- يوفال نوح هراري
- ترجمة: باين بن منيف
- تحرير: سهام سايح
يواجه النوع البشري الآن أزمة عالمية، ربما تكون أكبر أزمة لجيلنا، القرارات التي سوف تتخذها الحكومات والشعوب على الأرجح سوف تشكل العالم لسنوات عدة قادمة. هذه القرارات لن تعيد تشكيل نظام الرعاية الصحية فحسب بل ستؤثر على كل من الاقتصاد والسياسة والثقافة. لهذا يجب علينا أن نتصرف بسرعة وبشكلٍ حاسم. يجب علينا أيضًا أن نأخذ بالحسبان العواقب طويلة المدى لتصرفاتنا الحالية تجاه الأزمة. عند الاختيار بين البدائل المتاحة يجب أن نعرف إذا ما كانت خياراتنا التي تغلبنا بها على التهديد الفوري بأي شكل ستؤثر على العالم الذي نعيش فيه بعد مرور العاصفة. نعم، العاصفة سوف تمر، النوع البشري سوف ينجو، أغلبنا سيبقى حيًّا – لكننا سنعيش في عالم مختلف.
العديد من تدابير أوقات الطوارئ قصيرة الأجل التي نتخذها الآن ستصبح أشياء ثابتة لاحقًا. هذه هي طبيعة حالات الطوارئ. تستطيع أن تجعل العمليات التاريخية تتقدم بسرعة. القرارات التي تأخذ عادةً سنوات من التشاور والتفاوض حولها يمكن لها أن تُمرر في غضون ساعات. التكنولوجيا غير الناضجة بل وربما الخطرة تم إدراجها في الخدمة. وذلك لأن مخاطرة عدم فعل أي شيء أكبر.
ستكون دول بأكملها تحت المراقبة التجريبية للتجارب الاجتماعية واسعة النطاق. ماذا سيحدث عندما يعمل الجميع من المنزل ويتواصلون فقط عن بعد؟ ماذا سيحدث عندما تصبح الجامعات والمدارس بأكملها تعلَّم عن بعد عبر الانترنت؟. في الأوقات العادية لن تقبل الحكومات والشركات والمجالس التعليمية على إجراء مثل هذه التجارب. ولكن هذه ليست أوقاتًا عادية.
في هذا الوقت من الأزمة، نواجه خيارين مهمين على وجه الخصوص. الأول بين المراقبة الشمولية وتمكين المواطنين. والثاني بين العزلة القومية والتضامن العالمي.
مراقبة وترصد ما تحت الجلد
لإيقاف الوباء، مجتمعات سكانية بأكملها يجب عليها الامتثال لقواعد إرشادية معينة.
هناك طريقتان رئيستان لتحقيق ذلك. أحدها أن تراقب الحكومة الناس وتعاقب من يخالفون القوانين. اليوم، وللمرة الأولى في تاريخ البشر، استطاعت التكنولوجيا أن تجعل مراقبة الجميع طوال الوقت أمرًا ممكنًا. قبل خمسين سنة، الاستخبارات السوفيتية لم يكن بإمكانها مراقبة المواطنين السوفييت طوال اليوم، و لم يكن بإمكانها أيضًا أن تأمل بأن تجمع وتعالج جميع المعلومات بفاعلية.
اعتمدت الاستخبارات السوفيتية على عملاء ومحللين بشر، ولم يكن باستطاعتها أن تضع عميلاً بشريًا لمتابعة وملاحقة كل مواطن. ولكن بإمكان الحكومات الآن أن تعتمد على أجهزة الاستشعار المنتشرة في كل مكان والخوارزميات القوية بدلاً من أشباح اللحم والدم.
في معاركها ضد وباء فيروس كورونا، العديد من الحكومات نشرت بالفعل أدواتها الجديدة للمراقبة. أبرز حالة هي الصين. من خلال المراقبة اللصيقة للهواتف الذكية للناس، استفادت من مئات الملايين من كاميرات التعرف على الوجه، وأجبرت الناس على التحقق والإبلاغ عن درجة حرارة أجسادهم وحالتهم الطبية، السلطات الصينية ليس باستطاعتها التعرف بسرعة على حامل مشتبه للفيروس فحسب، بل يمكنها أيضًا أن تتعقب تحركاته وتتعرف على أي شخص يأتي للتواصل معه.
