مقدمة المترجم د. عقيل بن حامد الزماي
دوافعي لترجمة هذا الكتاب متعددة، يختلط فيها المعرفي بالشخصي. ومن أهمها أني كما قال الفيلسوف البارز جيري فودر عن نفسه ’أكره النسبية‘. وقد لا يصل الأمر عندي حد الكره، ولكنني أتوجس جدا من النسبية ومن ادعاءاتها، لا سيما فيما يخص طبيعة الإنسان. ولا أعتقد أن النسبية في هذا الجانب خاطئة فحسب، بل ضارة، وتودي بنا في متاهات خطيرة ومضللة. فأنا أعتقد جازما أن الناس أسواء الذوات وأخوة لعلات، وإن اختلفت طرائقهم في المعيشة ورؤية الأشياء لأسباب وعوامل حضارية وثقافية كثيرة ومعقدة. وقد وجدت في هذا الكتاب ما يدعم هذا التوجه على نحو حاسم وجازم، لا سيما في جانب مهم جدا من الجوانب المتعلقة بهذا الموضوع، وهو جانب علاقة اللغة بالتفكير ومدى تأثيرها فيه وتحديدها له.
ومع ذلك، فلقد كانت تجربتي في ترجمة هذا الكتاب من أصعب ما مر بي من تجارب الترجمة حتى الآن. وتعود هذه الصعوبة إلى ثلاثة أسباب تتعلق بموضوع الكتاب، وأسلوب مؤلفه، وظروف ترجمته. وسأخصص مقدمتي هذه للحديث عن هذه الأسباب الثلاثة على التوالي فيما يلي.
***
أما من ناحية موضوع الكتاب، فالكتاب مخصص لمناقشة ما يسمى بـ’النسبية اللغوية‘، أو ’فرضية سابير-وورف‘، أو كما يسميها المؤلف ’الوورفية‘. وقوام هذا المذهب بتسمياته المختلفة هو أن اللغة التي يتحدثها الناس تؤثر في طريقة تفكيرهم، وكيفية رؤيتهم للعالم، وتحددها على نحو معين مشابه نوعا ما لما في لغاتهم من خصائص وسمات نحوية ومعجمية. وهذا الموضوع شائك، ومعقد جدا لأسباب كثيرة، منها ما يعود إلى تاريخ هذا المذهب نفسه وما مر به من مراحل وتطورات متباينة، ومنها ما يعود إلى طبيعة الموضوع الذي يتناوله هذا المذهب من ناحية ما تتضمنه علاقة اللغة بالتفكير من وجوه وأبعاد مختلفة ومتفاوتة.
ورغم أنه لا يعنينا هنا الدخول في التفاصيل التاريخية لتطورات هذا المذهب، فإنه لا بد من إشارات موجزة في هذا الصدد لوضع الكتاب في سياق التطور العام لفكرة ’النسبية اللغوية‘. وأول ما يمكن الإشارة إليه هنا هو أن بواكير هذه الفكرة وإرهاصاتها قد كانت موجودة منذ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، لا سيما عند بعض فلاسفة الرومانسية الألمانية (مثل: يوهان هردر وفليلهم فون هومبولت)، وبعض الباحثين في لغات السكان الأصليين في أمريكا من منظور إناسي (مثل: فرانز بواز وإدوارد سابير). غير أن فكرة النسبية اللغوية قد بلغت ذروتها مع بنيامين لي وورف، فارتبطت باسمه، وعُرِفَت به.
وقد تطرق المؤلف في مواضع متفرقة من كتابه إلى بعض من هذه الإشارات السابقة على وورف. وبيّن أن بعضها ينطلق من منطلقات عنصرية، كما لدى المؤرخ والكاتب السياسي الألماني هاينرتش فون تريتشكه، رغم أن الاتجاه العام لادعاءات النسبية اللغوية الذي ينتمي إليه وورف نفسه وبعض من سبقوه مناهض للعنصرية ولاستنقاص ما يسمى بـ’الشعوب البدائية‘ السائد آنذاك. وبغض النظر عن الدوافع والمنطلقات الفكرية المختلفة وراء دعاوى النسبية اللغوية، فإن هذا المذهب القائل بوجود ارتباط خاص بين اللغة والفكر قد اشتهر بنسبته إلى وورف، لأنه كما يُعْتَقد على نطاق واسع هو الذي منح هذه الفكرة صياغتها العلمية التي أدت إلى شيوعها وانتشارها. وهذا الاعتقاد صحيح من بعض الوجوه، ولكنه خاطئ من وجوه أخرى. أما وجوه صحته فهي أن دعاوى النسبية اللغوية بعد وورف لم تعد على ما كانت عليه قبله، بل اكتسبت زخما كبيرا وانتشارا هائلا. وأما وجوه خطئه فهي أن وورف، بخلاف ما يُعْتَقد، لم يقدم صياغة علمية لهذه الدعوى.
