- دانيال سيلفر مينتز
- ترجمة: نوح غنيم
- تحرير: عبد الله بن عبد العزيز
“الوعي بالجهل هو بداية الحكمة“
سقراط
قد يكون الجهل نعمة! ولكن هذا لا يعني أننا يجب أن نرضى بالغباء، ولا يُعذر الجاهل أبدا، فنسبة الجهل اليوم أقل مقارنةً بالسابق وذلك مع وجود الإنترنت يمكن لأي شخص أن يحظى بفرصة البحث متى شاء وأينما كان، وكم نتوقع من خبير وعالم حظي بفرصة بحث كتلك التي بمتناول أيدينا الآن؟ حتى في عصر المشاركة هذا سنُصدم لو قررت لجنة نوبل منح جائزة لعلماء كانت أبحاثهم فاشلة تماماً، بغض النظر عن عدد السنوات التي عملوا فيها على بحوثهم، ومع ذلك فإن الحالة مختلفة تمامًا داخل إطار الفلسفة! حيث تم الاحتفال بسقراط لإدعائه الغريب والشائع: “الشيء الوحيد الذي أعرفه هو أنني لا أعرف شيئًا”. فلماذا نستمر في تبجيل سقراط كونه واحداً من أعظم المفكرين في تاريخ الفلسفة رغم اعترافه بأنه جاهل تماماً؟
ينبغي لنا بطبيعة الحال أن نضع في اعتبارنا أن جهل سقراط لم يكن مُتقبلاً مع من عاصروه. حيث كانوا محبطين جداً بسبب تحقيقاته الفلسفية لدرجة أنهم حكموا عليه بالإعدام وفي أثناء محاكمته زعم سقراط أنه سعى للحكمة على حساب كل مسؤولياته الأخرى مستعيناً بفقره كإثبات لنزاهته فلم ينل إعجاب الناقد الفلسفي كاليكليس هذه المحاولة للدفاع عن حياته الفلسفية وقال :”عندما أرى الفلسفة في فتى صغير أوافق عليها ولكن عندما أرى رجلا مسناً لا يزال يتفلسف ولم يتوقف عن ذلك، وهذا الرجل هو سقراط بحد ذاته فإنني أرى أنه في حاجة إلى الجلد”. (محاورة جورجياس، أفلاطون).
وعلى الرغم من قلة عدد الذين يدرسون الفلسفة، إلا أن جميع من في المدينة قد عرفوا سقراط. وعندما أراد الكاتب المسرحي الهزلي أريستوفانز هجاء التفكير العلمي في مسرحيته “الغيوم”، صور سقراط كأستاذ غير عاقل يجري تجارب لايصدقها العقل حيث يروي تلميذه أن الأستاذ كان يحاول معرفة ما إذا كانت همهمة البعوض تصدر من خلال فمها أم من خلال فتحة شرجها! وتُفتتح المسرحية مع أب يحاول تشجيع ابنه الجاهل بطبائع الأمور لتحسين نفسه من خلال تسجيله في أكاديمية الفيلسوف سقراط فيهتف الابن باشمئزاز “أنا أعرف الكثير!، فالأوغاد المتفكرين، الحمقى حافي القدمين، أمثال سقراط، هم حزمة من البؤساء ولا شيء آخر”. (الغيوم 103)
ويبدو أن سمعة سقراط قد امتدت إلى ما هو أبعد من مدينته أثينا. حيث يخطط أفلاطون -تلميذ سقراط- لأن يجمع بين سقراط والقائد العسكري الشاب والطموح مينو من مدينة سالونيك المجاورة. بعد أن درس مع عدة مفكرين مشهورين آخرين من بينهم السوفسطائي غورجياس، ويبدو أن مينو قد سعى جاهداً للحصول على مشورة سقراط بشأن كيفية تحقيق ما أسماه الإغريق arête، والتي يمكننا ترجمتها “النجاح” أو “الفضيلة”.
مينو يسأل: “هل يمكنك أن تقول لي، يا سقراط ما إذا كان بإمكانك الحصول على الفضيلة عن طريق الممارسة، وليس التعلم؟” . فبدلاً من الإجابة على سؤال الشاب، قال سقراط إنه يجب علينا أولاً أن نعرف ما تعنيه “الفضيلة” قبل أن نتمكن من معرفة كيفية تحقيقها. فبعد كل شيء، سيحتاج المرء إلى خطة لعب مختلفة تمامًا اعتمادًا على ما إذا كان يسعى جاهدًا ليكون مثل مؤسس Amazon جيف بيزوس أو الأم تيريزا. إن سؤال مينو يفترض أن تكمن لديه الفكرة الشاملة عما تدور الفضيلة حوله وتحتويه، والتي تمثل فضيلة المال والسلطة بالنسبة له أكثر من مساعدة الفقراء والمحتاجين. ومع ذلك، يعترف سقراط بأنه جاهل تماماً حول هذا الموضوع: حيث أنه قد صدم مينو بهذا الرد نظراً لسمعة سقراط في الحكمة الذي قال فيه: “يجب أن ألوم نفسي لجهلي التام بمعنى الفضيلة” فيرد مينو بعدم تصديقه لذلك: “ولكن هل هذا صحيح، ياسقراط؟!”، “إنك لا تعرف حتى ما هي الفضيلة؟ هل سنعود إلى ديارنا بهذه الفكرة عنك؟”.