مجموعة من تطبيقات الهواتف تحذر المواطنين من اقترابهم من المرضى المصابين.
لا يقتصر هذا النوع من التكنولوجيا على شرق آسيا فقط. مؤخرًا خوّل رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو وكالة الأمن الإسرائيلية بنشر تكنولوجيا المراقبة المخصصة عادة لمحاربة الإرهابيين لتعقب المصابين بفيروس كورونا. عندما رفضت اللجنة الفرعية البرلمانية المختصة بالموافقة على الإجراء، نتنياهو دفع به بقوة من خلال ”مرسوم الطوارئ“.
ربما تقول أنه لا يوجد شيء جديد في كل هذا. في السنوات الأخيرة استخدمت الحكومات والشركات تقنيات أكثر تعقيدًا للتعقب، وللمراقبة والتأثير على الناس.
لكن إذا لم نكن حذرين، قد يكون الوباء نقطة تحول مهمة في تاريخ المراقبة. ليس فقط لأنّه قد يطبّع انتشار الكثير من أدوات المراقبة في بلدان كانت ترفضها حتى الآن، بل لأكثر من ذلك لأنه يشير إلى تحول دراماتيكي من المراقبة “فوق الجلد” إلى “تحت الجلد”.
حتّى هذه اللحظة، عندما تلمس شاشة هاتفك الذكي بأصبعك وتضغط على رابط، الحكومة تريد أن تعرف بالضبط على ماذا ضغطت بأصبعك. لكن مع فيروس كورونا، التركيز على الاهتمام تحول. تريد الحكومة الآن أن تعرف درجة حرارة إصبعك ومقدار ضغط الدم تحت الجلد.
حلوى الحالات الطارئة
أحد المشاكل التي نواجهها في تحديد موقفنا من المراقبة هو أنه لا أحد منا يعرف بالضبط كيف تتم مراقبتنا، وما قد تجلبه السنوات القادمة.
تكنولوجيا المراقبة تتطور بسرعة فائقة، وما كان يبدو أنه خيال علمي قبل ١٠ سنوات أصبح اليوم أخبارًا قديمة.
كتجربة فكرية، تخيل أن حكومة افتراضية تطالب من كل مواطن بأن يرتدي سوار بيولوجي يراقب درجة حرارة الجسم ومعدل ضربات القلب على مدار ٢٤ ساعة. يتم تجميع البيانات الناتجة وتحليلها بواسطة الخوارزميات الحكومية. ستعرف عنك الخوارزميات أن لديك مرضًا ما قبل أن تعرف أنت ذلك، وستعرف عنك أيضًا أين كنت، وبمن التقيت. يمكن تقليل انتشار العدوى بشكل جذري، وحتى يمكن القضاء عليها تمامًا. يمكننا القول أن مثل هذا الناظم قادر على إيقاف انتشار الوباء في غضون أيام. هذا رائع، أليس كذلك؟
لكن الجانب السلبي بالتأكيد هو إعطاء شرعية لنظام مراقبة جديد مروع، على سبيل المثال، لو كنت تعلم أنني نقرت على رابط فوكس نيوز بدلا من رابط سي ان ان، يمكن لذلك أن يعطيك نبذة عن آرائي السياسية وربما حتى عن شخصيتي. ولكن، إذا كان بإمكانك مراقبة درجة حرارة جسمي وضغط دمي ومعدل ضربات القلب أثناء مشاهدة فيديو ما، بإمكانك إذا وقتها معرفة ما يضحكني وما يبكيني وما يغضبني حقًا، مهم أن نتذكر أنّ الغضب والفرح والملل والحب ظواهر بيولوجية مثل الحمى والسعال. ويُمكن للتكنولوجيا نفسها التي تحدد السعال أن تحدد الضحكات أيضًا. إذا بدأت الشركات والحكومات في جمع بياناتنا البيومترية بشكل جماعي، فيمكنها التعرف علينا بشكل أفضل بكثير مما نعرف نحن عن أنفسنا، ومن ثمّ لا يمكنها فقط التنبؤ بمشاعرنا وإنما أيضًا التلاعب بها وبيعنا أي شيء يريدونه – سواء كان ذلك بضاعة أو أفكارًا.
