- هلال الأشول
- ترجمة: زياد الحازمي
- مراجعة: مصطفى هندي
- تحرير: مريم سالم
“الحمدلله إنه يوم الجمعة”، هذا ما قلته لعائلتي بعد أسبوع طويل ومرهق، لكن لم تمض بضع دقائق حتى تذكرتُ أنني وعدت محررًا بأن أرسل له مراجعتي (المتأخرة أصلاً) بحلول يوم الجمعة.
و ما إنْ فتحت جهاز الحاسوب حتى أدركت أن الأسبوع القادم سيكون أكثر ضغطًا، حيث تضم قائمة المهام إلى جانب تدريس المحاضرات كل هذه الواجبات: اجتماعات اللجنة لاختيار أعضاء هيئة التدريس ومرشحي برنامج الدكتوراه، وإعداد تقريرين عن منحة وعرضين تقديميين، بالإضافة إلى عرض تقديمي لأعضاء هيئة التدريس في معهدي، ويوم كامل من الاجتماعات مع فريقي و رحلة تستغرق يومين لمدينة أوسلو للقاء المتعاونين وحضور حدث افتتاح مجمع أبحاث جديد، وكل ذلك يتطلب وقتاً طويلاً للتحضير له.
عندما أدركت أنه من المستحيل التخطيط لإكمال جميع تلك المهام خلال أسبوع، قمت بعمل قائمة لتصنيف المهام من حيث الأولوية والأهمية لإلغاء ما يمكن إلغاؤه. التخلي عن مشاركتي في اللجان أو اجتماع المعهد سيخيب أمل زملائي ويؤثر على مصداقيتي، عدم تقديم تقارير المنح والعرض التقديمي للممولين له مخاطر محتملة أيضاً، و مهما كنت مرهقاً و مضغوطاً و منهكًا وخائر القوى فإن إلغاء تدريسي للمحاضرات ليس خياراً مطروحاً البتة، لذلك أبلغت زوجتي وأطفالي أنني لن أكون قادراً على مشاركتهم أي نشاط في عطلة نهاية الأسبوع القادمة، فقد كنا عادة نذهب للبلدة معاً لتناول الغداء، ولربما شاهدنا أفلامًا في السينما أو على الأقل نكتفي بقضاء الوقت معاً.
كنت في مكتبي طوال عطلة نهاية الأسبوع أعمل على العروض التقديمية وأراجع أكثر من سبعين طلبِ تقديمٍ لأعضاء هيئة التدريس وبرنامج الدكتوراه، أرسلت ترشيحاتي بعد منتصف ليلة الأحد متسائلاً إن كنت الوحيد الذي عمل حتى ذلك الوقت المتأخر، لكني تلقيت ردًا في غضون دقائق من زميل يذكرني أنني نسيت مراجعة اثنين من المتقدمين.
وسط زحام المهام
تمكنت من إنهاء كل شيء يجب تسليمه يوم الإثنين، لكن العديد من المهام ظلت غير مُنجزة، ألغيت اجتماعات فريقي وأوصدت باب مكتبي وناشدتهم ألا يزعجوني لمدة يومين.
وجاء مساء الثلاثاء حيث سافرت مع اثنين من أعضاء فريقي البحثي إلى أوسلو، لنمضي الأربعاء بأكمله في حضور العروض التقديمية التي قدمها 15 من أعضاء الجمعية، وأثناء التخطيط للأنشطة المشتركة استغللت فترة الراحة الوحيدة لأتدارك نفسي بالرد على رسائل البريد المهمة قبل مغادرة الفندق لتناول العشاء مع الزملاء.
في النهاية تمكنت من تقديم كل ما يجب علي في ميعاده، كنت مرتاحًا وسعيدًا في بادئ الأمر لأنني ظننت أنني راوغتُ كل تلك المصاعب بدون أن أخطئ أو أنسى شيئًا، ولكنني سرعان ما أدركت أن هناك شيئاً ما قد سقط من ذاكرتي بالفعل دون أن أشعر، فأنا لم أقضِ وقتاً مع عائلتي، ونسيت تناول دوائي في الوقت المحدد ثلاث مرات على الأقل ولم أنم إلا خمس أو ست ساعات كل ليلة، كذلك لم تتسنى لي الفرصة للقاء معظم أعضاء مجموعتي طوال الأسبوع، ولا لإعطاء طلابي الملاحظات التي أقدمها لهم عادةً قبل العروض التقديمية، طوال هذه الفترة ومهما حاولت عزل نفسي لكيلا أنقل الضغط والتوتر إلى الآخرين، كان قلقي بيّناً على وجهي وفي خطواتي العجولة لمكتبي أوحاسوبي.
الأسبوع الذي بدأ بنضال كبير في سبيل إدارة وقتي وإنجاز أجندة المهام المزدحمة، انتهى بالإرهاق و الأسف، وانتابني شعورٌ بالذنبِ وعدم الرضا عن مقدرتي على الموازنة بين الحياة والعمل أو إتمام المهام بمستوى الجودة الذي أرجوه، و بالرغم من أن هذا الكم الهائل من المسؤوليات لا يداهمني أسبوعياً إلا أنه ما يزال ممكن الحدوث في حياة العديد من أعضاء هيئة التدريس.
ضبابية الرؤية
يبدو العلماء متحمسين لعملنا، ويبالغون في تقدير الرضا الذي نحصل عليه من بعض جوانب وظائفنا: من نشر نتائجنا وتميزنا عن أقراننا وحصد المراكز من خلال التقييمات. ليس من المستغرب أن يعمل الكثير منا لساعات طويلة وفي عطلات نهاية الأسبوع أو الإجازات، وغالبًا ما ننسى ونستهين بخطورة إرهاق أنفسنا والإنشغال المستمرّ وتجاهل صحتنا الذهنية وانعكاس ذلك على طلابنا، و زملائنا، وعائلاتنا وعلاقاتنا الشخصية. إن ضبابية الرؤية حول ما يُتَوقع من أعضاء هيئة التدريس ومتطلبات الترقية والتقدّم الوظيفي يزيدُ من تفاقم الوضع، وهذا غالبًا ما يثير التوتر والقلق ويؤدي إلى السعي غير الواقعي للامتياز والفاعلية مما يعود بالسلب على أعضاء هيئة التدريس، والطلاب، والأبحاث والجامعات.
يبدو من البدهي أن يكون الطلاب والباحثون الشباب مركز اهتمام الجامعات، ولكن ما يغيب عن رؤوساء الجامعات أن نجاح أولئك الطلاب وصحتهم العقلية وتفوقهم الدراسي يعتمد مباشرة على نجاح وصحة معلميهم و مستشاريهم و موجهيهم.
لا يدرك هؤلاء القادة أن حياة أعضاء هيئة التدريس المزدحمة والمرهِقة والمثقلة بالمهام تعيقُ قدرتهم على تأدية مهامهم الجامعية كما ينبغي، كما أنهم لا يتصورون إمكانية حدوث أزمات صحية وعقلية بينهم، و يرجع هذا لندرة البيانات حول انتشار الإجهاد والقلق ومشاكل الصحة العقلية بين الأساتذة، فغالبًا ما يُنظر إلى الجامعات على أنها أكثر اهتمامًا بنتائج البحث وقصص النجاح لأعضاء هيئة التدريس أكثر من اهتمامها بقصصهم الشخصية أو صحتهم العقلية. وأنا -وقد كنت أستاذًا منذ 15 عامًا- لم أشهد مناقشة هذا الموضوع قط في المؤتمرات العلمية أو في اجتماعات الكلية أو الفعاليات، ومن النادر جدًا أن تجري الجامعات استطلاعات لتقييم مدى رضا أعضاء هيئة التدريس، ومتابعة صحتهم العقلية. يبدو الأمر كما لو أن التعامل مع التوتر والقلق، و القدرة على تحمل التحديات الصحية العقلية بمفردك ليس فقط جزءًا من طبيعة المنصب، بل وأيضًا أحد المعايير الرئيسية لتحديد مدى صلاحيتك للعمل في الأوساط الأكاديمية.
نقاشٌ مفتوح
عندما يتعلق الأمر بإرهاق أعضاء هيئة التدريس وصحتهم العقلية، فإن معظم الجامعات تقضي بتفويض هذه القضايا إلى أقسام الموارد البشرية والتي تقدم بدورها ورش عمل كثيرة عبر الإنترنت تساعد أعضاء هيئة التدريس على تحسين مهاراتهم في إدارة المشاريع والفرق وضغوطات العمل وغيرها. لا شك أنها خطوة أولية مهمة لكنها ليست بديلاً عن التواصل المباشر والنقاشات المفتوحة على مستوى المجتمع حول الإجهاد المرتبط بالعمل والصحة العقلية.
يجب على مديري الجامعات على جميع المستويات التريّث والتفكير في كلفة استمرار الأعمال كما هي وتأثير سياساتهم وأفعالهم وأسلوب قيادتهم على موظفيهم. عند إسناد المهام والمسؤوليات الجديدة يجب على الإدارة تخصيص وقتٍ للتحدث إلى موظفيها، والالتفات باهتمام ليس فقط لأولوياتهم ومسؤولياتهم والتزاماتهم الحالية، بل و لظروفهم الشخصية و صحتهم. هذه المحادثات سوف تقطع شوطاً كبيراً نحو تقليل الضغط على أعضاء هيئة التدريس، وسوف تلفت النظر إلى أن صحتهم لا تقل أهمية عن نجاحهم.
يسعدني أن أشير إلى أن الوضع بدأ يتغير للأفضل، في جامعتي وخارجها على حد سواء. فكبار المديرين في مؤسستي متفاعلون بإيجابية وتوّاقون للحديث حول الصحة النفسية والسعادة، وهذا يبدو لي انعكاسًا لتوجّهٍ أكبر في الأوساط الأكاديمية يتسم بالتفطّن للقضايا التي يواجهها الكثير منا. آمل أن يستمر، هذا والأهم من ذلك أن يترجم إلى تغيّرات في السياسات والممارسات والمواقف التي تعزز ثقافةً صحيةً وبيئةَ عملٍ داعمةً يمكننا جميعًا من خلالها التعلّم والتعليم والابتكار والازدهار دون المساس براحتنا.
في نهاية المطاف إنه لمن مسؤوليتنا كأعضاء لهيئة التدريس أن نكون سبّاقين في سعينا لتحقيق التوازن بين العمل والحياة، وطلب المساعدة عند الحاجة ودعم بعضنا البعض، و يجب أن نعمل معًا لدعم التغيير مبتدئين بالدعوة إلى بذل جهود منظمة لفهم كيفية مساهمة بيئة العمل وثقافته الحالية، ومبادئ نظامه، في التوتر وأزمة الصحة العقلية في الأوساط الأكاديمية.
إن العجز عن استيعاب العلاقة المترابطة بين تفوق الطلاب وصحة أعضاء هيئة التدريس والموظفين والقادة في الجامعة لا ينسف كل الجهود المبذولة لرفع وصمة العار ومعالجة أزمة الصحة العقلية الأكاديمية فحسب، بل يهدم الهدف الأسمى لجامعاتنا أيضاً.
اقرأ ايضاً: كيف يمكن للأكاديميين أن يحسّنوا حياتهم
بطل الله يوفقك استمر ?.