- سارة ستولر
- ترجمة: عبد الرحمن دسوقي
- تحرير: لطيفة الخريف
- مراجعة: أروى الشاهين
واحدة من أهم نشطاء العمل المرِن في القرن الماضي (أدريان بويل)، نظرت عبر نافذة قاربها في مُقاطعة دوكلاندز المشهورة بدبلن، وهي تعرف جيدًا مقرات جوجل الأوروبية المُكونة من أربعة عشر طابقًا. لم تدخل سياسة العمل المرن هنا بعد، فالأنوار مُضاءة طوال الليل وحتى الحادية عشرة من مساء السبت، قالت لي عندما تحدثت معها منذ ثلاثة أعوام: “كما ترين فالعمل مرِن، أليس كذلك؟ لكنك تعملين ستين ساعة في الأسبوع!”. في الماضي، قبل ظهور هذا الوباء الذي جعل العمل عن بعد ضرورة حتمية، كان الموظفون في أمريكا يريدون المرونة في العمل من حيث الوقت والمكان.
في عام ٢٠١٧ أجرت مؤسسة جالوب استطلاع رأي بالولايات المتحدة الامريكية، ووجدوا التالي:
- ٥١٪ من الموظفين على استعداد تام لتغيير وظائفهم في سبيل التحكم بساعات يومهم.
- ٣٥٪ من الموظفين قادرين أيضًا على تغيير وظائفهم لكن في سبيل مرونة مكان العمل.
كانت المرونة في الأصل مرتبطة بالمرأة لسعيها إلى الجمع بين العمل مدفوع الأجر ورعاية الأطفال بالمنزل، ومنذ ذلك الحين تحولت المرونة لعنصر رئيسي في قائمة المزايا المطلوبة لكل الموظفين. ففي القرن الحالي أصبحت ثقافة العمل المرن في أوجها في أكبر الشركات التقنية، والتي تبنت مفاهيم عديدة ومنها: الحياة المتوازنة، عمل صديق للأسرة، وجودة الموظف.
حتى هؤلاء الموظفون الذين يتمتعون بفائدة المرونة -مع كون الأقلية هي المتميزة- وجدوا أنها لا تعني بالضرورة أن حياتهم المهنية قد تحسنت أو أصبحت أسهل. المرونة قادرة على أن تجعل رسم الفواصل بين عملك مدفوع الأجر وبين أي شيء آخر أمرًا صعبًا، بل والأصعب من ذلك فصل عملك عن باقي أنشطتك اليومية، ولم تنجح المرونة بالعمل في حل المشاكل المُلِّحة للأطفال أو لرعاية المسنين أو حتى نقل الأعمال المنزلية وتقسيمها المنزلية طبقًا لنوعك الاجتماعي. لكن لا تزال شركات مثل جوجل وفيسبوك يُفضِلون الإعلان على الملأ عن مزايا موظفيهم، مع أنهم لم يُصلحوا بعد مشاكل رعاية الأطفال لموظفيهم، ولا يزال جليًّا لنا فشلهم في جعل مزاياهم مُتاحة للجميع. إعادة التشكيل المُفاجئة لطبيعة العمل اليومي لعشرات الملايين نظرًا لهذا الوباء الذي نعيشه جعلت الأمر أشبه بالدراما… كيف اختلف تفسير مصطلح (العمل المرن)؟ فبعض الناس يراه حرية، وبعضهم يراه كالحبس.
لم تنشأ سياسات العمل المرنة في عصرنا في لحظة الأزمة المفاجئة، بل لتباطؤ احتراق الموجة الثانية من النشاط النسوي. في السبعينيات، ومع تزايد أعداد النساء اللاتي دخلن في حسبان القوة العاملة بالأجور، إلا أنهن ينلن نصيبًا غير متساوٍ من رعاية الأطفال والعمل المنزلي. وكما رأينا في جماعات رفع الوعي والحملات الانتخابية التي نشأت فجأة في الولايات المتحدة وأوروبا، لقد ازداد إدراك النساء بأن ما شعرن به (فقط) كان لأسباب سياسية في واقع الأمر. جيل جديد من النشطاء يدفعون لتغيير بنية العمل وظروفه مدفوعة الأجر. وكانت الفكرة تتلخص في جعلها أكثر ملائمة لاحتياجات الموظفين من ذوي مسؤليات الرعاية، والسماح للمرأة -أيًّا كانت خلفيتها- بالمشاركة في الاقتصاد على قدم المساواة مع الرجل، وهذا سيحث الرجال على المشاركة أكثر للحفاظ على منازلهم وأسرهم. وكان النشاط النسوي فيما نسميه الآن “المرونة” جزءًا من رؤية لإعادة صناعة المجتمعات ودعم احتياجات العاملين بوصفهم بشرًا.