من شأن المراقبة البيومترية أن تجعل أساليب اختراق بيانات كامبريدج أناليتيكا تبدو وكأنها شيء من العصر الحجري. تخيل كوريا الشمالية في سنة 2030، عندما يقع إلزام كل مواطن بحمل سوار مزود بمستشعرات حيوية على مدار 24 ساعة في اليوم. حينها إذا استمعت إلى خطاب القائد العظيم والتقط السوار علامات الغضب الواضحة عليك، فقد انتهى أمرك.
يمكنك بالطبع أن تنظر لقضية المراقبة البيومترية كإجراء مؤقت يُتخذ أثناء حالة الطوارئ، وسيُلغى حالما تنتهي حالة الطوارئ. مع ذلك، غالبا ما تُعرف التدابير المؤقتة بإطالة فترة حالات الطوارئ، خاصة أن هناك دائمًا حالة طوارئ جديدة في طريقها للحدوث. فعلى سبيل المثال، أعلنت إسرائيل – موطني الأصلي- حالة الطوارئ خلال حرب الاستقلال سنة 1948، وهو ما يُبرر اتخاذ مجموعة من الإجراءات المؤقتة بدءًا من الرقابة الصحفية ومصادرة الأراضي إلى القواعد الخاصة لصنع الحلوى (أنا لا أمزح بشأن ذلك).
وقد فازت إسرائيل بحرب الاستقلال منذ فترة طويلة، لكنها لم تعلن أبدًا عن انتهاء حالة الطوارئ، وفشلت في إلغاء العديد من الإجراءات “المؤقتة” لسنة 1948 (تم إلغاء قرار طوارئ الحلوى برحمة في عام ٢٠١١) حتى إذا انخفضت حالات الإصابة بفيروس كورونا وانعدمت، يمكن لبعض الحكومات المتعطشة للبيانات أن تجادل بأنّها بحاجة إلى الحفاظ على أنظمة المراقبة البيومترية لأنها تخشى حدوث موجة ثانية من فيروس كورونا، أو لأن هناك سلالة جديدة من فيروس إيبولا بصدد التطور في أفريقيا. جرت معركة كبيرة في السنوات الأخيرة حول خصوصيتنا، وقد تمثل أزمة فيروس كورونا نقطة التحول في المعركة، لأنه عندما يُتاح للأشخاص الاختيار بين الخصوصية والصحة، عادة ما يختارون الصحة.
شرطة الصابون
إنّ مطالبة الناس بالاختيار بين الخصوصية والصحة تمثل في الواقع أصل المشكلة، لأن هذا الخيار ليس سوى خيار زائف. يمكننا وينبغي علينا أن نتمتع بالخصوصية والصحة معًا. بإمكاننا أن نقرر حماية صحتنا ووقف انتشار وباء فيروس كورونا في نفس الوقت، ليس عن طريق إنشاء أنظمة مراقبة استبدادية، وإنما عن طريق تمكين المواطنين. في الأسابيع الأخيرة، طبقت كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة بعض أنجح التدابير لاحتواء الوباء. وعلى الرغم من أن هذه البلدان استخدمت بعض تطبيقات التتبع، إلا أنّها اعتمدت بشكل أكبر على الاختبارات المكثفة وعلى النزاهة في تقديم التقارير والتعاون الصادق لشعب واع بشدة.
المراقبة المركزية والعقوبات القاسية ليست الطريقة الوحيدة لجعل الناس يمتثلون للإرشادات المفيدة. عندما يتم إخبار الناس بالحقائق العلمية، وعندما يثق الناس في السلطات العامة لإخبارهم بهذه الحقائق، يمكن للمواطنين أن يفعلوا الشيء الصحيح حتى بدون مراقبة الأخ الأكبر لهم من الأعلى. عادة ما يكون الشعب الذي يمتلك دوافع ذاتية ومطلعًا جيدًا على الوضع أكثر قوة وفعالية بكثير من شعب جاهل خاضع للشرطة.
