الفلسفة

أفكار سقراط

  • ترجمة: عبد الجليل السحيمي
  • مراجعة وتحرير: المها العصفور

في حوارات كسينوفون المسماة بـ ’ الميمورابيليا ‘، علّق هيبياس عند سماعه سقراط وهو يتحدث مع مجموعة من الناس في شوارع أثينا فقال: “سقراط، أنت لا تزال تكرر نفس الأشياء التي سمعتك تقولها منذ وقت طويل”.

فرد عليه سقراط محقرًا هذه المحاولة للتقليل من شأنه: “نعم، والأمر الأكثر روعة: أنني لا أقول فقط نفس الأشياء، لكنني أقولها أيضا عن نفس الموضوعات”.

فيما يلي سنعرّج على بعض الأفكار الرئيسية التي كررها سقراط مرارًا وتكرارًا في محادثاته مع زملائه الأثينيين. وذلك من ناحية:

  1. عبارته المأثورة “اعتن بروحك”.
  2. وقناعته بأن معرفة الفضيلة والأخلاق ضرورية من أجل أن تحققها وبالتالي هذه الفضيلة ضرورة لتتحقق السعادة.
  3. إيمانه بأن جميع الأفعال الشريرة تُرتكب بدافع الجهل.
  4. وأخيرًا افتراضه بأن ارتكاب الظلم أسوأ بكثير من معاناة الظلم.

كان سقراط يعتقد أن للفلسفة دورًا مهمًا في حياة الأفراد. وفي حوار أفلاطون، غورغياس أوضح سبب اعتقاده بأنه: “لأنك ترى ما تدور حوله مناقشاتنا، وما إن كان هناك شيء يمثل أكثر خطورة لرجل -حتى وإن كان قليل الذكاء- من خطورة سؤال: ما هي الطريقة التي يجب أن نعيش بها؟”

وفي الواقع فإن كثيرًا من الناس لا يُجيلون فكرهم بوعي في هذا السؤال حول كيف يجب أن يعيش المرء. وبدلاً من ذلك، تتّشكل طبيعة حياتهم إلى حد كبير من خلال القيم والعادات الثقافية التي يلزَمونها دون أي مساءلة. ولكن بالنسبة لسقراط، إعمال الفكر في تأمل هذا السؤال مهم جدًا، إذ أنه من خلال السعي للحصول على إجابات عليه يمكن للمرء أن يلقى شيء من الأمل لتحسين حياته. وأحد الأسباب التي تجعل معظم الأشخاص لا يفكرون في هذا السؤال عن وعي هو أنه يتطلب أن يتحصل المرء على المعرفة الذاتية، أو بعبارة أخرى: أن يحوّل البشر نظرتهم إلى داخل ذواتهم ويحللون طبيعتها الحقيقية والقيم التي توجّه حياتهم. وهذه المعرفة قد تكون أصعب المعارف التي من الممكن الاهتداء إليها.

وهذه القناعة عبّر عنها سقراط في العديد من عباراته المشهورة كما في قوله: “الحياة عديمة التجارب والابتلاء لا تستحق العيش”، ومحاولة التعرف على الذات هي أهم ما يمكن أن يقوم به المرء إذ أنها الطريقة الوحيدة التي تتيح لنا الإجابة عن سؤال: “كيف أعيش حياتي؟” وكما أوضح سقراط ” بمجرد أن نعرف أنفسنا، قد نتعلم بعد ذلك كيف نهتم بها، وبغير ذلك فلن نستطيع”.

وعندما نُدير نظرتنا إلى الداخل بحثًا عن المعرفة الذاتية، ظن سقراط أننا بذلك سنكتشف طبيعتنا الحقيقية. وعلى عكس رأي الجماهير، فإن الذات الحقيقية وفقًا لسقراط، لا يجب تحديدها بما نملكه، أو بمكانتنا الاجتماعية، أو سمعتنا، أو حتى بجسدنا. بدلاً من ذلك، أكد سقراط على أن ذواتنا الحقيقية هي أرواحنا.  وكملاحظة جانبية سريعة، من المهم أن نذكر أن الإغريق القدماء عاشوا قبل صعود المسيحية، وبالتالي فإن مفهوم “الروح” لم يكن له نفس الدلالات الدينية التي كانت لدينا. فما عناه سقراط عندما ادعى أن النفس الحقيقية هي الروح ليس معروفًا على وجه اليقين. وعلى الرغم من ذلك فإن العديد من العلماء اتخذوا وجهة نظر مشابهة لتلك التي طرحها مؤرخ الفلسفة الشهير فريدريك كوبلستون الذي كتب أنه في وصفنا لذاتنا الحقيقية بأنها الروح، فإن سقراط كان يشير إلى “مسألة التفكير والرغبة”.

