- مشاعل حلفان آل عايش
- تحرير: غادة الزويد
الأصل في هذا العنوان هو كتاب للمؤلف الألماني المسلم مراد هوفمان والذي وصف هوفمان فيه “أن أزمة القيم الغربية تحظى حاليا بالقلق داخل بقية العالم؛ لأنّ الثقافة في وقتنا الحالي ليست ثقافة مكان بعينه، بل هي ثقافة وقت بعينه” والجديد في كتاب هوفمان أنه ينقد الخبرة المعرفية والفلسفية الغربية الحديثة في شتى العلوم والمجالات الحيوية من خلال فكره الإسلامي الذي يصدر عن فهم يصل إلى قاع النظرية المعرفية الإسلامية التي تقوم على الاعتراف بمصادر المعرفة وحدود كل منها: الوحي و العقل والحس، أو الموائمة بين العقل المؤيد والعقل المسدد – على حد تعبير الإمام محمد عبده رحمه الله– ولكن لوقوع عنوان هذا الكتاب ظاهرة إنسانية في المجتمعات الغربية أو الشرقية كان ذلك هو الباعث على هذه المقالة، فالعقل الغربي يعاني من استعمار مادي، أودت به الحمى الاستهلاكية في المنظومة الفردية، حتى جعلت منه فردًا يعاني صراعاته بمفرده وينهي مصيره بمفرده ويكتب تاريخه بمفرده وفقًا لما قال فاسلاف هافيل :”أول حضارة ملحدة في التاريخ.”
هذه الظاهرة الاستعمارية للعقل ليست حكراً على العقل الغربي، ولكنها عابرة للمحيطات إلى غيرها من الشعوب، ومنها الشعوب الإسلامية فأصبحنا نرى من أبناء وبنات جلدتنا من يحمل هويتنا الإسلامية تعريفا ظاهرًا له، ولكن عند رؤيته وملاحظة سلوكه وملبسه ومبدأه نراه نمطاً غربيًا في فكره وتوجهه. والأسباب المؤدية إلى هذا الاستعمار العقلي هي أسباب متنوعة ومتعددة لعل أبن خلدون قد اختصرها في مقدمته بقوله “إعجاب الغالب بالمغلوب” وهذه الأسباب تقسم بعد ذلك لأسباب اقتصادية وعلمية وفكرية…. إلى آخره.
والاستعمار العقلي هو من أشد أنواع الاستعمار واعتاها وأنجعها أثرًا لسياسة المستعمر، لأن الاستعمار العسكري يرحل برحيل آخر جندي مستعمر، أما الاستعمار العقلي فهو موروث فكري يغير النمطية الفكرية للشعوب، ويزرع فيها التبعية فتصبح أداة سهلة في يد كل من أراد التأثير فيها، وهذا البعد الاستعماري العقلي هو ما بدأت تتفطن له القوى العالمية في بسط تأثيرها على الشعوب وفرض هيمنتها عليها كما يصفها محمد حسنين هيكل في كتابه “حرب من نوع جديد” -وبما أنها تستهدف العقل والوعي و تدفع إلى الهزيمة الفكرية والنفسية- فسلب الهوية الحضارية للفرد، يكون ممهدا لسلب هوية عددا من الأفراد بعده الذين يمتد حراكهم الاجتماعي بعد ذلك في المجتمع سلبًا وليس إيجابًا ولذلك يرى الفضل شلق في مقالة له – في مجلة الاجتهاد – أن الهوية الحضارية ليست دورانًا حول الذات، وإنما عملية دؤوبة نحو تحقيق الذات من خلال النمو والتنمية، وعندها ستصبح الهوية الحضارية منجزاً وليس عائقًا.
الاستعمار العقلي يؤخر عملية التنمية للشعوب، لافتتانها بتقليد المتبوع وانتهاج منهجه. بينما يكون ذلك المنهج غير ملائما لطبيعة المقلد، أو متوافقا مع موروثه الفكري والثقافي مما يؤدي ذلك إلى مزيدا من الصراع المجتمعي الذي كان بالإمكان تلافيه وهذه القوة الناعمة المرتبطة بالنموذج الثقافي الاستهلاكي الأمريكي الذي تسعى الولايات المتحدة إلى تعميمه على العالم.
والفكر الغربي الذي يختزل الحياة في بعدها الفيزيقي المادي المحسوس وكان الأولى الأخذ بما هو مناسب ومفيد للحياة ومعينا على تسهيلها ومطورًا لها مع قولبة هذا الأخذ وفق المنظومة الفكرية للشعوب فتحصل الفائدة وينتفي الضرر.
كانت المشكلة في الغرب هي أن الدين الذي خرج من الباب الأمامي في المجتمعات الغربية عاد من الباب الخلفي من خلال الإقبال الشديد للشباب ولفئات من المجتمع على أديان جديدة وغريبة؛ كجماعات العهد الجديد التي تتعبد داخل الأهرامات، والانبعاثيون الذين يعيدون عبادة إخناتون للشمس، وبالتساوي في مكان الصدارة إلى الآن أديان عبادة القمر والعلمانية والتنجيم والملائكة والشيطان.
هذه الموجة الجديدة من التدين تستمد قوتها من الحنين إلى التوحد العضوي، والبحث عن المعنى، الغائبين بشدة في الحياة المعاصرة. وذلك أن المادية الغربية أرهقت النفس الغربية وسلبتها حظوظها من الراحة والطمأنينة، فبدأت هذه النفس المتعطشة لليقين والحق تبحث عن شيء تسكن به لوعتها، وتكفكف به دمعها، وتسد به خواءها الروحي، فرأت ذلك متوافرًا في الحضارة الإسلامية المتاخمة لها على حدودها الشرقية، ولكن نتيجة الأبعاد التاريخية للحرب العقدية بين الإسلام والغرب ولعلمها بمرتكزات الحضارة الإسلامية من التخلص من الوثنية بكل صورها وتطبيقاتها ليكون التوحيد الخالص هو المطلب الاسمي، انصرفت المطالب الغربية إلى حضارة تكون أكثر موائمة لميراثها الوثني فوجدت ذلك في الفلسفات الشرقية (الهندية والكنفوشيوسية، والطاوية.. إلى آخره) لخلطها الوثنية بالروحية، فتشبع الغرب هذه الروحانية المضللة ليعيش استعمارًا روحيًا وثنيًا شرقيًا فقد حاول الهروب من المقصلة المادية الفردية، فوقع في الروحانية الوثنية فهو يهيم من شقاء في شقاء.
لذلك نجد أن الاستعمار الفكري يحد من إبداعية العقل وإنتاجيته لتقييده بنمطية فكرية لا يمكنه الخروج عليها أو تصحيحها ولذلك جاء الإسلام محررًا من هذه النمطية قال تعالى (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) سورة الأنعام162، هذه الأدمغة المستعمرة لم تتوقف فتنتها الاستعمارية في السلوك الفردي الخاص، ولكنهم يسعون إلى تعميمه في الفضاء العام في زعزعة دور الأسرة وفي إضعاف دور القدوة وفي تشتيت مصادر المعرفة العلمية وجعلها بحث فردي غير موجه وغير مضمون النتائج في خلط القيم والأخلاق بالتطور المادي، وجعلها تابعة له لا تابعًا لها وتبديل الأدوار بين الذكر والأنثى في الواجبات والحقوق أو تضييعها كل ذلك يكون له أثاره على الفرد وعلى من قلده في ذلك، فالإسلام لا يمانع الأخذ بأسباب التطور والتقدم الإنساني ولكنه يضبط ذلك بمقياس الشرع؛ حفاظًا على أمن وإيمان المجتمعات الإسلامية. لذلك كان لزامًا على كل فرد مسلم الأخذ بأسباب الحياة الطيبة وتوظيف ذلك في خدمة دينه ووطنه ومليكه، وتحويل ذلك إلى إسهامًا حضاريًا يرقى بمجتمعه ويحفظ به مقدراته الدينية والفكرية والوطنية، وذلك منعًا لأي ثغرة قد يختل بها أمن وإيمان وطنه فنرى أدمغة عامرة لا مستعمرة تحمل الخير لوطننا هذا خاصة وللبشرية جمعاء.
بارك الله فيكم مقال رائع