ضع في اعتبارك مثلاً غسل يديك بالصابون، الذي مثّل أحد أعظم التطورات على الإطلاق في ما يخص نظافة الإنسان. في الواقع إن هذا الإجراء البسيط قادر على إنقاذ ملايين الأرواح كل سنة. وبينما لا نأخذ هذا الأمر على محمل الجد، اكتشف العلماء أهمية غسل اليدين بالصابون في القرن التاسع عشر فقط.
في السابق، انتقل حتى الأطباء والممرضات من عملية جراحية إلى أخرى دون غسل أيديهم. أما في الوقت الراهن، يغسل مليارات الأشخاص أيديهم يوميًا، ليس بدافع الخوف من شرطة الصابون، وإنما لأنهم يدركون الحقائق المتعلقة به. من جهتي، أغسل يدي بالصابون لأنني سمعت عن الفيروسات والبكتيريا، ولأنني أفهم أن هذه الكائنات الدقيقة تسبب الأمراض، كما أعلم أن الصابون قادر على إزالتها.
لكن لتحقيق مثل هذا المستوى من الامتثال والتعاون، أنت بحاجة إلى الثقة. يحتاج الناس إلى الثقة بالعلم والسلطات العامة ووسائل الإعلام. على مدى السنوات القليلة الماضية، زعزع السياسيون غير المسؤولين عمدًا ثقة الناس في العلم والسلطات العامة ووسائل الإعلام. أما في الوقت الراهن، قد يميل نفس هؤلاء السياسيين غير المسؤولين إلى اتباع أسرع طريقة نحو الاستبداد، بحجة أنه لا يمكنك الثقة في الشعب للقيام بالشيء الصحيح.
عادةً لا يمكن إعادة بناء الثقة التي تآكلت لسنوات بين عشية وضحاها، ولكننا لا نخوض الأوضاع العادية الآن. في لحظة الأزمة، يمكن أن تتغير طريقة التفكير بسرعة أيضًا. قد تكون متعودًا على خوض نقاشات شديدة مع أشقائك لسنوات، ولكن عندما تحدث حالات طوارئ، تكتشف فجأة بأنكم تثقون في بعضكم البعض بشدة، وأنكم مستعدون لمساعدة بعضكم البعض.
بدلاً من بناء نظام مراقبة، لم يفت الأوان لإعادة بناء ثقة الناس في العلم والسلطات العامة ووسائل الإعلام. يجب علينا بالتأكيد الاستفادة من التكنولوجيات الجديدة أيضًا، ولكن يجب أن تُكرس هذه التكنولوجيات لتمكين المواطنين. من جهتي، أنا أؤيد مراقبة درجة حرارة جسمي وضغط الدم لدي، ولكن لا ينبغي أن تُستخدم هذه البيانات لإنشاء حكومة قوية. وعوضًا عن ذلك، ينبغي أن تمكنني هذه البيانات من اتخاذ خيارات شخصية واعية، ومحاسبة الحكومة على قراراتها.
إذا تمكنت من تتبع حالتي الطبية الخاصة على مدار 24 ساعة في اليوم، لن أعرف ما إذا كنت سأشكل خطرًا صحيًا على الآخرين فقط، ولكنني سأعرف أيضًا العادات التي من شأنها أن تحافظ على صحتي. وإذا تمكنت من الاطلاع على إحصاءات موثوقة حول انتشار فيروس كورونا وتحليلها، سأتمكن من تحديد ما إذا كانت الحكومة تخبرني بالحقيقة وما إذا كانت تعتمد على السياسات الصحيحة لمكافحة الوباء.
عندما يتحدث الناس عن المراقبة، تذكّر أنه يُمكن استخدام نفس تكنولوجيا المراقبة ليس فقط من قبل الحكومات لمراقبة الأفراد – وإنما أيضًا من قبل الأفراد لمراقبة الحكومات. وبالتالي يعد وباء فيروس كورونا بمثابة اختبار رئيسي للمواطنة. وفي الأيام المقبلة، يجب على كل واحد منا أن يختار الثقة في البيانات العلمية وخبراء الرعاية الصحية بدل نظريات المؤامرة التي لا أساس لها من الصحة والسياسيين الذين يخدمون مصالحهم الذاتية. إذا فشلنا في اتخاذ القرار الصحيح، فقد نُضطر للتخلي عن أثمن حرياتنا معتقدين أنّها الطريقة الوحيدة لحماية صحتنا.