لماذا جهل سقراط يثير غضب الشاب مينو؟ ومن المؤكد أن مينو قد عذر جهل سقراط فيما يتعلق بمجموعة المواضيع الفلسفية. ومع ذلك.. يمكن للمرء أن يتوقع من الجميع أن يعرف ما يعنيه أن تكون شخصاً فاضلاً.
حتى بروتاغوريس السوفسطائي، الذي كان مشهوراً بالترويج لأفكاره الغير أخلاقية بين طلابه، كان أكثر حكمة في نشر محتواه الفكري علناً فعلى سبيل المثال لا الحصر عندما حاور أفلاطون بروتاغوراس وقال له: “الكل يجب أن يدعي أنه شخصاً عادلاً، سواء كان كذلك حقاً أم لا، ومن لا يتصنع بعض من هذا الادعاء بالعدالة فهو مجنون”. وسقراط لايدعي جهله فحسب، بل يذهب إلى ماهو أبعد من ذلك بإصراره التام على أنه لم يلتقي أبداً بشخص واحد يعرف معنى “الفضيلة”. ومع هذا الاعتراف، سقراط لا يهمش فقط معاصريه وإنما مجتمعه بأكمله.
أيضاً ذكر بروتاغوراس أن سقراط يعرف قصصاً عن أبطال مثل (أخيل) ولم تكن مجرد ترفيه لليونانيين ولكنها تمثل القدوة لتشكيل ثقافة الأجيال الصاعدة من المحاربين ورجال الدولة كون كل تلميذ يمكن أن يروي أفعال الرجال الأبطال في الماضي. يقول بروتاغوراس: الأطفال الجيدين، عندما يدرسون الأعمال الشعرية والأدبية أثناء الحضور إلى المدرسة، ويفهمونها عن ظهر قلب، فبالتالي يمدحون الرجال الصالحين الأوائل، إن الصبي من غبطه لهم قد يقلدهم ويسلك خطاهم ويتوق إلى أن يصبح مثلهم”. فكيف لسقراط أن يقول إنه لا يعرف ما تعنيه الفضيلة! في حين أنه درس هذه الأعمال الشعرية وكذلك.
وعلى الرغم من ادعاءه بقوله أنه كان يحترم الطقوس الدينية أنذاك، فإن التهمة التي وجهتها له المحكمة الأثينية هي أنه كان يحمل معتقدات غير دينية وكما جاء في لائحة الاتهام، نصاً: “سقراط مذنب”؛ لأنه يفسد عقول الشباب ولا يؤمن بالآلهة التي تؤمن بها الدولة، (محاورات أفلاطون).
سقراط يرد على الاتهامات بحجة أنه أبعد ما يكون عن تدنيس المقدسات فقد كان في مهمة إلهية لذلك. ويحتج أمام المحكمة بأن المستشار الحكيم في مدينة دلفي قال لصديقه شاريفون إن سقراط هو أحكم رجل في العالم، وقال بأن سقراط كرس بقية حياته للتحقق من الآخرين لمعرفة ما إذا كان من الممكن إيجاد شخصًا أكثر حكمة منه (سواء كان ذلك من باب التواضع، أو تفاخره بالإنكار الإلهي الذي لا يعلنه). في النهاية، سقراط يؤكد كلام المستشار الحكيم ويعلن نفسه أحكم رجل في العالم، لأنه هو الشخص الوحيد الذي يعترف بجهله! كما يقول سقراط عن أحد السياسيين المتميزين في أثينا، “أنا أكثر حكمة من هذا الرجل لأن أياً منا لا يعرف حقا أي شيء جيد وصالح. ولكن هذا الرجل يعتقد أنه يعرف شيئا بينما هو ليس كذلك في الحقيقة، في حين أنني بينما لا أعرف أي شيء، فأنا حقاً لا أعتقد بأنني أعرف شيئاً”.
وإدعاء سقراط بأنه يقوم بعمل مع الآلهة لم يغفر له من قبل هيئة المحلفين، الذين لم يكونوا مقتنعين بتلك الدعوة المتبجحة بعدم معرفة أي شيء والأكثر من ذلك غضبهم من محاولته لجعل الآخرين يبدون كالجهلة. ولما صدر الحكم عليه بالإدانة، عرضوا عليه فرصة أخيرة لتخليص نفسه من العقاب وذلك بعد أن يعترف أمام المحكمة بأنه سيكون عقاباً عادلاً ضد جرائمه. وفي آخر احتجاج له، اقترح سقراط أن يتم تتويجه لما قدمه من أعمال فكرية بنفس الطريقة التي يتوج بها رياضي منتصر في الألعاب الأوليمبية، فيسأل سقراط بسخط! “مالذي يستحقه رجل مثلي؟ لا يوجد شيء أفضل من حصول المرء على غذائه مجاناً مدى الحياة. وأنا أستحق ذلك أكثر من أي شخص فاز في سباق الخيول الأولمبي!”. فلم تكن هيئة المحلفين موافقة على عقوبة سقراط المقترحة سالفاً فحسب، فحكمت عليه إعداماً بشرب السم. وبعد ذلك، وفي وقت قصير من وفاته، أدرك الأثينيون أنهم أدانوه ظلماً. كما أن التاريخ قد صان حق سقراط الأدبي. ولكن يبقى السؤال قائماً ــ لماذا ينبغي لنا أن نبجل شخصاً ما بسبب جهله؟
في حوارات أفلاطون نستفيد الآلاف من الصفحات التي حفظت من محادثات سقراط مع معاصريه. وكما هي العادة سقراط يعلن أنه لا يعرف شيئا عن هذا الموضوع أو ذاك أثناء مناقشته مع رفاقه. وقد حفظ مقطع غير عادي بين تلك الآلاف من الصفحات حول واحدة من المناسبات القليلة التي يؤكد فيها سقراط بأنه يدعي معرفته لشيء وبيقين مطلق وهو بأن هنالك فرقًا واضحاً بين الرأي الصحيح والمعرفة، وهذا ليس على الإطلاق تخمينًا عندي ولكن شيئا أود أن أؤكد على معرفتي له بشكل خاص: لايوجد هناك الكثير من الأشياء التي أود أن أؤكد على معرفتها، لكن هذا الأمر بالذات، على كل حال، سوف أضعه بين ما أزعم معرفته. كانت طريقة سقراط في إظهار الجهل بالواقع وسيلة استفزازية من خلال اصطناع الأخطاء أو التوبيخ لحث الناس على التفكير والتمييز بين الرأي والآخر (الذي يمكن أن يكون في كثير من الأحيان مضلل بعنف) والإدعاء الثابت والمنطقي. وبعبارة أخرى، ربما كان لسقراط العديد من الآراء الجيدة، لكنه أدرك تمام الإدراك بأن هذا لا يمكن أن يكون أساسا للحكمة.
على الرغم من وجود فلاسفة سبقوه، إلا أن سقراط كان المؤسس الحقيقي للتقاليد الفلسفية الغربية وذلك لأنه أول من حقق في الشؤون الإنسانية علمياً. وقد كتب عنه شيشرون رجل الدولة الروماني عن إنجازه الهائل وشجاعته على طرح أسئلة حول الحياة والأخلاق: “سقراط كان أول من ينزل بالفلسفة من السماء إلى الأرض”.
كثير من الناس لا يزالون يعتبرون الأخلاق مجرد مسألة رأي. فعن دراسة أجريت عام 2015 من قبل مجموعة أبحاث بارنا تفيد بأن 74٪ من الجيل الحالي أيدوا مقولة “كل ما هو مناسب لحياتك أو يعمل بشكل أفضل بالنسبة لك هو حقيقة المُثلى لك. وعلى النقيض من ذلك، كان سقراط يؤمن إيماناً راسخاً بأن الشؤون الإنسانية تحكمها مبادئ مطلقة وبالتالي يمكن التحقيق فيها مثل مجالات المعرفة الأخرى. وعلى الرغم من تكريس حياته كلها لهذه الدراسات، اضطر إلى الاعتراف بحدود معرفته. وكما أن أبحاث السرطان لن تتوقف حتى تجد علاجاً له، يجب أن نواصل العمل الذي بدأه سقراط، لأجل حياتنا التي تعتمد على هذه الأبحاث، فمهمة سقراط المقدمة للأجيال القادمة سيجعلنا أفضل وأكثر شجاعة وأقل عجزاً حتى أمام فكرة أنه لا توجد إمكانية لاكتشاف ما لا نعرفه.
- دانيال سيلفر مينتز هو أستاذ مشارك في قسم الفلسفة في جامعة هيوستن.