ووفقًا لسقراط، حالة روح أحدنا أو كيانه الداخلي هي ما يُشكل نوعية حياته. وبالتالي، فمن الأهمية بمكان أن نكرس قدرًا كبيرًا من اهتمامنا وطاقتنا ومواردنا لجعل أرواحنا حسَنَةً وجميلة قدر الإمكان. أو كما أوضح في حوار أفلاطون’الاعتذار‘: “لن أتخلى أبداً عن الفلسفة أو أتوقف عن حثّكم أو عن بيان الحقيقة لأي واحد منكم قابلته، مخاطبًا إياه بأكثر أسلوب اعتدته: “أيها الرجل النبيل، … ألا تخجل من الاهتمام باكتساب الثروة والسمعة والشرف، بينما لا تهتم أو تفكر بالحكمة والحقيقة وكمال روحك؟”.

بعد أن توصّل سقراط إلى إدراكه أن الذات أو الروح الداخليين للفرد أمر بالغ الاهمية، اعتقد أن الخطوة التالية في سبيل معرفة الذات هي التمييز بين ما هو خير وشر، وفي هذه العملية يتعلم المرء غرس الخير داخل الروح وتطهيرها من الشر. ويفترض معظم البشر على نحو متعسف أنهم بمقدورهم معرفة الخير والشر على وجه اليقين. ويعدّون أشياء مثل الثروة والمكانة والسرور والقبول الاجتماعي على أنها أعظم الخيرات في الحياة، ويعتقدون أن الفقر والموت والألم والرفض الاجتماعي أعظم الشرور.

إلا أن سقراط لا يتفق مع هذا الإجابات، ويعتقد أنها ضارة لأقصى حد. وأيضًا يرى أن جميع البشر يكافحون بشكل طبيعي بعد التوصل إلى السعادة، لأن السعادة هي الحد النهائي في الحياة وكل ما نُقدِم على فعله نفعله؛ لأننا نعتقد أنه سيجعلنا سعداء. ولذلك نعتبر كل ما نظن أنه سيجلب السعادة “خيرًا “، وتلك الأمور التي نظن أنها ستجلب المعاناة والألم “شرًا “. وبالتالي، فإذا كان لدينا تصور خاطئ لما هو خير، فسنمضي حياتنا في مطاردة محمومة لأشياء لن تجلب لنا السعادة حتى لو حظينا بها.

ومع ذلك، وفقًا لسقراط، إذا كرّس المرء نفسه للمعرفة الذاتية والبحث الفلسفي، فسرعان ما يقوده ذلك إلى رؤية أكثر ملاءمة للخير. وادّعى أن هناك خيرًا واحدًا، وأن امتلاك هذا الخير وحده سيكفل لنا سعادتنا. وهذا الخير الأسمى في نظر سقراط هو الفضيلة.

وتُعرّف الفضيلة بأنها السمو الأخلاقي، ويُعد الفرد فاضلاً إذا كانت شخصيته مكونة من السمات الأخلاقية المقبولة كفضائل. وفي اليونان القديمة، تضمنت الفضائل المقبولة الشجاعة والاعتدال والحكمة والعدالة.

وقد أضفى سقراط هالةً على الفضيلة كونها أعظم خير في الحياة، لأنها وحدها القادرة على ضمان سعادة الفرد. حتى إن الموت مسألة تافهة بالنسبة للفرد الفاضل الذي يدرك أن أهم شيء في الحياة هو حالة روحه والتصرفات التي تنبثق عنها: “أيها المرء لست محقًّا، إذا كنت تعتقد أن رجلاً -لا يعنيه شيء على الإطلاق- من شأنه أن يعطي وزناً لخطر الحياة أو الموت، أو أن يأخذ في الاعتبار أي شيء غير ذلك عندما يتصرف: سواء كان فعله عادلاً أو غير عادل، أو كان التصرف من رجل خيّر أو شرير “. (الاعتذار 28 ب -د).

ومن أجل أن يكون المرء منا فاضلاً أكد سقراط أنه يجب علينا التوصل إلى معرفة كُنه الفضيلة. بمعنى آخر، معرفة طبيعة الفضيلة هي الشرط الضروري والكافي ليصبح المرء فاضلاً.

ولإيجاز هذه الفكرة من الأفضل أن يُعبّر عنها في صيغة بسيطة: المعرفة = الفضيلة = السعادة. فعندما نهتدي إلى معرفة الفضيلة سنكون فضلاء، أي سنجعل أرواحنا طيّبة وجميلة وعندما نحسّن أرواحنا سننعم بسعادة حقيقية.