لقد كان وورف متخصصا في الهندسة الكيميائية، ويعمل مفتشا للإطفاء في إحدى شركات التأمين، بالإضافة إلى اهتمامه باللسانيات من منظور إناسي. وليس في كونه هاويا للسانيات ما يضير لو أن ما قدمه من أفكار وتحليلات كان صحيحا، ولكنه لم يكن كذلك. فلقد كان ما قدمه وورف في هذا الصدد أقرب إلى الادعاءات المرسلة، التي لا تستند إلى شيء سوى الاختلاف الظاهر بين اللغات. فما دامت اللغات مختلفة، فإن متكلميها يفكرون بطرائق مختلفة، والدليل على أنهم يفكرون بطرائق مختلفة، هو أنهم يتكلمون بطرائق مختلفة. ولا يخفى ما في هذا الاحتجاج من دور منطقي يقوّض الحجة من أساسها. فالدعوى هي نفسها الدليل، ولا يوجد ما يثبت ذلك على نحو مستقل. ويضاف إلى ذلك أن كثيرا من التحليلات اللغوية التي قدّمها وورف لدعم بعض مزاعمه قد كانت خاطئة أصلا، ومن ذلك مثلا تحليله المتعلق بالتعبير عن الزمن في لغة ’هوبي‘، الذي تبيّن أنه لا صلة له بهذه اللغة أبدا كما أشار المؤلف في ثنايا كلامه عن هذا الموضوع.
وحتى لو أمكن تجاوز التحليلات اللغوية الخاطئة، والتغاضي عن مشكلة الدور المنطقي بالبحث عن سبل مستقلة للتحقق من أثر اللغة في الفكر، فإن أطروحات وورف في هذا الصدد ستظل غامضة ومبهمة وعصيّة على الفحص المعرفي الدقيق، سواء من ناحية الجوانب اللغوية المقصودة، أو من ناحية كيفية تأثيرها في الفكر. أما من ناحية اللغة، فإن تحليلات وورف تتناول جوانب لغوية متباينة. فمنها ما يعود إلى المفردات، ومنها ما يعود إلى السمات النحوية البارزة، في حين أن بعضها من قبيل بعض الجوانب اللغوية الخفية. ومنها ما يعود إلى الأساليب التعبيرية الاختيارية في اللغات، في حين أن بعضها ينتمي إلى السمات اللغوية الإلزامية في لغة دون أخرى. ومنها ما هو اعتباطي بحت، في حين أن بعضها يرتبط بظروف ثقافية وحضارية معينة، وهلم جرا. بيد أن وورف لم يكن يميّز، بل كان يسوق هذا الظواهر المختلفة كلها مساقا واحدا، ثم يبني عليها ما يحلو له من انطباعات بشأن علاقة اللغة بالفكر. وعلاوة على أن ’الفكر‘ لم يكن له أي مفهوم محدد في الزمن الذي كان يكتب فيه وورف، مما أدى إلى مشكلة الدور المنطقي التي أشرنا إليها أعلاه، فإن وورف لم يكن محددا أيضا في مدى ما تملكه اللغة من تأثير في الفكر بحسب زعمه. فبعض كتاباته توحي بأن اللغة تتحكم بالتفكير تماما مما يجعل بعض الأفكار غير ممكنة أبدا لمن يتحدث لغة معينة، ولكنه في مواضع أخرى يعبر عن رأيه بطريقة أكثر تحرّزا نوعا ما.
ورغم هذا الاضطراب وما يتضمنه من مشكلات كبيرة وأساسية، فإن ادعاءات وورف بشأن أثر اللغة في الفكر قد استحوذت على الكثير من الاهتمام، وكان لها تأثير كبير جدا، سواء داخل اللسانيات أو خارجها، ولكن من منظورين مختلفين تماما. أما خارج اللسانيات، فقد كانت ادعاءات وورف منطلقا لما يسميه مؤلف الكتاب ’الوورفية الشعبية‘، فاستُقبِلَتْ بالاحتفاء والتهليل، وفَتحتْ الباب على مصراعيه لكافة أنواع الادعاءات من كل حدب وصوب بشأن اللغات المختلفة وأثرها في الطريقة التي يفكر بها متحدثوها. وربما لن نجد أفضل من كلمات أحد الدارسين اللسانيين المؤيدين لشيء من النسبية اللغوية لوصف بعض ما اتخذته الوورفية الشعبية من مسارات. يقول غاي دويتشر في كتابه ’عبر منظار اللغة‘ (انظر: ص 36 من الترجمة العربية بتعديل طفيف جدا):
“لقد وفر هذا الموضوع على نحو تقليدي منصة مثالية لكل من يستمتع بعرض خيالاته من دون خوفٍ أن تقبض عليه شرطة الوقائع. فكما يهجم الذباب على العسل، والفلاسفة على ما لا سبيل إلى معرفته، اندفع أكثر الدجالين إلهاما، وأكثر الفنانين المخادعين موهبة، ناهيك عن جحافل من غريبي الأطوار المألوفين إلى التشدق بتأثير اللغة الأم في أفكار متحدثيها”.
ويقول في موضع آخر أن الوورفية قد اتخذت مسارا مخزيا، وأصبحت ملاذا فكريا خاليا من الضرائب لفلاسفة الغموض، وكتاب الفنتازيا، ودجالي ما بعد الحداثة (انظر: ص 151 من الترجمة العربية). ومن يقف على شيء من تاريخ كثير من الادعاءات التي سيقت تحت لافتة أثر اللغة في الفكر سيجد مصداقا لذلك. والعربية من بين اللغات التي طالها شؤبوب من تلك المخازي التي يشير إليها دويتشر أعلاه. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى. وللاطلاع بعض النماذج يمكن الرجوع إلى كتاب ’محاسن العربية في المرآة الغربية‘ لديفيد جستس (ترجمة: حمزة المزيني)، الذي تتبع بعضا من الادعاءات المتعلقة بأثر العربية في أفكار متحدثيها فبين ما فيها من تجنٍ وتحيز.
وبغض النظر عن ذلك، فإن مصير ادعاءات وورف داخل الحلقة الضيقة للمتخصصين في اللسانيات والدراسات اللغوية الرصينة قد كان مختلفا جدا. فلقد انصب اهتمام المتخصصين في المرحلة اللاحقة لوورف على التدقيق فيما ساقه من ادعاءات، من الناحيتين النظرية والتجريبية. أما من الناحية النظرية فقد جرى التمييز بين نسخة صارمة أو قوية من الوورفية، تسمى أحيانا ’الحتمية اللغوية‘، وأخرى مخفّفة أو ضعيفة، احتفظت بالاسم القديم، وهو ’النسبية اللغوية‘. وبحسب النسخة الصارمة فإن اللغة توجب التفكير على نحو معين، إلى حد يصل إلى إعاقة إمكانية التفكير، ولو مؤقتا، بما لا تتضمنه اللغة. والمعنى أن ما هو قابل للتفكير بالنسبة إلى شخص معين يتوقف على لغته. وكما ذكرنا آنفا، فإن كثيرا من كتابات وورف توحي بتبنيه لهذه النسخة. وأما النسخة الضعيفة فمفادها أن اللغة تؤثر في الفكر بمعنى أن الاختلافات بين اللغات تؤدي إلى اختلافات في أفكار متحدثيها، ولكن على نحو غير مُلْزِم. وكلاهما كانت موضعا للانتقاد والمعارضة. أما النسخة القوية فتحمل أمارات بطلانها في ذاتها. فلو كانت صحيحة لما أمكن لأصحاب هذه الفرضية أنفسهم أن يفهموا كيف يفكر من يتكلمون لغات غير لغاتهم، ولكان من يتكلمون أكثر من لغة يحملون في رؤوسهم رؤى مختلفة للعالم، فضلا عن أن التجارب اللسانية النفسية الدقيقة، التي تجنبت الدور المنطقي في احتجاجات وورف، لم تؤد إلى أي شيء من شأنه أن يدعم هذا الافتراض. فكانت هذه النسخة من الفرضية مرفوضة لدى الغالبية العظمى من المتخصصين.
ولم تكن النسخة الضعيفة أحسن حالا، فهي لم تكن مُرْضية أيضا، ولكن لسبب آخر، وهو الغموض، لا سيما من ناحية تعريف المقصود بـ’الفكر‘، وتحديد مدى ما يمكن أن تبلغه اللغة من تأثير في هذا الصدد. فتندرج تحت هذه اللافتة أشياء كثيرة ومتباينة جدا، منها ما هو بديهي، وليس محلا للنزاع، ومنها ما يتجاوز أي إمكانية للتحقق منه على نحو محدد. ولهذا السبب فإن ما يسمى بـ’الوورفية الكلاسيكية‘، بنسختيها القوية والضعيفة، لم تكن تعد فرضية علمية بالمعنى الحقيقي للكلمة. وبحلول الثمانينيات كانت تقريبا قد آلت إلى الأفول.
غير أن ذلك لم يطل كثيرا، فسرعان ما تجدد الاهتمام بعلاقة اللغة بالفكر، ولكن هذه المرة من منظور أكثر تحرزا، يتجنب الادعاءات الشاملة بشأن تأثير اللغة على الفكر، ويركز على سمات لغوية بعينها، مع الفحص الدقيق لما قد ينجم عنها أو يصحبها من تأثيرات عرفانية غير لغوية في المستوى الأدنى أو الأولي للفكر كالتذكر والانتباه والإحساس ونحوها. فاجتذب هذا الموضوع عددا متزايدا من الدراسات التي تندرج تحت ما يسميه المؤلف ’الوورفية الجديدة‘. وأدى ذلك إلى إثارة السجال بشأن علاقة اللغة بالفكر من جديد. ولتيسير فهم وجوه الخلاف في الصدد، يمكن على نحو تقريبي تلخيص المعاني المتعددة لتأثير اللغة في الفكر في ثلاثة مستويات.
أما المستوى الأول فهو محل إجماع، ولا ينازع فيه أحد. ومن وجوه تأثير اللغة في الفكر في هذا المستوى ما يلي:
- اللغة تؤثر في الفكر من حيث أنها وسيلة للتواصل ونقل الأفكار. فلولا اللغة لم يتمكن الإنسان من تكوين ما كوّنه من معارف وخبرات استطاع بها السيطرة على الوجود من حوله.
- اللغة تؤثر في الفكر من حيث أنها وسيلة لتأطير الأحداث والوقائع على نحو معين. ومن مظاهر ذلك على سبيل المثال اختلاف طرائق التعبير عن الشيء الواحد بحسب وجهات النظر المختلفة. وهذا ما يعتمد عليه الناس في الإقناع والتضليل ونحوها من أغراض البلاغة والخطاب.
- اللغة تؤثر في الفكر من حيث تقاطعها مع الثقافة، لا سيما فيما يتعلق بتسميات الأشياء التي تُعنى بها فئة معينة، أو مجتمع معين من الناس. ومن مظاهر ذلك أن تسميات الأشياء المتعلقة بجانب معين من جوانب الحياة قد تكثر في مجتمع معين أو لدى فئة معينة لعنايتهم بذلك الجانب واهتمامهم به. ومن ينشأ بينهم أو يشاركهم ذلك الاهتمام سيكتسب ما لديهم من تسميات ومفردات.
بيد أن تأثر الفكر باللغة في هذا المستوى من نوافل القول التي لا تمثل فرضية علمية، ولا تتميز به لغة دون أخرى، بل تشترك فيه اللغات جميعا، وتختلف وجوهه داخل اللغة الواحدة.
وأما المستوى الثاني فيمكن القول إنه من بقايا ’الوورفية الكلاسيكية‘. ويشترك مناوئو النسبية اللغوية وأنصارها في معارضة هذا المستوى من الادعاءات المتعلقة بأثر اللغة في الفكر. بل إن بعض أنصار النسبية اللغوية قد يكونون في بعض المواضع أكثر حدة في استنكاره والتشنيع عليه. ومن وجوه ذلك:
- أن اللغة هي نفسها الفكر، أو هي وسيط الفكر الذي يتحقق من خلاله، ولا وجود لفكر من دون اللغة، إذ هي التي تنشئ ما يمر به الفرد من تجارب وخبرات. وهذا منقوض بوجود الأفكار لدى من يفتقرون إلى اللغة كالحيوانات والرضع وبعض من يعانون شيئا من وجوه القصور اللغوي.
- أن اللغة ليست هي نفسها الفكر. فالفكر له وسيط آخر أكثر تجريدا من اللغة. ولكن اللغة هي التي تشق طريقه، وتجعله يتخذ وجهة معينة، مما يجعل الإنسان غير قادر على تصور أو تمييز ما لا وجود له في لغته. وهذا قريب من الأول، وهو منقوض بقدرة الإنسان الواضحة على توسيع مدركاته، واستحداث مفاهيم جديدة تتجاوز ما هو موجود في اللغة وتضيف إليه.
- أن اللغة ليست نفسها الفكر، وليست زنزانة تحبس المتحدث داخل جدرانها، ولكنها مع ذلك تؤثر في الفكر تأثيرا عميقا ودائما فيما يخص الأنشطة الذهنية المتعلقة بالمستوى المجرد من المعرفة، وإنشاء المفاهيم والتصورات، والنظرة إلى الوجود. وهذا أشبه بادعاءات الوورفية القديمة من ناحية عدم القدرة على تحديده، بالإضافة إلى عدم وجود أي دليل يؤيده.
وبين هذين المستويين يوجد المستوى الذي تشير إليها الدراسات التي تنتمي إلى ما يسميه المؤلف ’الوورفية الجديدة‘. وهذه الدراسات لا تمثل نظرية موحدة ذات ادعاءات محددة فيما يخص أثر اللغة في الفكر أو رؤية العالم وما يشبه ذلك، بل هي أشبه ببرنامج بحثي لدراسة أثر بعض السمات اللغوية المتفرقة في جوانب محددة ومحدودة من المستوى الأولي للعرفان. ومن ذلك، على سبيل المثال، أن يكون للتمييزات المعجمية الإلزامية في لغتك أثر في انتباهك إلى ما تشير إليه من جوانب، كأن يجعلك وجود كلمتين مختلفتين في لغتك للدلالة على اللونين الأزرق الفاتح والغامق أكثر حساسية تجاه الفرق بينهما ممن لا يوجد في لغته مثل هذا التمييز. ويتفق مؤيدو النسبية اللغوية ومعارضوها في هذا الصدد على أمرين، هما: (1) أن الدراسات التي درست هذه الجوانب تبين وجود أثر للغة في هذا المستوى، و(2) أن هذا الأثر طفيف جدا لا يمكن تبينه إلا في الدراسات التجريبية المصطنعة للغاية. ولكنهم يختلفون في تأويل تلك النتائج وتفسيرها. فأما مؤيدو النسبية اللغوية فيرون أن هذه النتائج ربما تشير إلى ما هو أكبر من ذلك فيما يتعلق بمظاهر التفاعل بين الجوانب اللفظية وغير اللفظية من العرفان، ويأملون أن الأبحاث المستقبلية يمكن أن تؤدي إلى الكشف عن المزيد من النتائج في هذا الصدد. وأما معارضو النسبية اللغوية فيرون أن ما تبيّنه هذه الدراسات هو كل ما هو موجود من أثر للغة في الفكر، ولا يوجد وراء ذلك أي شيء يمكن أن يطمح إليه الإنسان.
ولقد قال الباحث اللساني البارز راي جاكندوف معلقا على نتائج هذه الدراسات والخلاف بشأنها: “صارت أهمية هذه النتائج موضوعا لخلافات كثيرة [بين اللسانين] (ولدي أصدقاء على طرفي [هذا الخلاف])” (انظر: دليل ميسر إلى الفكر والمعنى، ترجمة: حمزة المزيني، ص 142). ومؤلف هذا الكتاب يمثل أحد طرفي هذا الخلاف. وعنوان كتابه ’خدعة اللغة: لم يبدو العالم متماثلا في كل لغة؟‘ يحيل إلى كتاب آخر يمثل الطرف الآخر من هذا الخلاف. وهو كتاب ’عبر منظار اللغات: لم يبدو العالم مختلفا بلغات أخرى؟‘ لغاي دويتشر. وقد تُرْجم هذا الكتاب إلى العربية، ونشر عام 2015م، ضمن منشورات سلسلة عالم المعرفة التي يصدرها المجلس للثقافة والفنون والآداب بالكويت، بترجمة حنان عبدالمحسن مظفر.
***
هذا هو بإيجاز شديد السياق الفكري العام للكتاب، وموضوعه المعرفي المعقد جدا، ولكن المؤلف لم يقدمه بهذا الأسلوب القائم على التتبع التاريخي لمقولة النسبية اللغوية وما مرت به من تطورات. بل قدمه بأسلوب آخر مختلف جدا. فمؤلف الكتاب من أول جملة يصرح بأن كتابه هذا بمثابة ’بيان‘ أو – بتعبر المؤلف – ’مانيفستو‘، على نحو يذكّر بالبيانات السياسية أو الأدبية التي تُنْشر لإبداء الرأي في قضية معينة، أو الترويج لفكرة ما، مع التوصية بما يتطلبه ذلك من إجراءات معينة لا بد من اتخاذها بخصوص الموضوع الذي يتحدث عنه البيان. وقد طَبَع ذلك أسلوب المؤلف بطابعه الخاص من نواح عديدة. منها أن الكتاب موجه للجمهور العام من المتخصصين وغيرهم. فلم يُكْتب على النحو المعتاد في كتابة البحوث الأكاديمية. بل كُتِب بأسلوب ذي منزع أدبي متدفق وممتع، ومفعم بالاستعارات والمجازات والتعبيرات الاصطلاحية. وهو من ناحية أخرى كتاب حجاجي لا يقتصر على عرض أفكار معينة بما يدعمها من حجج وأدلة، بل يستهدف في المقام الأول تفنيد بعض وجهات النظر الشائعة والسائدة عن أثر اللغة في الفكر، من الناحيتين الأكاديمية والسياسية.
أما من الناحية الأكاديمية، فيبين أن الدراسات التي يُزْعم أنها تثبت أن للغة تأثير في الفكر هي في حقيقة الأمر ليست كذلك. فهذه الدراسات لا تخلو من أمرين: إما أنها لا تكشف إلا عن أثر ضئيل جدا في مواقف مصطنعة للغاية لا علاقة لها بالحياة التي يعيشها الإنسان في الواقع الاجتماعي، أو أنها تتحدث عن شيء آخر لا شأن له بأثر اللغة في الفكر. ويبين المؤلف كذلك أن المشكلة في كثير من الأحيان ليست في الدراسات نفسها، وإنما فيما يُلصَق بها ويضاف إليها من تأويلات متزيّدة لا يوجد في تلك الدراسات ما يدعمها. ويزداد الطين بلة حينما تلتقط الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى مثل هذه الادعاءات فتعمل على تضخيمها وترويجها بصورة لا علاقة لها أبدا بنتائج البحث العلمي في هذا الصدد. ويرى المؤلف أن بعض الأكاديميين وطريقتهم في صياغة بعض الادعاءات المتصلة بهذا الموضوع من أهم الأسباب التي تؤدي إلى كثير من التصورات الخاطئة. ومن الأمثلة التي يذكرها المؤلف في هذا الصدد المقالة الصحفية التي نشرها غاي دويتشر في صحيفة النيويورك تايمز، بعنوان ’هل تشكل لغتك كيفية تفكيرك؟‘ تمهيدا لنشر كتابه ’عبر منظار اللغة‘. فيشرح أن هذه المقالة تحتوي على عبارات تهويلية لا يوجد أي شيء يؤيدها في النتائج المستقاة من البحث العلمي، من شاكلة أن ألفاظ الألوان في اللغات المختلفة تؤثر على الطريقة التي يرى بها متحدثوها الرسومات الفنية. ونشرتها في موقع أثارة، على الرابط التالي: https://atharah.net/does-your-language-shape-how-you-think/. فقد يكون من المفيد لبعض القراء أن يبدؤوا بقراءة المقالة، ثم ينتقلوا بعد ذلك إلى قراءة الكتاب، لتبيّن بعض ما يتحدث عنه المؤلف من إشارات.
وأما من الناحية السياسية، فيبين المؤلف أن الفكرة الوورفية التي تدّعي وجود أثر للغة في الفكر فكرة فاتنة ومغرية، وتتمتع بجاذبية كبيرة لدى كثير من الناس. وقد حاول المؤلف باقتدار أن يشرح بعض أسباب هذه الجاذبية، مع ربطها بالسياق الفكري العام للمجتمعات الغربية المعاصرة. ومن ذلك مثلا الاعتقادُ بأن هذه الفكرة تبين أن المجتمعات غير المتطورة تقنيا، والتي كان يعتقد في مرحلة ما أنها ’بدائية‘ مقارنة بالغربيين، هي في حقيقة الأمر ذات أفكار فاتنة ومعقدة، تضاهي ما لدى الغربيين، أو تتفوق عليهم في كثير من الحالات. فرغم ما يبدو على سطح هذه الفكرة من احتفاء بالتنوع والتعددية والدعوة إلى المساواة، فإنها في العمق تنم عن نزعة استعلائية ومتعجرفة. فالبشر ما داموا يشتركون في البشرية متماثلون، وليسوا بحاجة لأن يُنْعِم عليهم أحد بهذا الاعتراف. بل يوضح المؤلف أن هذه الفكرة سلاح ذو حدين، رغم أن كثيرا من المحتفين بها والمنشغلين بترويجها هم من ذوي النوايا الخيّرة والمقاصد الحسنة. فهي كما يمكن أن تستخدم للاحتفاء بالتنوع والتعددية، يمكن أن تستخدم أيضا لازدراء الشعوب الأخرى والتنقص منها. ويؤيد وجهة نظره هذه بأمثلة واقعية من التاريخ استخُدِمت فيها هذه الفكرة تحديدا لهذا الغرض.
