- أيوب الجهني
- تحرير: عبير الشهري
حين سمع الوليد بن المغيرة مِن فِيْ رسول الله ﷺ: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون﴾، هزَّه هذا القول فرَقَّ له ومال إليه، فجاءه أبو جهل منكرًا عليه، فقال قالَتَهُ السائرة: والله ما فيكم رجلٌ أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزٍ ولا بقصيدةٍ مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إنّ له لَحَلاوةً، وإنّ عليه لَطَلاوةً، وإنّ أعْلاهُ لَمُثْمِر، وإنّ أسفَلَهُ لَمُغْدِق، وما يقول هذا بشرٌ!
فما زاد على أنْ صوَّرَ ما في لفظِهِ مِن حُسْن، وما في بيانِه مِن عُلُوٍّ، وما أُذيبِ عليه من حلاوةٍ لم تعهَدْها ألْسَنةُ الفصحاء، محتَجًّا لذلك بعلمه بالأشعار وضُروبها علمًا فوق علمهم، فلا تناله تُـهَمَةٌ منهم بأنه قال ما قال لِهوى أو محاباة.
فهل يعترينا ما اعتراه حين نقرأ تلك الآية؟
ولمّا رأتْ قريش عليه أثرَ ما سمع، وخشَيَت مَيْلَه -وهو سيدٌ من ساداتهم-إليه؛ أغْرَوه وأثاروا فيه حميّةَ الجاهلية، وأكثروا عليه ليقولَ زورًا يُرضي أهواءهم، فذهب ليعرضَ ما سمع على ما يعرف من زمزمات الكُهّانِ وأسجاعِهم، فأبى الحقُّ أن يكون كالباطل!
وعرَضَه على ما رأى من خَنَق المجانين وهذْرَمَاتِهم، فنافَرَت الحكمةُ الجهالةَ!
وعرَضه على ما يُحسن من الشعرِ، بأضرابِه وأجناسِه، فانحَسَرَتْ الرغوةُ عن الصريح!
وعرَضه على ما يعرف من السحرِ ونفَثَاته وعُقَدِه، فبان وحيُ الشيطان من وحيِ الرحمن!
فنظر إلى عجيبِ أثره فيهم، وتفريقِه بين مَن آمن منهم ومَن كفر، فلم يجد إلا أن يقول بعد تفكير طويل، وحيرة قاتلة صوّرها الله عز وجل بأعلى بيان: ﴿إنه فكّر وقدّر * فقُتل كيف قدّر * ثم قُتل كيف قدّر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إنْ هذا إلا سحرٌ يؤثر﴾
فكأنّه رجعَ إلى ما أثبتَه أولًا مِن حُسنٍ وروعةٍ ساحرة!
وروي عن الأخنس بن شُرَيق، وأبي سفيان قبل إسلامهما، وأبي جهل، أنّهم خرجوا ليلا من غير اتفاق ليسمعوا تلاوةَ رسول الله ﷺ، فجمعهم الطريق راجعين، فتلاوموا على فعلتهم وتعاهدوا ألَّا يعودوا، خشيةَ أن يرى الأتباعُ أسيادَهم يمشون إلى ما صدُّوهم عنه.
وإنّ كلامًا أخرج زعماءهم الأشدّاء مستخْفِين استخفاء الجاني الضعيف؛ لَكلامٌ ليس كالكلام!
وفي حديث إسلام أبي ذر وأخيه أنيس رضي الله عنهما، حين أرسل أُنَيسًا إلى مكة ليأتيه بخبر النبي ﷺ، قال: “والله! ما سمعت بأشعرَ من أخي أنيس، لقد ناقض اثني عشر شاعرًا في الجاهلية، أنا أحدهم، فلما جاء بخبر النبي ﷺ قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر. ولقد سمعت قولَ الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعته على أقْرَاءِ الشعر فلم يلتئم، وما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر. وإنه لصادق وإنهم لكاذبون! “
هكذا بكل وضوحٍ وصدقِ لهجة وبلا تردّد، يَمِيزُ أصحابُ البيان والبلغاء هذا الكلامَ من سواه.