وإذا كان كل الأفراد يرغبون في السعادة على نحو طبيعي، وإذا كان المرء يستطيع تحقيق السعادة عن طريق كونه فاضلاً، فهنا يُطرح سؤال بسيط: لماذا يفشل الكثير من الناس في أن يصبحوا فضلاء؟ وبدلاً من ذلك يُقدمون على أفعال شرّيرة وبالتالي يمنعون أنفسهم من بلوغ ما يريدون؟ وبعبارة صريحة، جواب هذا السؤال هو أن معظم الناس جاهلون، فإذا تيقّن المرء من أن ما يفعله شر فإنه سيمتنع بذلك عن الإقدام على فعله. ولكن نظرًا لأن جميع الأفعال الشريرة ترتكب بدافع الجهل، فقد أقر سقراط بأن جميع الأفعال الشريرة تُرتكب لاإرادياً. ولم يعن سقراط أنه عندما يرتكب المرء فعلاً شريراً فإنه يفعله في حالة من عدم الوعي الكامل، بل عنى بذلك لأن مثل هذا المرء لم يكن مدركاً أن فعله كان شراً. وفي حوار أفلاطون: يقول بروتاجوراس: “رأيي هو أنه لا يوجد رجل حكيم يعتقد أن أي شخص يخطئ بمحض إرادته أو يرسخ أي قاعدة لذلك أو يعمل شرًا. فالحكيم يعلم جيدًا أن كل قاعدة أو عمل شرير يرتكب بشكل لاإرادي”.

فالفرد الذي يرتكب فعلًا شريرًا يجهل حقيقة أن الفضيلة وحدها هي الصالح الحقيقي. ويفترض مثل هذا الفرد كذبًا أن الثروة والسلطة والسعادة هي أعظم ما في الحياة، ومن ثَمّ سيسلك مسالك شريرة لتحقيق هذه الأمور إذا لزِم الأمر. وبعبارة أخرى، مثل هؤلاء الأشخاص يجهلون حقيقة أنهم من خلال ارتكاب مثل هذه الأفعال الشريرة يلوّثون أرواحهم وبالتالي يعرّضون أنفسهم للتعاسة الدائمة.

وكما يوضح تايلور: “يقع الشر دائماً بناءً على تقدير خاطئ لماهيّة الخير. فالمرء يفعل ما هو شر ظنًا منه أنه سيجني الخير من ذلك، أو أن يحصل على ثروة، أو قوة، أو متعة، ولا يتنبّه إلى حقيقة أن ذنب الروح يفوق المكاسب المفترضة بما لا حد له”.

فهذه النفس التي ألحقت الأذى بروح المرء بسبب عدم التصرف بإيجابية هي أعظم شر يمكن أن يصيب المرء. في الواقع، ذهب سقراط إلى تقديم الادّعاء المدهش بأنه من الأفضل أن يعاني المرء من الظلم بدلاً من اقتراف ظلم. “إذن، فقد أصبت الحقيقة عندما قلت إنه لا أنا ولا أنت ولا أي رجل آخر يفضل إلحاق الظلم بأحد بدلاً من تجرع معاناة كونه مظلوماً: لأن ذلك أسوأ.” (جورجياس)

فعندما نُلحق ظلمًا بأحد، فإننا نؤذي أرواحنا، التي هي ذاتنا الحقيقية. ومن ناحية أخرى، عندما نعاني من ظلم، فليست أرواحنا هي التي تتضرر، ولكن ما يتضرر هو شيء مما نملكه: سواء كان ذلك ثروتنا أو سمعتنا أو حتى أجسادنا. وبما أن حالة أرواحنا لها أهمية قصوى في بلوغ السعادة، فيجب أن نتأكد من أننا نعتني بأرواحنا، وإن كان ذلك على حساب ممتلكاتنا وأجسادنا . وإذا كان الخيار يعود إلينا، فيجب أن نختار تجرّع الظلم بدلا ًمن إلحاقه بأي أحد.

هذا طرح رائع، وختامًا لهذه المقالة، سوف نقتبس مقطعًا لجورج فلاستوس، والذي يعرض حالة قاسية تسلط الضوء على مدى روعة فكرة سقراط:

“تخيل أن شخصًا يعيش في ظل دكتاتورية وحشية، متهمًا بجريمة سياسية، ويبرئ نفسه بإلقاء جرمه كذبًا على صديقه، وعندها يُقبَض على الأخير ويُعذّب، ويخرج من محنته مكسورًا ليموت بعد فترة وجيزة ، في حين أن المتهم، يُعد خيّرا ويُكافأ من قبل النظام، ويعيش في الشيخوخة حياة صحية ومزدهرة. يدّعي سقراط أن مرتكب هذه الفظاعة قد أضرّ بسعادته أكثر من إضراره بضحيته. هل يوجد فيلسوف أخلاقي تقدَّم بمطالبة أقوى من هذه؟ لا أعلم أنه يوجد”.

المصدر
academy of ideas

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى