د. عائض بن سعد الدوسري
في ليلةٍ من الليالي الفارقة التي لا يمكن أن ينساها، ولا يمكن أن تكون بعيدة أبدًا عن ذاكرته مهما كانت بعيدة في الزمن. في ليلةٍ سكنت فيها الأشياء، وفي سكون الكون وصمت المكان، كان الهدوء يحيط بكل شيءٍ حول المبنى، يحوطه ويلفه ويحتضنه من كل الأرجاء والجهات، وكأنه يفعل ذلك ليحرس أنفاس وأنين نفوس مجهولة تقبع بداخله حتى لا يسمعها العالم الذي يسكن خارجه. لم يكن هناك أي شيءٍ خارج المبنى يوحي بأن ثمة ما يدعو إلى القلق أو الخوف، فلقد كانت الأشجار الخضراء الجميلة، والزهور الملونة في ساحات ذلك المبنى، والهواء العليل، يبعث حول المكان بهجة ، ويزرع بجوار كل زهرة معنى من معاني الحياة الجميلة، وكأن تلك المظاهرة الخارجية سور ضُرِبَ ليحجب عن المقل الناظرة من بعيد ما يستتر خلف ذلك جدران ذلك المبنى.
في تلك الليلة زرت أحد المستشفات، وبالتحديد أحد الأقسام الخاصة بالأمراض الخطيرة، شققتُ طريقي من خلال تلك الحدائق الجميلة، والهواء اللطيف لا يزيد في نفسي إلا تعلقًا بالحياة وبهجتها، وتفكيرًا في أحلامي وأمنيات التي كانت تتزاحم بسيلٍ من القلق والمخاوف، مخاوف أن يفوتني بعضها أو أن تتحطم بعض تلك الأمنيات قبل أن تكتمل. وباتجاه ذلك المبنى الذي ظهر من بعيد في رونقٍ بديع، تطوف حوله إضاءات خافتة تزيد من سحر المكان، رحت أمشي بخطوات هادئة مستمتعًا بمحيطي الغنَّاء الذي كان يخاطب في أعماقي أشواق الحياة، ويهتف لشباب العمر الذي يأبى أن يعترف بالزمن، وما يفعله بكلٍ مرحلة شباب مغرورة، يعمل فيها بصمت ووقار هادمًا أركانها ومفتِّتًا قواعدها، والإنسان في غفلة عن ذلك المشروع النشط الذي يعمل تحت بنيان شبابه وعنفوانه!
وفي داخل المبنى كانت الإضاءات كاملة في ممررات المستشفى، لكن بالكاد أن ترى أحدًا، وكانت الممرات طويلة جدًا، ونادرًا ما تسمع صوت أقدام قادمة أو ذاهبة، فمعظم طواقم عمل المستشفى في الأجنحة لمراقبة المرضى والعناية بهم في الفترات المسائية، وخصوصًا في منتصف الليل، وكانت رائحة المستشفيات واحدة في كل مكان في العالم، رائحة تذكرك بأنَّ هذا المكان ليس هو المكان المناسب للحياة الطبيعية.
دخلت إلى ذلك القسم بهدوء، وكان السكون الذي يعيش في الممرات ويسكن الزوايا يثير نفسي، فقد كنت أعشق الهدوء في كل مكان، إلا أن هدوء المستشفى كان يشعرني بشيء في أعماقي أجده وألمسه لكني أعجز عن التعبير عنه، شعور معقد لا أعرف كيف أعبر عنه بالكلمات، وربما لو كان رسَّامًا مكاني لربما رسم صورة تشرح ما أجده في نفسي ولا أقدر أن أتحدث عنه بالكلمات. وفي نهاية طريقي إلى غرفة صديقي المريض -عفاه الله وشفاه- الذي كنتُ أريد أن أكون مرافقًا له، مررتُ بمجموعة من المرافقين الآخرين الذين كانوا يرافقون المرضى الذين امتلأت بهم الغرف المجاورة، وجلس بعضهم في أمكان الجلوس الصغيرة للضيوف. كان الصمت والوجوم هي الملامح الوحيدة في كل تلك الوجوه، نظروا إليَّ وأنا أمر أمامهم كأنني مجرد خيال أو ظل عابر، كانت أعينهم تنظر إليَّ لكن لم تكن بالفعل تراني، فكل واحد منهم شارد بذهنه في عالم آخر، عالم من الهموم والتوجس والخوف على الحبيب الذي يرقد على السرير، ولا يعرف اللحظة التي سوف يغطى فيها وجهه وجسده بالغطاء الأبيض، لينقل لمكان آخر، شديد البرودة!
لقد رأيتُ هناك أشخاصًا كانوا يحيون حياة ضاجة بالحيوية، وكانوا يرون حياتهم سوف تمتد لآلاف السنين، بلسان الحال لا بلسان المقال، ثم أصبحوا ساكنين تحت متابعة وعناية الأطباء ومراقبة الأجهزة التي تصدر أصواتًا تخبرهم بكل لحظة ثمينة يعيشونها، وكأنها تذكرهم بتلك اللحظات الكثيرة التي مرت في حياتهم السباقة دون تنبيه. وعلى أسرتهم قد استسلموا، وظهر حينها بجلاء ضعف الإنسان الحقيقي، فهناك خلعت جميع الأقنعة التي كان الإنسان يضعها على وجهه أيام العافية والسلامة والقوة، ولم يعد هناك مجال للإدعاء والغرور والغطرسة والأمنيات العريضة، كل أحلامهم وأمنياتهم هي الشفاء، ومزيد من اللحظات المتعافية في الحياة.
كانت رائحة الموت تنتشر في حول المكان، ولكل غرفة قصة حياة وحكاية ألم، سعيدة أو حزينة، عابرة أو مأساوية، طويلة أو قصيرة، لكبار في السن وصغار، وكنت تسمع في الأرجاء بين الفينة والأخرى حينما تكون مرافقًا لمثل تلك الحالات، أن المريض المجاور لك في الغرفة والذي كنت تتحدث معه في الصباح وكان يضحك معك ويجتهد في طمأنت صديقك، قد مات، وأخليت غرفته منه ومن كل ما يتعلق به، وغادر المرافقون والزائرون الذين ارتبطوا به المكان بلا رجعة، والغرفة بقيت بانتظار مريض جديد، لتشهد قصة جديدة كما شهدت مئات القصص السابقة، فهذا مريض يدخل وذاك مريض يرحل، يرحل بشفاء أو يرحل إلى حيث يوارى جسده تحت التراب.
كنت في أعماقي كزاوية تصوريٍ ترى الأشياء من عدستها، وتراقب الوجوه القديمة والجديدة، وتتفكر في الحياة، قصة قصيرة جدًا في ذلك المكان، وكيف يمكن أن تفكر بحقيقة الحياة بصورة أكثر صفاء وجلاء من تلك اللحظات؟! حيث لم يكن هناك أي حجاب يمكن أن يحجب حقيقية الحياة كما لو كانت عارية تمامًا أمام الإنسان، لم يكن للحياة أن تمارس الخداع أمام ألئك الناس الذين يرقدون على أسرتهم، ما بين غنيٍّ حزينٍ على مفارقة الدنيا وتركه ثرواته خلفه، وما بين فقير يحاول أن يلتقط قشات الحياة يريد أن يتعلق بها لعيش حياة أفضل، وكان الذي يجمعهم هو أمنياتهم في الشفاء، وكل واحدٍ منهم يسأل نفسه بقلق: يا ترى من هو الأول الذي سيغادر هذا العالم؟!
كان الجميع سواسية، ولم يكن المرض يفرق بين غني وفقير، وكبير وصغير، وامرأة ورجل، وكان الشيء البارز الذي جمعهم ومن معهم من المرافقين؛ هو التعاطف الصادق المتبادل بينهم، والرغبة الحقيقية لبعضهم بالشفاء والنجاة، وكل واحد يحاول أن يخفف أحزان الآخر، وهو نفسه يعجز أن يواسي نفسه ويخفف أحزانها، لكن تعاطفه مع الآخرين كان يوجد نبلاً بينهم ومواساة حقيقية، وهكذا هو فعل الخير الصادق يزرع الأمل والمواساة في الأرواح.
في خارج ذلك المبنى كانت الحياة مختلفة جدًا، وكأنك تعيش في عالمين أو كونين مختلفين، بمخلوقات مختلفة، واهتمامات وأمنيات ورغبات متباينة تمامًا. وكأن الإنسان يجد في قلبه رغبة عارمة في أن يمزج بين العالمين ليرى العالم الذي يعيش خارج ذلك المبنى العالم الذي يسكن داخله، ويسمع أنينه وحقيقة نظرته للحياة وآمالهم وأمنياتهم، ليقدِّروا حقَّ التقدير حياتهم التي ينعمون فيها بالصحة والعافية والقوة، ومع ذلك تراهم يجتهدون في قتل أوقات حياتهم قتلاً بلا فائدة، وكأن الحياة صارت عبأ ثقيلاً وهمًا لا يطاق، ولو غمسوا في آلام أولئك غمسة واحدة لاستيقظوا من غفلتهم، ولأدركوا ما هم في من نعم عظيمة وغفلة كبيرة.
ومثل حال هؤلاء الذين يفرطون في أوقاتهم الثمينة في الغفلة، حال أولئك الذين يحملون في نفوسهم الأحزان والهموم والمخاوف بلا مبرر حقيقي، وإنما مرد كل ذلك إلى أوهام مستقرة في عقولهم، ووساوس زينها الشيطان في مخيلتهم، فصاروا أسرى لها، تضيع حياتهم سدى في قلقٍ ورعبٍ وحزنٍ، يعيشون في عذاب صنعوه بأيديهم، ولو أنهم وقفوا على حال أولئك لأدركوا ما هم في من نعم عظمة، ولطردوا عنهم كيد الشيطان وعمله.
ومثلهم، ذلك الإنسان المنهمك في حياته ودنياه، قد استهلك جل حياته في الدنيا، وانشغل عن أقرب الناس إليه، والدته ووالده، وزوجته أو زوجه، وأطفاله، وأعز الأصحاب إليه، وفي كل لحظة يقول لهم ليس عندي الوقت الكافي، وهو يمني نفسه بالأوهام بأنه سوف يفرغ لهم قريبًا، والدنيا في كل مرة تسحبه من طرفه إلى أعماقها، وهو يغرق فيها دون أن يشعر، ويبتعد عن الشاطئ الذي يقف فيه أهله وأولاده ينتظرونه أن يلتفت إليهم يومًا ما، وربما هذا اليوم لن يأتي أبدًا.
وهذا يُذكرنا بأمر عميق جدًا يجهله معظم النَّاس، ولا يحس به الإنسان إلا في لحظات نادرة وخاطفة في لحظات الخلوة والصفاء والسكينة والانفراد، تلوح له كبارقةِ نورٍ ثم تختفي وتتلاشى. ذلك الأمر هو أن الانهماك في الحياة والعمل ودوامة الانشغال، تدخل الإنسان في غيبوبة “اختيارية-قسرية” لا يشعر بها، تخطف منه أيام حياته وتسرق عمره، وتمضي أجمل لحظاته في الحياة دون أن يشعر بها حقيقة، وتفوته ملامسة أعز علاقاته بالذين كانوا حوله وأقرب الناس إليه، فإذا زاد عليها كون محيطه الذي يعيش فيه، حياته أو عمله، محبطًا لا يتوافق مع تطلعاته وطبيعته، ضاع أجمل ما فيه حياته في الغرق والانغماس في (لحظة نكد)، وهي لحظة لأنها تستغرق شعوره بالوقت وقيمة الزمن، وكأن ساعة الزمن قد تعطلت، فالزمن بالنسبة إلى الإنسان ليس إلا حركة شعوره بنفسه ومن حوله في إطار الزمان الذي يعيش فيه، وفي هذا الانغماس والغرق قد لا يستيقظ من هذه اللحظة المتوقفة إلا في لحظة متأخرة، في لحظة يكتشف فيها أن أجمل ما في حياته قد فات وتصرَّم، وهو كان في تلك الحياة مجرد ترس في آلة ضخمة تدور ببطءٍ وتكرارٍ مملٍ، وتطحن اللحظات والساعات والأيام والعمر، في صمتٍ فقدت فيها الحواس ذائقتها، وتوارى الشعور والإحساس بحياته خلف اللهث المستعر الذي لا يعرف التوقف، وهكذا صُبِغَ وجوده وكافة زوايا حياته باللون الرمادي، وأصبح الإنسان غائبًا عن كل شيءٍ جميل حوله وفيه، غائبٌ عن نفسه وروحه، وعمن حوله، ويركض ويلهث خلف سراب، وفي كل لحظة يقول ها قد وصلت أخيرًا، وهو لا يعلم أنه في كل مرة لا يزداد إلا بعدًا عن نفسه وعمن حوله، وغرقًا في غيبوبته، وفي لحظة اليقظة المتأخرة يندم، لحظة مرضٍ خطير أو احتضار، ولكنه ندمٌ يصنع ندمًا آخر، إذ لا يمكن استرجاع ما ضاع وفات، فالذي مضى كان أغلى الأشياء بالنسبة إلى الإنسان، أغلى من كل كنوز العالم، إنه شيء إذا مضى فلن يعود أبدًا!
ولهذا، يجب أن نُدرك إنَّ معظم الذين يرقدون على تلك الأسرة البيضاء في قلوبهم حسرة على ما فرطوا في علاقاتهم الثمينة تلك، وفي لحظات حياتهم التي ضاعت بعيدًا عنهم، فلم يبق معهم وإلى جوارهم في لحظاتهم الأخيرة إلا أولئك الذين تجاهلوهم طوال حياتهم، ولو أن الأمنيات في تلك اللحظات تتحقق، لما فارقوهم لحظة واحدة، ولاحتضنوهم بقوة، ولم يرغبوا قط في الابتعاد عنهم. وإن الآباء أو الأمهات الذين انشغلوا عن أطفالهم، فمرت الأيام على طفولتهم، وفاتهم أجمل ما فيهم من حب وبراءة ولعب وذكريات، أصبحوا يخفون دموعهم وهم ينظروا إلى أبنائهم وبناتهم في سن المراهقة أو الشباب وهم يقفون حول سريرهم الأبيض ينظرون إليهم ولا يقدرون على النطق بكلمة، ويجهدون في حبس دموعهم وإعلان ندمهم في أنهم حُرِموا وحَرَموا أطفالهم وجودهم في تلك اللحظات العزيزة، لكنها مشاعر ندم أتت متأخرة، ولربما بعض المراهقين سيغادر والده أو والدته الحياة، وليس في خياله ذكريات حميمة كثيرة تربطه بهمها أو بأحدهما!
إنَّ ذلك المبنى الذي يكتم الأنين داخله، يعلم الإنسان أنه ضعيف جدًا وفي غاية الهشاشة، وأن الحياة قصيرة جدًا، وأن الأمنيات كثيرة، والأحلام عريضة، والواقع ضئيل جدًا لا يتسع لها كلها، وأنَّ العاقل هو الذي يستثمر حياته في الخير، وينتصر على نفسه وعلى انشغالات الدنيا بقربه من علاقاته الواجبة عليه شرعًا وأدبًا، ليقضي معهم أجمل الأوقات وأسعد اللحظات، ويستمتعوا معًا باجتماعهم وقربهم وألفهم ومحبتهم، والسعيد المحظوظ هو الذي يعلم في صحته وعافيته وقوته، وفي مرضه وعلته وضعفه، أنه لو مات في أي لحظة، فإنه سيقبل على رب يحبه ويرضى عنه، وأنَّ دارًا أعظم من داره ستكون في انتظار، وأنَّ رحيله عن الدنيا بموته ليس إلا مرورًا عابرًا بعالم الأموات، إلى جنة عرضها كعرض السموات، وما متاع الحياة الدنيا إلا قليل، وما الحياة الدنيا إلا غرور.