوله العلم، فلا أعتقد أنه من الواجب أن أُمنح إعانة على تحصيلها؛ ولكن رأيي هو أنني لا أرى علم النفس التطوري -وهو يزودنا بتفسيرات للسلوك البشري- أن يقدم لنا إطارًا يمكننا الرجوع إليه.
– غيزمودو: أعرف أن الورقة حققت دفقة كبيرة، هل يمكنك أن تخبريني كيف كانت ردود الفعل؟
– سميث: لقد قمت بعمل من نوع آخر لمدونة التطور، وأنا أفهم أن شخصًا ما استجاب لي. أنا سعيدة بهذه المحادثة الفكرية، أنا لست مغردة ولا أملك حساب على تويتر. زوجي هو من قال لي أن ثمة أشياء هناك ليست لطيفة جدًا، فضلاً عن الناس الذين يدافعون عن قضيتي. كان آدم روثرفورد، الذي أحببته حقاً، مذيع بريطاني وعالم وراثة، ومن أوائل الأشخاص الذين التقطوا الورقة العلمية وقالوا: إن الحجج كانت مقنعة وأن علماء علم النفس التطوري لابد أن يجيبوا عن هذه الحجج، ولكن بخلاف ذلك قلت لزوجي: لا أريد أن أسمع أشياء مصدرها تويتر، خاصة في يوم التدريس. إنه من الإنصاف القول بإنه لم يكن لطيفًا جدًا، وكذلك الناس الذين كانوا لبقين في ردهم، بالإضافة إلى كثير من الناس الذين سألوني عن رغبتي في كتابة شيء لهم، هذا شيء جيد، ولكن ليس لدي متسع من الوقت.
– غيزمودو: ما هدفك النهائي؟ وماذا تريدين من علماء علم النفس التطوري؟
– سميث: لن توقفَ ورقتي الصغيرة هذا المجال بأكمله، ولن توقفَ الأقسام التي يحتل علم النفس التطوري منها جزءًا كبيرًا. آمل أن يكون هناك مناقشات مستمرة. وأعتقد أنه مشروع يجدر بنا أن نسأل أنفسنا أسئلة عن كيفية علاقتنا بأجدادنا في عصور ما قبل التاريخ في أشياء مثل هذه السلوكيات.
وجهة نظري هي أنه في أوقات حديثنا عن التشابه والنسب -مع كل الاحترام للأنماط الظاهرية الطبيعية- فأنا مترددة في الاتفاق مع هذه السلوكيات. بالنسبة لي، إنها بسبب المرونة المطلوبة التي يحتاجها أي كائن حي لينمو في البيئات التي تأقلموا فيها بالفعل. قصة قصيرة، ولكنها طويلة بالوقت نفسه.
ما آمل أن تفعله هذه الورقة هو أن تجعلنا نفكر جميعًا بشكل أعمق قليلاً حول ماهية الحديث عن التطور وعلم النفس والسلوك البشري.
اقرأ ايضاً: التطور: نظرية فنّدتها الحقائق