وينقسم الكتاب إلى ستة فصول بالإضافة إلى المقدمة. وتتضمن المقدمة إلماحة عامة عن موضوع الكتاب، وتعريفا بالوورفية الجديدة، مع الإشارة إلى شيء من مقتضياتها واستتباعاتها السياسية. والفصل الأول بعنوان ’بيّنت الدراسات‘. وفيه استعراض موجز لعدد من الدراسات الأكاديمية الحديثة المتعلقة بمسألة أثر اللغة في الفكر. ويبين فيه المؤلف أنه هذا الدراسات – رغم ما تتضمنه من إتقان وبراعة – لا تؤيد شيئا من التأويلات الوورفية التي تقول بأن اللغة تشكل فكر متحدثيها. والفصل الثاني بعنوان ’فيها قولان‘. وكما قد يبدو من عنوانه، فإن هذا الفصل يتعامل مع حركة التفافية يقوم بها بعضهم لإنقاذ الوورفية. فحتى لو لم تكن اللغة تشكل الفكر بطريق أحادي مباشر، فإن اللغة والثقافة يتبادلان التأثير على نحو يجعل اللغة والثقافة متشابهتان، وتؤديان معا إلى تعزيز أنماط فكرية معينة. ويبين المؤلف أن هذا لن ينقذ الوورفية، لأنه غير صحيح لسبب بسيط وهو أنه لا توجد أي علاقة بين اللغة والثقافة في المستوى المتعلق بآليات العمل الداخلية للغة، أي نحوها وصرفها. فهذه الجوانب من اللغة تتشكل نتيجة للصدفة المحضة عبر تغير تدريجي تحت مستوى الوعي. ويشرح ذلك من خلال ضرب العديد من الأمثلة التي تبين وجود ظواهر لغوية متباينة في مجتمعات متماثلة لا يمكن إرجاعها إلى عوامل ثقافية.
والفصل الثالث بعنوان ’استعادة عرش الثقافة‘. وهذا الفصل استمرار لما قدمه المؤلف في الفصل الثاني من مناقشة لعلاقة اللغة بالثقافة. والمقصد الأساسي منه تلافي ما قد يطرأ لبعض القراء من فهم خاطئ بشأن موقف المؤلف من هذه العلاقة. فالمؤلف يؤكد على أنه لا يدعي بحال من الأحوال أن الثقافة لا تؤثر في اللغة. بل تؤثر فيها بوجوه متعددة وطرائق شتى، ليس من بينها ما تدعيه الوورفية من كون البنية اللغوية للغات مماثلة لأحوال متكلميها. ويوضح المؤلف ذلك من خلال عدد وافر من المقارنات اللغوية. والفصل الرابع بعنوان ’ازدراء الصينية‘. وفيه يعود المؤلف لمناقشة بعض الدراسات الوورفية وما تتضمنه من ادعاءات مع التركيز على اللغة الصينية هذه المرة لبيان ما ينجم عن الوورفية من مفارقة وتناقض واستتباعات غير حميدة في كثير من الأحيان. والفصل الخامس بعنوان ’ما رؤية العالم من منظور الإنجليزية‘. وفيه يجعل المؤلف الإنجليزية منطلقا للمقارنة والتحليل اللغوي لكي يوضح للقارئ الذي يشاركه هذه اللغة أن كثيرا من الادعاءات التي تتوسل بالغرائبية والتهويل بشأن لغات أجنبية وبعيدة ستبدو متهافتة جدا حينما تطبق على لغة معروفة ومألوفة. والفصل السادس والأخير بعنوان ’احترام الإنسانية‘. وفيه يلخص المؤلف عددا من المشكلات المتأصلة في الرؤية التي تستند إليها الوورفية بشأن اللغات والبشر. ويوضح أن تماثل البشر هو الأمر العجيب حقا الذي يستحق كل الاحتفاء.