ويتجلى هذا بوضوح في شهادة النساء اللاتي كرّسن طاقتهن لإعادة تصور العمل مدفوع الأجر -في الوقت الذي كان فيه أسبوع العمل يتراوح بين 5-9 ساعات- وهو أسبوع عمل مدته ٤٠ ساعة، وكان هذا هو النموذج شبه العالمي للنجاح المهني.
لقد ضاعت الرؤية في قلب الحملات الانتخابية، منذ العقود الماضية التي تحدت فيها الحركات النسوية هياكل العمل مدفوع الأجر. ومع تبني أصحاب العمل الأفكار النسوية لتشكيل مكان العمل، إلا أنهم في الغالب يظلون متمسكين إستراتيجيًا بجواب هذا السؤال (من الذي سينتهي به الأمر برعاية الأطفال؟!) ومن عجيب المفارقات هنا أن استخدام أفكار أنصار الحركة النسوية حول تحويل العمل مدفوع الأجر كان سببًا لتقديم مساهمة كبيرة في العمل على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع مقارنةً بمساهمته في فتح خيارات جديدة أمام النساء. فقط بالنظر للوراء -للمبادئ السابقة التي شكلت سياسات العمل المرنة- نستطيع أن نسترجع شعورًا أكثر ثراءً لتخيل مستقبل ناجح لنا جميعًا.
وُلدت بويل عام ١٩٤٦، وهي واحدة من ثمانية أطفال في عائلة من الطبقة العاملة في مدينة دبلن الداخلية. وبحلول أواخر السبعينيات شاركت في أنشطة متطرفة في لندن، حيث جاءت للدراسة. عندما أتمت أحد مؤهلات العمل المجتمعي في عام ١٩٧٧ كانت “أما عزباء” تبحث عن عمل بدوام جزئي، ولكنها لم تجد وواجهت حقيقة تولي عمل لا يتطلب مهارة. وخلال عام كانت بويل تلتقي بانتظام مع مجموعة صغيرة من النساء في الغرفة الأمامية من سكنها ليفكرن فيما يمكن عمله. وبإلهام من منظمة تُدعى (الطرق الجديدة للعمل بسان فرانسيسكو) شكلوا مشروع مشاركة الوظائف ليؤيدوا ويدعموا السماح لشخصين بتقسيم منصب بدوام كامل.
وكان كل هذا يتجلّى بوضوح في صلب حركة تحرير المرأة في السبعينيات، مع دفع النساء في الولايات المتحدة وأوروبا لتطبيق إصلاحات جوهرية على العلاقات: الحميمية والمهنية والسياسية. بعض النقابات وأصحاب الأعمال في الولايات المتحدة وبريطانيا عمِلوا بقدر من المرونة في الستينيات، وكان ذلك وسيلة للسماح للنساء الماهرات بالبقاء على قيد العمل بالأجر بعد إنجاب الأطفال. وبحلول منتصف السبعينيات أشارت البحوث الناشئة عن المجتمع الاقتصادي الأوروبي إلى أن ساعات العمل المرنة كانت المقياس المُرجّح لتحسين فرص المرأة المهنية. ومن ناحية أخرى كانت هناك مد لحركة جديدة للضغوط الاجتماعية والشعبية المُطالبة بحقوق المرأة، والتي انتشرت كاللهب بين أمريكا وأوروبا. مزامنةً مع هذا التوقيت فقد ربط الناشطون النسويون صراحةً بين ممارسات المرونة في العمل وآمالهم في مجتمع أكثر مساواة.
وقد أدى التوسع في التعليم العالي بعد الحرب إلى نشأة مجموعة كبيرة من النساء بتدريب مهني ممتاز وطموحات جديدة للسعي إلى تحقيق مسيرة مهنية مُشرقة. وبحلول سبعينيات القرن العشرين، كان ارتفاع تكاليف المعيشة وركود المرتبات يعني أن دخل رجل واحد لإعالة الأسرة أصبح غير كاف لدعم الأسرة كاملةً، وأن فئة كبيرة من النساء يجب عليهن البدء بالبحث عن الوظائف لمواجهة هذه المتطلبات. بين أوائل الخمسينيات والسبعينيات كانت نسبة النساء المتزوجات المُقيّدات بالعمل تتراوح بين ٢٢٪-٤٢٪، وقد استمرت تلك النسبة في الزيادة بحلول عام ١٩٨٠ وما بعده. وفي عام ١٩٨٩ نجد أن نسبة ٥٧٪ من الأسر كانت من ذوات الدخل المُزدوج.
ومع تجمع النساء الناشطات في جماعات عكسوا ذلك على النضال من أجل الجمع بين العمل مدفوع الأجر ورعاية الأسرة، أو ما أطلق عليه “التحول الثاني”، وعلى مدى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي دعا ناشطو الحركة النسوية لمرونة ساعات العمل والتواصل، ودعوا أيضًا لأفكار مثل (العمل في أوقات معينة)، و(المشاركة في الوظائف). وهم يأملون أن تعمل هذه السياسات الجديدة على زيادة المساواة في فرص العمل للمرأة، وإلغاء تقسيمها على حسب الجنس للعمل في المنزل، وتحدي وجهات النظر التقليدية حول العمل المدفوع.
وكان البرنامج يبدو عمليًّا وخياليًّا في وقت واحد، وفكرته تتلخص في فتح فرص العمل بدوام جزئي في مجموعة من المهن غير محدودة نظريًّا، إذ إن تقاسم الوظائف يعني ساعات أقل وفرصة أكبر لبقاء الأمهات في عمل مدفوع الأجر دون فقدان المميزات، وفي الوقت نفسه سيتحدى هيمنة أسبوع العمل من 9 إلى 5 مساء، والذي كان يلائم أغلب الرجال فقط، لكنه في الأساس لا يتفق مع رعاية الأطفال.
كان دعاة مشاركة الوظائف من نساء الطبقة المتوسطة اللاتي تمتعن بالتعليم العالي -والذين كانوا من بيض البشرة- وقد أدركوا أن مشاركة الوظيفة لن يكون كالعلاج السحري لكل الموظفين، وفي المقام الأول هؤلاء الذين يحتاجون لدخل كامل. لكن الفكرة عكست قناعة مثالية بأن تقاسم الوظائف يعمل على تشفير العمل، وبتوسيع المجتمع بالاستعانة بمجموعة جديدة من القيم. مُخطط المدن والناشط في المشاركة المبكرة في العمل (بام والتون) قال إن مسؤولية هؤلاء المشاركين لن تكون “أنانية أو انحيازية”، فمشاركة الوظائف تُفضل القيم “الأنثوية” التي تُرى على أنها تقليدية مثل التعاون والاستماع والمشاركة. وقد وعدت أيضًا أن تكون ما عرفه بويل والتون (الطريقة الاجتماعية في العمل) وقد تخيل الناشطون أن إعادة صياغة ثقافة العمل من شأنها أن تحول العمل لصالح الجميع.
إضافة للضغط بشدة من أجل إصلاح بنية العمل مدفوع الأجر، شنّت الحركات النسائية حملة لإنشاء دور الحضانة بجانب موقع العمل. ومع تراجع دعم المملكة المتحدة بعد الحرب لرعاية الأطفال، وجدت النساء العاملات أنفسهن في مأزق؛ ومع تزايد الأعداد، استمرت الجماعات النسائية كالحملة الوطنية لرعاية الطفل في المطالبة برعاية الأطفال بدعم من الدولة، وذلك كان أثناء الثمانينات، ولكن كثيرًا من الناشطين استسلموا لواقع الحد الأدنى من الدعم المجتمعي. بل بدأوا في اللجوء لأصحاب العمل لتوفير الحلول. وكان الحال مماثلًا في الولايات المتحدة حيث حالة الرفاهية الأقل، وهذا يعني أن النشطاء كانوا معتادين على تقديم الالتماسات إلى القطاع الخاص من أجل الفوائد.
وقد دفعت الحركة النسائية لإنشاء الحضانات على نطاق أوسع من مكان العمل، من الجامعات … إلى محلات البقالة. لقد أدركت هذه الحملات أن المرونة وحدها لا تكفي، وخاصةً لهؤلاء الُمحتاجين للعمل بدوام كامل، أو أجورهم متدنية. وفي عام ١٩٧٠ قادت بام كالدر -محاضرة علم النفس بمعهد بوليتكنيك في بنك جنوب لندن- حملة لإقامة حضانة بمكان العمل، ومع نجاحها البارز إلا أنها استغرقت خمس سنوات قبل بروزها، وفي هذه الفترة كافحت كالدر لتأمين رعاية آمنة للأطفال. وفي اليوم المقرر لعودتها للعمل، كانت ابنتها تبلغ ثلاثة أشهر، ولم تعثر على مربيتها المسجلة والتي كانت قد رتبت لها. ومع حالة يأس تركتها كالدر مع جارتها واستمر هذا الترتيب، لكن حل رعاية الطفل هذا لم يكن شيئًا يمكنك الاعتماد عليه كنظام. وسواء كان الناشطون لصالح رعاية الطفل تحت قيادة صاحب العمل أم المجتمع، فإن دافعهم كان واحدًا وهو أن خدمات رعاية الطفل يجب أن تكون متاحة للجميع، ويجب أن تجمع بين مختلف طبقات المجتمع، ولا يجب أن تقدمها نساء من ذوي الدخل المنخفض لتحقيق فائدة لنساء الطبقة المتوسطة ذوي البشرة البيضاء. وقد أعطت هذه الرؤية الأمل في أن يكون التعليم المبكر ورعاية الطفل مضادين للعنصرية ومضادين لفصيلتك في مضمونها.
وفي الممارسة، كان استخدام رعاية الأطفال وسيلةً من وسائل المساواة أمرًا طويل البال في المجتمعات وأماكن العمل على حدٍ سواء، والناشطون من ذوي البشرة البيضاء لم يدركوا أو يُدققوا في الحواجز الخاصة للأسر السوداء. وفي منتصف الثمانينات، سلّط نشطاء رعاية الطفل من ذوي البشرة السوداء الضوء على هذه التوترات. ففي منتصف الثمانينات أعرب أعضاء مجموعة الدفاع من سود البشرة في إطار الحملة الوطنية لرعاية الطفل عن شعورهم بأن لجنة التنسيق الوطنية هي منظمة تدعم البيض ولا يبدو أنها تفكر في كيفية قيام أشخاص آخرين بتربية أولادهم تربية مختلفة.
ومع التحديات المتمثلة في بناء حركات نسائية واسعة النطاق، فإن الحملات النسائية بحلول عام 1980حاولت إعادة تشكيل العمل واكتسبت بعض القوة وبخاصة في القطاع العام، وبدأ أصحاب العمل في بريطانيا وأمريكا بتطبيق سياسات تقاسم الوظائف بين مناطق المدارس وصولًا لمجالس الحكومة المحلية. وضعت المرأة في الاعتبار أولًا، ثم توسعت في نهاية المطاف لتشمل موظفين من كلا الجنسين. وقد قاد برج كامدن في لندن الطريق من خلال تقديم إفادة للأبوين والأسرة كاملة: وهي عبارة عن مخطط رسمي لتقاسم الوظائف ومفتوح للجميع بغض النظر عن الجنس أو الراتب. إضافة إلى مركز لرعاية الأطفال بموقع العمل. وعمل المجلس بلا كلل لكي يري أن ساعات العمل تُلبي حاجة العاملين به، وأن الموظفين بجميع الخلفيات وجميع الأجور يمكنهم استخدامها. وكانت هذه السياسات فضلًا عن ساعات العمل المرنة أو موقع العمل هي التي رجّح الناشطون أنها ستعزز ثقافة العمل.
وفي التسعينيات قدم ناشطو الحركة النسائية المرونة في الساعات ومكان العمل ميزتين لدعم الموظفين بوصفهم بشرًا يمتلكون حياة ومسؤوليات وراء تلك التي استنزفتها الرأسمالية. وفي عام ١٩٩٩ أصدرت ورشة عمل لييدز للرسوم المتحركة ببريطانيا فيلم بعنوان (العمل مع الاهتمام) الذي صور قصة خيالية لملكة وخدمها. وبصفتها ملكة للخير ضمنت لجميع الموظفين الملكيين ليس فقط المرونة في ساعات وأماكن العمل، بل إمكانية الحصول على رعاية الأطفال وكبار السن في الموقع، وخدمة غسيل الملابس في الشركة، ومغسلة وكافتيريا وصالة ألعاب صالة مساج ومكتب نقابي. فمكتب العمل يشبه المدينة باحتياجات مجتمعها بقوة في المركز.
وبعد الجيوب التقدمية للقطاع العام، فإن تاريخ ممارسة التوظيف الأمريكي كان مختلفا إلى حدٍ ما. سخاء النمو الاقتصادي بعد الحرب ساعد سياسات القطاع العام لدعم احتياجات العاملين من ذوي مسؤوليات الرعاية. لكن على مدى الثمانينات كان الركود الاقتصادي والتخفيضات في القطاع العام بمثابة ضمان لتقاعس إبداعات مجال العمل.
والآن أصبح القطاع الخاص هو صاحب عصا الإصلاح للبنية المجتمعية في مكان العمل. فقد نفذت شركات أمريكية وبريطانية كبرى، تتراوح بين أمريكان إكسبريس ورانك زيروس إلى سوق ناتويست وسينسبري ماركت بتنفيذ ما يسمى بسياسات العمل “الصديقة للأسرة” ولأول مرة. وفي أقل من عقد من الزمان، بدأت الشركات الخاصة تتنافس فيما بينها على نحوٍ نشط لكي يظن الناس أنها تتمتع بأفضل الفوائد للعمال الذين لديهم أسر، ولكن ما ظهر للوهلة الأولى على أنه انتصار مدوٍّ كان في الممارسة عبارة عن تسوية لخفض الضغط النسوي.
إن انفتاح القطاع الخاص لإعادة النظر لعمل المرأة لم يكن تلقائيًا أبدًا. بل إن الأمر كان يعتمد على الجهود الدؤوبة التي تبذلها الحركات النسائية التي تسعى لإحداث تغيير في النظام. وفي عام ١٩٧٨ تلقت أكاديمية مارچري بوڤال تمويلًا من صندوق مارشال الألماني في الولايات المتحدة لتحفيز مشروع العمل من أجل المرأة في أوروبا. لقد قضت بوفال عامًا تعمل مع مركز ناتويست ببريطانيا. وهناك حاولت الدفاع ضد افتراض أن النساء دومًا يرغبن بالبقاء بالمنزل بمجرد إنجابهن أطفالًا، وأكدت أن البنك نفسه سيفوز فور إبقائه على الموظفات المتدربات، لكنها واجهت صعوبات شاقة مع مديري الشركات. بوڤال قالت لي في مقابلة أجريتها معها: إن الأمر استغرق وقتًا طويلًا لأن هؤلاء الرجال لم يُدرِكوا ماهية الحياة المهنية للمرأة المُتزوجة. وكثيرًا ما وجدت أن هذه العملية مرهقة وكئيبة، ولكنها كانت محفزة على النقيض: لقد حولني المديرون الذين كنت أقابلهم إلى نسوية. وبحلول عام ١٩٨١ أقنعت بوڤال البنك بتقديم أول مخطوطة لإعادة إجازة الأمهات في بريطانيا، لكن اقتراحاتها الإضافية -بما في ذلك ساعات العمل المرنة، رعاية الأطفال في محل العمل والإجازة الأبوية للرجال والنساء- أحرزت تقدمًا ضئيلًا.
ومع ذلك، ضاعفت الحركة النسائية جهودها للارتباط بالقطاع الخاص. بينما كان الناشطون يناضلون لجعل القطاع المادي مسنودًا، فإن العمل مع القطاع الخاص قدم مزايا أيضًا. وقد بدأت بوضوح جماعات مكونة من ناشطين يساريين -بما في ذلك مشروع تقاسم الوظائف- بإعادة تشكيله على أنه غير ربحي سياسيًا. ففي عام ١٩٨٠ أطلق مشروع تقاسم الوظائف مسمى “طرق جديدة للعمل” بالتوازي مع المنظمة الأمريكية التي أُلهمت به، وحولته للهيئة الاستشارية التي عملت مع القطاع الخاص. في حين تحاول الجمعيات الخيرية النسائية مثل (الطرق الجديدة للعمل) للاستفادة من الاستدامة والمصداقية الناتجة عن طفرة الثمانينات في مجال الاستشارات التجارية.
وفي الوقت نفسه كان أصحاب العمل في القطاع الخاص في بريطانيا يزداد قلقهم بشأن التحولات الديموغرافية والتي قد تؤدي إلى انحدار عدد الموظفين التقليديين. بدأ صناع القرار السياسي بالتحدث عن قنبلة الوقت الديموغرافية نتيجة للهبوط الحاد في معدل المواليد في أواخر السبعينيات في أعقاب تزايد السيطرة المتاحة على المواليد وشرعية الإجهاض. وبحلول منتصف التسعينيات كان هذا القلق هو أحد الأسباب المؤدية لانحدار حاد في خريجي المدارس الذين يدخلون سوق العمل. ونتيجة لذلك فإن الحاجة لتعيين والحفاظ على موظفات أصبحت ملحة. ولقد انتهز التقدميون هذه الفرصة لتعزيز الأفكار النسوية حول إعادة هيكلة العمل مدفوع الأجر، لكن الأمر المهم أنهم استوعبوا بعض القطاعات الخاصة وسبل هيكلة المشاكل.
وفي إطار تعاونهم مع الشركات، بدأ الناشطون في تحويل تركيزهم بخصوص تقاسم الوظائف واحتياجات الأمهات إلى فوائد المرونة واحتياجات الموظفين عمومًا؛ ومن خلال تأطير المطالب على أساس احتياجات كل من العاملين والعاملات، يمكن للناشطين أن يقاوموا تهميش أجندة العمل المرن. هذا بالتغلب على كثير من العقبات التي واجهها بوڤال قبل عقد من الزمان، ولتشكيل قضية تجارية جديدة من أجل المرونة. ومع ذلك سار الناشطون خطوات جيدة بين مناشدة أعماق الشركات والحفاظ على أجندة نسائية صريحة. أما نشطاء العمل المرن عانوا لفترة طويلة من الطبقية العمياء عندما يتعلق الأمر بالحقائق التي تواجه ذوات الدخل المنخفض، وهي الفترة التي تفاقمت بسبب الاهتمام شبه الحصري من قِبل القطاع الخاص تجاه الموظفات الماهرات والأكثر أجرًا.
وسرعان ما عرفت الشركات أن المرونة إلى جانب إجازة الأمومة الأساسية والشروط اللازمة للعودة إلى العمل بعد الولادة، تخدم مصالحها المادية. لم تؤثر المرونة الكبيرة (من حيث الوقت ومكان العمل) على إنتاجية الموظفين أو جودة العمل أو الكفاءة. في الوقت نفسه، سمحت السياسات الأكثر مرونة للشركات بتصوير نفسها وكأنها “تقدمية”، ومن ثم اللجوء للمجموعة اللامعة اقتصاديًا من النساء ذوات الخبرة. وهذا نفسه يبرهن على أن المنظمات نفسها التي كانت متحمسة لتقديم مرونة العمل تميل -مع ذلك- لرفض رعاية الأطفال في مكان العمل. وكان جزء من الشركات بالفعل قد أنشأ حضانات للموظفين منذ أواخر الثمانينات، لكن هذا كان استثناءً من القاعدة. فقد رفضت الأغلبية هذه الفكرة لأنها ببساطة باهظة التكاليف، وبدل ذلك اتبعوا قيادة أمريكان إكسبريس وقدموا خدمات ومعلومات لرعاية الطفل للآباء. وكان ذلك مما أدى لتوجيه الآباء للمصادر، ولكن استعانت كل الأسر بالمصادر الخارجية.
ومع هذا فقد بدأت كثير من شركات القطاع الخاص بنشر سرد مفصل عن الموظفين الأصحاء والسعداء في بيئة مُيسرة. وإلى حدٍ ما سهلت المنظمات النسائية هذه الصورة. بدايةً من عام ١٩٩٠ بدأت جمعية الأمهات العاملات- وهي جمعية خيرية للدعوة لمصالح واهتمامات الآباء العاملين- باستضافة مسابقات لرب عمل هذا العام، بهدف “تشجيع أصحاب العمل على تكييف بيئة الشركات مع ما يناسب احتياجات الآباء الموظفين” وقد سلط هذا الضوء على تغير المنظمات، ومع ذلك فإن غالبية الأسر العاملة لم يُترك لها سوى القليل إن وُجد، من فوائد جديدة أو دعم ملموس بجانب استمرار ارتفاع عدد الأسر مزدوجة الدخل.
والواقع إن الأساس المنطقي الذي ساهم في تبني الشركات سياسات توظيف جديدة كان بعيدًا عن الرؤى النسوية من أجل مجتمع أكثر مساواة. ومن غير المستغرب إذن أن يتبنى القطاع الخاص اللغة والأفكار النسوية بانتقائية. ومع ذلك فلم تكن الحجة التي تقول إن الحركة النسائية أُكلت حية ببساطة، بفعل ثقافة رأسمالية جديدة في الشركات. بل إن المنظمات والنُشطاء عملوا بنشاط في القطاع الخاص لتكوين الوضع الراهن. فإذا لم تكن السياسات الجديدة هي كل ما كان يأمله الناشطون ما زلنا بمثابة خطوة للأمام.
على مدى الأربعين سنة الماضية، سمحت المرونة لبعض موظفي الطبقة البيضاء متوسطة الدخل بفرض قدر أكبر من السيطرة على حياتهم المهنية، وكان لهذا تأثير على النساء المهنيات بخاصة. أما الآن فأصبحت الحاجة لإجازة الآباء وغير ذلك من أشكال الدعم للموظفين من ذوي المسؤليات الأسرية راسخةً في كل من أمريكا وبريطانيا، إن لم يكن بعد في الممارسات التنظيمية.
ولكن الآن وقد أصبحنا في القرن الحادي والعشرين، ربما نكون أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من العلم بأن المرونة وحدها ليست ضمانًا لحياة مليئة بالرفاهية. ما زال واضحًا -أوضح من أي وقتٍ مضى- أنه يوجد في إحدى هذه البلدان عمى عن حملات العمل المرن للمرأة لتلبية احتياجات موظفي الدخل المنخفض وأسرهم. وفيما يخص عمال الورديات المتقطعة المُطالبين بالعمل في قطاع الخدمات لساعات مُتقطعة فإن الأمر يتطلب جدولًا ثابتًا ولا حاجة للمرونة. وكما أظهر وباء ٢٠٢٠ فإن العمل من المنزل أو مرونة ساعات العمل ليست مُتاحة في كل الأحوال أو حتى مرغوبة بالضرورة. وما زالت المرأة تتحمل القسم الأكبر من عبء الرعاية. ألم يحن الوقت بعد لإعادة النظر على نطاق أوسع إلى العمل ومكانه في حياتنا؟
منذ بداية القرن الحادي والعشرين، يميل واضعوا النظريات والقرارات إلى التأمل في التوتر بين العمل والأسرة من خلال عدسة التوازن بين العمل والحياة. أما عند بويل فإن هذا المفهوم يبدو وكأنه طبقة متوسطة للغاية وليس جذريًا. وكما أخبرتني من قاربها فإن الإشارة لهؤلاء العاملين بمكاتب جوجل “لا ينبغي لهم العمل لساعات طويلة إلى الحد الذي يمنعون فيه أنفسهم من الذهاب والاستمتاع بأشياء أخرى”.
وقد يزعُم بعض الناس أن التقدم قد يتطلب لغة جديدة لا تتمحور حول الأمهات أو الآباء أو حتى توازن الحياة المهنية والحياة الاجتماعية، لكن يبدو أنهم غفلوا عن حقيقة مهمة وهي “أن ما يربط المجتمعات ليس التوظيف بل في المقام الأول روابط الرعاية”، ومستقبل العمل يجب أن يحتوي على محاسبة عن مسؤوليتنا الاجتماعية في حق أطفالنا، فضلًا عن المسنين والمرضى وغيرهم من الضعفاء الذين هم في نفس الوقت من ذوي الأهمية الحيوية في مجتمعنا. وفوق ذلك يجب أن يكون هناك رؤية تشمل هذه المسؤليات تحت إطار القيم الإنسانية وليس العمل.
اقرأ ايضًا: آتوهن أجورهن: حول مسألة تقييم العمل المنزلي للمرأة