نحن بحاجة إلى خطة عالمية
الخيار الثاني المهم الذي نواجهه يتعلق بالعزلة الوطنية والتضامن العالمي. يمثل كل من الوباء والأزمة الاقتصادية الناتجة عنه مشكلة عالمية لا يمكن حلها بشكل فعال إلا من خلال التعاون العالمي. أولاً وقبل كل شيء، نحتاج إلى مشاركة المعلومات عالميًا من أجل الانتصار على الفيروس. وهذه هي الميزة الكبرى التي يتمتع بها البشر للقضاء على الفيروسات.
لا يمكن لفيروس كورونا في الصين والولايات المتحدة مقايضة النصائح حول كيفية إصابة البشر. ولكن يمكن للصين أن تعلّم الولايات المتحدة العديد من الدروس القيِّمة حول فيروس كورونا وكيفية التعامل معه. فما يكتشفه طبيب إيطالي في ميلانو في الصباح الباكر قد ينقذ الأرواح في طهران في المساء. وعندما تتردد حكومة المملكة المتحدة بين العديد من السياسات، يمكنها الحصول على المشورة من الكوريين الذين واجهوا بالفعل معضلة مماثلة قبل شهر. ولكن لكي يتحقق هذا الأمر، نحتاج إلى التحلِّي بروح التعاون والثقة العالمية.
ينبغي أن تكون البلدان على استعدادٍ لتبادل المعلومات بشكلٍ علني والحصول على المشورة في كنف التواضع، وأن تكون قادرةً على الوثوق في البيانات والأفكار التي تتلقاها. نحن نحتاج أيضًا إلى جهد عالمي لإنتاج وتوزيع المعدات الطبية، ولا سيما مجموعات الاختبار وأجهزة التنفس.
وبدلاً من محاولة كل دولة القيام بذلك محليًا وتخزين أي معدات يمكنها الحصول عليها، من شأن الجهد العالمي المنسق أن يسرِّع الإنتاج إلى حد كبير ويضمن توزيع المعدات المنقذة للحياة بشكلٍ أكثر عدالة.
مثلما تقوم الدول بتأميم الصناعات الرئيسية خلال الحرب، فقد تتطلب منا الحرب البشرية ضد الفيروس التاجي “إضفاء الطابع الإنساني” على خطوط الإنتاج الحاسمة.
لذلك، يجب أن تكون الدولة الغنية التي سجلت عددًا أقل من حالات الإصابة بفيروس كورونا على استعداد لإرسال معداتٍ ثمينة إلى بلد أفقر يعاني من إصابات أكثر، وتكون واثقةً من أنّه إذا احتاجت المساعدة بعد ذلك، تتجند البلدان الأخرى لمساعدتها.
تحتاج الدول إلى التعاون من أجل السماح لعددٍ محدودٍ من المسافرين الأساسيين على الأقل بمواصلة عبور الحدود، على غرار العلماء والأطباء والصحفيين والسياسيين ورجال الأعمال.
قد نفكر في بذل جهد عالمي مماثلٍ لتجميع العاملين في المجال الطبي. يتعين على الدول الأقل تضررًا في الوقت الحالي أن ترسل طاقمًا طبيًا إلى المناطق الأكثر تضررًا في العالم، وذلك لمساعدتها عند الحاجة، ومن أجل اكتساب خبرة قيّمة. إذا تحول التركيز فيما بعد، فقد تبدأ المساعدة في التدفق في الاتجاه المعاكس.
في الحقيقة، هناك حاجة ملحة للتعاون العالمي على الصعيد الاقتصادي كذلك. فبالنظر إلى الطبيعة العالمية للاقتصاد وسلاسل الإمداد، إذا تحركت كل حكومة بمفردها متجاهلةً بشكل تام الحكومات الأخرى، فسينجر عن ذلك ظهور الفوضى. وتعمّق الأزمة. لذلك، نحن في أمس الحاجة إلى خطة عمل عالمية فورية.
ثمة شرط آخر يتعلق بالتوصل إلى اتفاق عالمي بشأن السفر. فتعليق جميع الرحلات الدولية لأشهر سيتسبب في مواجهة صعوبات هائلة، ويعيق الحرب ضد فيروس كورونا. تحتاج الدول إلى التعاون من أجل السماح لعددٍ محدودٍ من المسافرين الأساسيين على الأقل بمواصلة عبور الحدود، على غرار العلماء والأطباء والصحفيين والسياسيين ورجال الأعمال. ويمكن القيام بذلك من خلال التوصل إلى اتفاقية عالمية بشأن الفحص المسبق للمسافرين من قبل بلدهم. إذا كنت تعلم أنّه لا يُسمح إلا للمسافرين الذين تم فحصهم بعناية بصعود الطائرة، فستكون أكثر استعدادًا لقبولهم في بلدك.
لسوء الحظ، بالكاد تتخذ البلدان مثل هذه الإجراءات في الفترة الحالية. فقد أصيب المجتمع الدولي بحالة شلل جماعي. ويبدو أنه ليس هناك أشخاص راشدون للتصرف بمسؤولية في ظل هذا الوضع. قبل أسابيع، كان المرء يتوقع أن يعقد اجتماع طارئ لزعماء العالم لوضع خطة عمل مشتركة. ولكن لم يتمكن زعماء مجموعة الدول الصناعية السبع من تنظيم مؤتمر عبر الفيديو إلا هذا الأسبوع. في المقابل، لم يُفض المؤتمر عن أي خطة من هذا القبيل. خلافا للأزمات العالمية السابقة – مثل الأزمة المالية لسنة 2008 ووباء إيبولا لسنة 2014 – تولت الولايات المتحدة دور القائد العالمي. لكن الإدارة الأمريكية الحالية تخلت عن منصب القائد، فقد اتضح أنّها تولي اهتمامها لعظمة الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من مستقبل البشرية.
تخلت الإدارة الأمريكية حتى عن أقرب حلفائها. وعندما حظرت جميع رحلات السفر من الاتحاد الأوروبي، لم تكلف نفسها عناء إعطاء الاتحاد الأوروبي إشعارًا مسبقًا – ناهيك عن التشاور معه حول هذا الإجراء الجذري. لقد قامت بفعل يندى له الجبين تجاه ألمانيا من خلال تقديم مليار دولار لشركة أدوية ألمانية مقابل شراء حقوق احتكار لقاح جديد لفيروس كورونا المستجد. حتى لو قامت الإدارة الحالية في نهاية المطاف بتغيير مسارها ووضعت خطة عمل عالمية، فإنّ القليل سيتبعون زعيمًا لا يتحمل المسؤولية على الإطلاق، ولا يعترف أبدًا بالأخطاء وينسب كل الفضل إلى نفسه بشكل اعتيادي بينما يلقي كل اللوم على الآخرين.
إذا لم يملأ الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة من قبل دول أخرى، فلن يقتصر الأمر على صعوبة إيقاف الوباء الحالي فحسب، بل سيستمر إرثه في تسميم العلاقات الدولية لسنوات قادمة.
مع ذلك، إن كل أزمة هي عبارة عن فرصة كذلك. ويجب أن نأمل أن يساعد الوباء الحالي البشرية على إدراك الخطر الكبير الذي يشكله الانقسام العالمي.
يتعين على البشرية أن تختار. هل سنسير في طريق الانقسام، أم سنتبنى طريق التضامن العالمي؟ إذا اخترنا الانقسام، فلن يؤدي ذلك إلى إطالة أمد الأزمة فحسب، بل سيؤدي على الأرجح إلى حدوث كوارث أسوأ في المستقبل. أما إذا اخترنا التضامن العالمي، فلن ننتصر على فيروس كورونا فحسب، بل ضد جميع الأوبئة والأزمات المستقبلية التي قد تهاجم البشرية في القرن الحادي والعشرين.