بقي أن أشير إلى أسلوب المؤلف – رغم ما فيه من متعة وطرافة – قد يكون فيه شيء من الصعوبة في بعض المواضع. فجمله أحيانا تكون طويلة جدا، وذات تراكيب معقدة. ومما يتصل بذلك أن المؤلف يكثر من الاعتماد على الكناية والتورية والتلميح في بعض ما يسوقه من حجج ومناقشات، مما يجعل فهم ما يريده المؤلف من إشارات وإلماحات صعبا على بعض القراء. والذي أعتقده في هذا الصدد أنه ليس من مهمات المترجم أبدا تبسيط أسلوب المؤلف أو تعديله، بل أن ينقل أسلوب المؤلف كما هو بأقصى قدر ممكن. ولكن من مهمات المترجم أن يخدم النص بما يسهل قراءته في التعليقات والهوامش. وهذا ما كنت أتوخاه من إضافة ما يقرب من 400 هامش، أرجو أن تكون قد ساهمت في خدمة النص وتيسير مقروئيته.
ومؤلف الكتاب هو جون مكوورتر، متخصص في المجال المعرفي المتعلق بنشوء اللغات وتغيرها، ويعمل أستاذا للسانيات في جامعة كولومبيا بنيويورك. وقد صدر له العديد من الكتب قبل هذا الكتاب. ومن أشهرها كتاب ’قوة بابل‘ عن تاريخ اللغات والعوامل المؤثرة في تغيرها، وصدر عام 2001م، وكتاب ’ما اللغة‘ عن طبيعة اللغة ونشوئها وما يتعلق بذلك من عوامل تحدد اللغة وتميزها، وصدر عام 2011م. وكلاهما قد حقق نسبة مبيعات عالية، وتأثيرا كبيرا لدى القراء من المتخصصين وغيرهم. ولم يترجم أي منهما إلى العربية فيما أعرف. وكتاب المؤلف الحالي امتداد لاهتمام المؤلف بموضوع اللغة وما فيها من تنوع، من منظور يركز على أثر اللغة في الفكر كما شرحنا آنفا. وللمؤلف، كما يتبين من كتبه، اطلاع واسع على عدد كبير من اللغات المستخدمة في العالم اليوم. فلقد أحصيت ما ذكره من لغات في الكتاب الحالي، ووجدت أنها تتجاوز 80 لغة، بعضها من اللغات المعروفة ذات الانتشار الواسع، وكثير منها من اللغات المغمورة التي لا يتكلمها إلا أعداد ضئيلة من البشر. وقد قمت بتعريف ما ذكره المؤلف من لغات، لا سيما المغمورة منها. واعتمدت في ذلك على عدد من المواقع والمصادر، ومنها موقع أثنولنوغ: https://www.ethnologue.com/، وموقع أطلس اللغات: https://wals.info/، وموقع الموسوعة الشبكية لأنظمة الكتابة واللغات: https://www.omniglot.com/، بالإضافة إلى موقع ويكيبيديا الشهير.
***
وفي الختام، لا بد أن أشير إلى أن ظروف النشر قد حتمت عليّ أن أنتهي من ترجمة هذا الكتاب وتسليمه للناشر في مدة قصيرة جدا لا تتجاوز ثلاثة أشهر. ولقد كان في ذلك تحد لم أكن أظن أنني قادر على إنجازه لولا توفيق الله وتيسيره. وأود أن أعبر عن شكري الجزيل وامتناني الوافر للزملاء الكرام (بحسب الترتيب الأبجدي): أحمد بن عبدالرحمن الحقباني، وخالد بن عبدالله الصقير، ومنصور بن مبارك ميغري الذين تفضلوا بقراءة هذه الترجمة، وزودوني بملاحظات وتعديلات قيمة، أسهمت في تلافي عدد من الأخطاء، وتحسين الترجمة في مواضع ليست بالقليلة. وأشكر كذلك الأخوة والزملاء في مؤسسة أدب، وأخص بالذكر الصديق العزيز الدكتور عبدالله بن رفود السفياني الذي كان له الفضل بعد الله في إنجاز هذه الترجمة، وتفضل مشكورا بقراءتها أيضا، فأمدني بعدد من الملاحظات والتعليقات القيمة. وأشكر أيضا الزملاء في دار تشكيل للنشر والتوزيع، وأخص الأخ الفاضل محمد بن بدر السالم، على ما تفضلوا به من دعم ومتابعة لهذا العمل منذ أن ابتدأ حتى اكتمل بحمد الله. أما زوجتي وأبنائي فكلمة الشكر لا تفيهم حقهم. فلقد كانت ثلاثة أشهر طويلة أنفقتها في جهد متواصل صرفني عن كل شيء آخر يهمهم ويعنيهم، رغم أني أعلم يقنيا أنهم أكثر من سيسعد عندما يرون ثمرة هذا الجهد. والله وحده أسأل أن يجعل ما ننفقه من وقت وجهد نافعا وخالصا لوجهه الكريم.