وفي “الصحيح” أنّ أبا بكر رضي الله عنه لمّا أراد الهجرةَ إلى الحبشة بعد أنْ أُوذي؛ أجاره ابنُ الدُّغُنَّة، فقالت له قريش: مُرْ أبا بكر فليعبدْ ربَّه في داره، وليقرأْ ما شاء، ولا يستعلنْ به! فإنّا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.
فما راعَهم منه إلا سحرُ بيانه، وغلبته على سامعيه!
ثم بدا لأبي بكر رضي الله عنه أن ينقل مصلّاه إلى فناء داره، وصار يصلّي فيه، فسَرَت تلاوتُه الشجيّة إلى الآذان تجرُّ أعنَّتها إليه، فَتَقَصَّفَ عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يعجبون وينظرون إليه.
والتقصّف: التكسُّر، وفي رواية (انْقَذف) أي: ازدحموا حتى كسَر أو قذَف بعضهم بعضا.
فما أحسن تصوير الراوي لمشهد هؤلاء المأخوذين بروعة كلام الله وسحره!
وفي “الصحيح” لما جاء جبير بن مطعم رضي الله عنه قبل إسلامه إلى المدينة في فداء أسرى بدر، وافى النبيَّ وهو يصلي المغرب، ويقرأ بالطور، فلما بلغ: ﴿أم خُلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون * أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون﴾. قال: “كاد قلبي أن يطير! ” وفي رواية: “فكأنما صُدِعَ قلبي لقراءة القرآن”
هذا ما تُحسُّهُ قلوبهم من كلامٍ نفَذَ في شَغافها، وجاوزَ أحسن ما عرفوا.
فما حال قلوبنا عند سماع هذه الآيات؟!
وإن الأثرَ الأوّلَ للقرآن على العرب لم يكن في أحكامه، وتشريعاتِه فحسب، فمن السّور الأُوَل ما لا تشريع فيه ولا إخْبارَ عن غيب. بل الأثر الأول البالغ في بلاغته المعجزة، وبيانه الرائع.
فالعربُ أمةُ لسانٍ وبيانٍ، لا يهزّها شيء كما تهزّها الكلمةُ البليغة، والبيان المشرق.
ولمّا كان الكلامُ صنعتَهم، والبلاغةُ غايتَهم، والمُقَدَّمُ فيهم أفصحَهم؛ كانت المعجزةُ مِن جنسِ ما معهم.
وهذا أبلغُ في الإعجاز، وأشدُّ في التأثير.
ولعلمهم بهذا الأثر البالغ من القرآن، منعوه أن يُجهر به كما مر في قصة أبي بكر رضي الله عنه، وتواصوا على عدم سماعه، ﴿لا تسمعوا لهذا القرآن، والْغَوا فيه﴾.
وليس عجْزَ العرب عن الإتيان بمثل القرآن هو ما أردت، بل دهشتهم وانفعالهم لبيانِه بشكلٍ غير معهود، وهم قد حَلُّوا من الفصاحة أعلاها، ومن البلاغة أسناها، وقد جاءهم القرآنُ بلغتِهم التي عرفوها، في صورةٍ لم يعهدوها، وضربَ أوتار حسِّهم فانتفضت، وهي لا تحتاج إلى أكثر من كلمةٍ بليغةٍ لتنتفض.
ولما خرج مسيلمة وتبعَته بنو حنيفة، قام فيهم سيّدهم ثُمَامة بن أُثَال رضي الله عنه فوعظَهم وذكّرهم وقال: “أين ذهبَتْ عقولكم؟ بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿حم * تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾. أين هذا من: “يا ضفدع نِقِّي كم تَنُقِّين، لا الشرابَ تُكَدِّرين ولا الماءَ تمنعين” مما كان يهذي به مسيلمة؟ والله إنكم لَتَرَوْن أنَّ هذا كلام ما خرج من إلٍّ! فأطاعه ثلاثة آلاف.
والإلُّ: الربوبية، وقيل: الأصل الجيّد، والمعدن الصحيح. ورويت هذه الكلمة عن الصدّيق رضي الله عنه.
“ولا أدري ما هيّج مسيلمة على ذكر الضفدع، ولمَ ساء رأيه فيها؟ كما يقول الجاحظ!
ولم يكن أتباع مسيلمة جاهلين بكذبه، وبسخفِ ما يقوله، فإنّهم عربٌ فصحاء، لم تزل قرائحهم صافيةً خالصةً لم تشبْها عجمة، ولكن هوى بهم هوى النفس.
وحالهم حالُ طلحة النَّمَريِّ إذ قال لمسيلمة: ” أشهد أنك كذّابٌ، وأنّ محمدًا صادق؛ ولكنَّ كذابَ ربيعةَ أحبُّ إلينا من صادقِ مُضر!”
فما زاد ثمامةُ رضي الله عنه على تلاوة شيء من كلام الله، ثم ذكر هذَيان مسيلمة، ليُنبِّـهَ ما غفا من حسٍّ رهيفٍ بين جنَبَاتهم. وهو الحسّ الذي خُصَّت به نفوس العرب فتعرف الكلام الحسن فتَهَشّ، وتُعرض عما سواه.
فإذا كانت هذه روعةُ والتذاذُ مَن لم يؤمن به من أهل الفصاحة، فكيف بمن جمع معها الإيمانَ به؟!
وكان شعراء المعلقات مثالا من المثُلِ العليا لبلغاء عصرهم، وحسبك مِن رجالٍ يُشار إلى بلاغتهم في عصر السليقة والطبع.
ولم يؤمن منهم سوى لبيد بن ربيعة رضي الله عنه.
وأرسل الفاروق رضي الله عنه يومًا إلى والي الكوفةِ أنِ ادْعُ مَن عندك من الشعراء، واستَنْشدهم ما قالوا في الجاهلية والإسلام، ثم اكتب بذلك إليّ، فدعاهم واستنشدهم، فلما جاء إلى لبيد قال له: “قد أبدلني اللهُ بذلك سورةَ البقرة، وسورةَ آل عمران”.
سورتان من القرآن، رجَحَتا عنده -وإنّه لمُرَجِّح-بِالشعرِ كلِّه!
ولا يُظن أنه اطّرح الشعر لأنه شعر، أو لأمرٍ بدا له فيه من قبيل ما يعرض عنه المسلم من أوضار الجاهلية، بل أخذته روعة ذلك فاشتغل به عن هذا.
كذلك كان الأعراب، أطبعُ الناس، وأصحّهم ألسنةً وقرائحَ، وأعرفُهم بما يقربُ من العربية وما يبعد، تجري الطبيعةُ على ألسنتهم وفي أسماعهم، وتشهدُ أنّ هذا كلامٌ فوق الطبيعة.
حكى القاسمُ بنُ سلَّام أن أعرابيًّا سمع قول الله تعالى: ﴿فاصدع بما تؤمر﴾ فسَجَد، وقال: (سجدتُّ لفصاحته!)
وعنه أن أعرابيًّا سمعَ: ﴿فلما استيأسوا منه خلصوا نجيّا﴾ فقال: أشهد أنّ مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام!
فما بالنا لا نذوق من هذه الآيات ما ذاقوا؟!
ثم لما فسدت الألسنةُ بعدهم، وتسلَّطَتْ عليها العجمة، أصبحَتْ لا تستطيبُ عاليَ الكلامِ ومُحْكَمَهُ ولا تستلذُّه، بل ربما استحسَنَت المرذولَ ونَشِطَتْ له، لِقُربِهِ من حضيضها!
فما ظنّك بها مع أعلى كلامٍ وأرفعِه؟!
ما خلا ألسنةَ مَن تعلَّموا لغةَ العربِ، وأخذَوا منها بحظٍّ وافر، مِن العلماء وأهل اللغة والبيان، الذين بلغوا في علمهم وبيانهم مبلغًا عَلِيًّا.
انظر في أي كتابٍ من كتبهم الجامعة لمحاسن الكلام وأطايبه من شعرٍ ونثر، تجدهم لا يكادون يفتتحون بابًا بغير آيةٍ من القرآن، تظلُّ روعتُها آخذةً لبَّ قارئها حتى يفرغ، ولسان حاله وهو يمر بما بعدها من كلام: “هي الصائحُ المحكيُّ، والآخَرُ الصدى!”
ونظرةٌ خاطفةٌ على ما كتب العلماء في بلاغة القرآن وإعجازه، تدلُّك على فضلِ من عرفَ اللغة على من جهِلها في تمييز عالي القوْلِ من سافلِه.
فتجدهم -وهم يذكرون أوجه إعجازه-يشُيرون مؤكّدين أن الوقوف على هذه الأوجه ومعرفتها لا يقوم إلا لعالمٍ بأحكام العربية، عارفٍ بمنازل الكلام فيها، بالغٍ مبلغًا عليّاً في النظر والتمييز.
يقول الرماني بعد حديثه عن التلاؤم الحاصل في كلام الله عز وجل، وأثره في حسن البيان: “ظهر الإعجاز للجيد الطباع، البصير بجواهر الكلام، كما يظهر له أعلى طبقات الشعر من أدناها إذا تفاوت ما بينهما”
وتأمل أقوال الباقلاني الآتية جيدا، في حديثه عن الوقوف على حقيقة الإعجاز، قال:
“لا يعرف المتوسط من أهل اللسان، من هذا الشأن، ما يعرفه العالي في هذه الصنعة. فربما حل في ذلك محل الأعجمي، في أن لا تتوجه عليه الحجة حتى يعرف عجْز المتناهي في الصنعة عنه.
وكذلك لا يَعرف المتناهي في معرفة الشعر وحده، أو الغايةِ في معرفة الخطب أو الرسائل وحدهما من غور هذا الشأن؛ ما يعرف مَن استكمل معرفة جميع تصاريف الخطاب ووجوه الكلام وطرق البراعة.
فلا تكون الحجة قائمة على المختص ببعض هذه العلوم بانفرادها دون تحقّقهِ لعجز البارع في هذه العلوم كلها عنه. “
وقال: “ولولا هذه الوجوه التي بيّناها، لم يتحيرْ فيه أهل الفصاحة، ولكانوا يفزعون إلى التعمّل للمقابلة، والتصنّع للمعارضة، وكانوا ينظرون في أمرهم، ويراجعون أنفسهم، أو كان يراجع بعضهم بعضا في معارضته ويتوقفون لها.
فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك، عُلم أن أهل المعرفة منهم بالصنعة إنما عدلوا عن هذه الأمور، لعلمهم بعجزهم عنه، وقصور فصاحتهم دونه.
ولا يمتنع أن يلتبس -على مَن لم يكن بارعاً فيهم، ولا متقدماً في الفصاحة منهم -هذا الحال، حتى لا يعلم إلا بعد نظر وتأمل، وحتى يعرف حال عجز غيره. “
وقال: “ولذلك قلنا: إن المتناهي في الفصاحة والعلم بالأساليب التي يقع فيها التفاصح، متى سمع القرآن عرف أنه معجز، لأنه يعرف من حال نفسه أنه لا يقدر عليه، وهو يعرف من حال غيره مثل ما يعرف من حال نفسه، فيعلم أن عجز غيره كعجزه هو. “
وقال: “فأما من كان قد تناهى في معرفة اللسان العربي، ووقف على طرقها ومذاهبها، فهو يعرف القدر الذي ينتهي إليه وُسع المتكلم من الفصاحة، ويعرف ما يخرج عن الوُسع، ويتجاوز حدود القدرة.
فليس يخفى عليه إعجاز القرآن، كما يميّز بين جنس الخطب، والرسائل، والشعر، وكما يميز بين الشعر الجيد والرديء، والفصيح والبديع، والنادر والبارع والغريب.
وهذا كما يميز أهل كل صناعة صنعتهم، فيُعرف الصّيرفي من النقدِ ما يخفى على غيره، ويعرف البزّاز من قيمة الثوب وجودته، ورداءته، ما يخفى على غيره. ” اهـ.
فهل تنتظر الآن من أحد لا يقدر على التمييز بين كلام شاعر جاهلي، وشاعر محدَث، ومعرفة عبارة عالمٍ متقدم من متأخر، وممن يُستسحن المرذول من الكلام، والسفساف من الشعر ولا ينفر منه طبعه ولا يتقبّض وجهه إذا قرأه؛ أن يقدر على تذوق أعلى بيان وأسناه؟
ولمَّا ذكر الرافعي في كتابه “إعجاز القرآن” أمثلةً لِمَن اتهموا بمعارضة القرآن، ذكرَ منهم ابنَ المقفعِ، وردَّ ما اتهموه به من المعارضةِ وأنكره، وقال: “إنَّ ابنَ المقفع مِن أبصر الناس باستحالة المعارضة؛ لا لشيء من الأشياء إلا لأنّه من أبلغ الناس! “
فتأمل هذا الدليل الذي يبرّئ ساحته! فالذي يبصّر ابن المقفع بمنزلة هذا الكلام، عِلمُه بالعربية ليسَ غيرُ.
هذا إن افترضنا أنه فكّر بهذا يومًا وأنه لولا الإعجاز لعارض، وهذا لا يفكر فيه عاقل، فكيف به وهو مسلم. إلا أن المتهمين له ينبذونه من جماعة المسلمين أصلا
ثم قال الرافعي: “وإذا قيل لك إنّ فلانًا يزعم إمكانَ المعارضة، ويحتجُّ لذلك وينازع فيه، فاعلمْ أنّ فلانًا هذا في الصناعةِ أحدُ رجلَين اثنين: إما جاهلٌ يصدق في نفسه، وإما عالمٌ يكذب على الناس! “
فالجاهل إن ادّعى المعارضة، فإنما أعماه عن منزلةِ هذا الكلام، جهله بالعربية، أو هواه ليس غيرُ.
ثم ذكر الرافعي المعرِّيَّ، وردَّ أيضا ما اتُّهم به وأنكره ودلّل عليه من كلام المعرّي، ثم قال: “وتلك -لا ريب-فرية على المعري أراده بها عدو حاذق؛ لأنّ الرجل أبصر بنفسه وبطبقة الكلام الذي يعارضه، ولا نشكُّ في أنه كان يَسْتَسِرُّ بِـهَنَاتٍ مما يُضعف اعتقادَه؛ ولكنَّ أمْرَ القرآن أمرٌ على حِدَة، فما هو عند البرهان عليه وراء القبر ولا وراء الطبيعة” أي: هو شيء ظاهر بيِّن، لا يمكن لمُنكِرٍ أنْ يُنكِرَه.
والمعرِّيُّ -عند كثير-شاعر كغيره فحسب، لا نظر له في غير ما يقوّم به شعره.
وإنما هو عالمٌ فذّ من علماء العربية لا تُنكَر منزلته فيهم، وله يدٌ طُولى في الصرف والعَروض خاصة، وفي معاني الشعر والغريب. وكان مقصِدَ طلبَة اللغة في عصره، وهو مع ذلك شاعرٌ ناثرٌ، يعرفُ منازلَ الكلام وطبقاته، ومواضعَ حسنه وسوئه، وفضلَه على غيره.
وأختم بكلمات لها بحديثنا سبب، للواحدي المفسر، يقول: “ولئن استغنى علمٌ عن الأدب، فمن ضرورة التفسير وعلم القرآن؛ الأدبُ ومعرفة اللغة العربية، ولا تكاد تجد ذلك متأتّياً لمن لم يمْـرُنْ عليها، ولم يتدرب بها. “
وقال عن شيخه أبي الفضل العَروضي: ” كنت قد لازمته سنين، أدخل عليه عند طلوع الشمس، وأخرج لغروبها، أسمع، وأقرأ، وأعلّق، وأحفظ، وأبحث، وأذاكر أصحابه ما بين طرفي النهار، وقرأت عليه الكثير من الدواوين، وكُتب اللغة، حتى عاتبني شيخي رحمه الله يوماً من الأيام وقال: إنك لم تبقِ ديواناً من الشعر إلا قضيت حقه، أما آن لك أن تتفرغ لتفسير كتاب الله العزيز؟! فقلت: يا أَبَتِ، إنما أتدرج بهذا إلى ذلك الذي تريد، وإذا لم أُحكم الأدب بجدٍّ وتعب، لم أرم في غرض التفسير عن كَثَب. “
أما بعد، فما لنا لا نرى الحسنَ الذي رأوا، ولا نذوق الحلاوة التي ذاقوا؟ مع يقيننا بكلِّ وصف اتصف به! هذه التلاوة، فأين الحلاوة والطلاوة؟
الأمرُ ما عرفت، فالزم.
تزوَّدْ ما استطعتَ من العربية، نحوِها وصرفِها وبلاغتِها، وشعرِها ونثرِها، لتذوقَ حلاوة كلام الله حقَّ التذوَّق، وتَلَذَّها حقَّ التلذّذ.
والانتفاعُ والتأثّرُ لهذا تبَعٌ.