رمضان شهر فرحة وعطاء، يُقبل بخيراته فيُضيء وميضُ شعاعه ظلامَ الواقع اللجيَّ، وتسيل فيه نفوس المؤمنين سخاءً رخاءً، فتعيا أيدهم بحِمْل صدقاتهم وصِلاتهم وهم يطيرون بها أشتاتًا خِفاف الأنفس كالفراشات إلى بيوت الفقراء، مقتدين في ذلك بنبيّهم محمد صلى الله عليه وسلم، والذي كان في رمضان أجود من وَبْل السحاب المتراكم، ومن عتاق الخيل المرسلة، فلا يُطيفون حول بيوت الفقراء إلا خِفية مستترين كالأشباح فلا يراهم أحدٌ.
فلا يدري الفقير من أين هبطت عليه هذه المغانم الثريّة، أهي هبة السماء إليه تبشرّه بقدوم رمضان واستهلال هلاله؟ أم هي تعويض لبعض أيام الحرمان وشقائه؟ فتتقد في نفوس أولئك الطاوين من العدم مصابيح السعادة، وتذوي فيهم مرارات الأمل وخيبات الحياة.
ثم يمتد عقد البهجة فيتصل إلى منازل الناس، فتغدو غُرُفات بيوتهم في رمضان قبلةً للقاصدين الذين يبثّون فيها الروح ويُحيون مواتها، منتدين إليها من أقاصي الأحياء وآفاقها، ليشهدوا فيها موائد الإفطار المريئة، ويغشاهم الأنس البهيج، وترى الصبية الصغار في أنحاء بيوت الآباء والأجداد كأنهم جراد منتشر، فيتجدّد بذلك معنى صلة الأرحام وزيارة الأقارب ووصل الإخوان، وكأنَّ رمضان شهر يُعاد فيه إحياء فعل الخير كلِّه بحذافيره.
ولا يتوقف ينبوع العطاء الثرِّ عند هذا الحد، بل إنه يتمادى حتى يعمَّ سيله ساحات المساجد وأفنية الجوامع وجوادَّ الطرقات الفسيحة، فتقام عليها موائد الإفطار التي يغشاه الفقراء المحتاجون، وترى الناس يتنافسون في تغذية هذه الموائد بما تجود به عطاءاتهم من الخير قلَّ أو كثر، فلا يبقى بيت إلا وضرب أهله بسهم وافر في تفطير الصائمين في المساجد، حتى غدت هذه المناظر من أمارات الشهر الفضيل، ومظاهر حياته المهمة، فهي رمضان ورمضان هي.
كما يستقبل المسلمون رمضان ولبيوتهم دوي كدوي النحل، وفي أصواتهم بحّة الشوق وعليها خنين الحزن من عبرات تلاوة القرآن، فلا ترى الشيخ إلا ناشرًا مصحفه، عاكفًا عليه، يهتزُّ من وجده بكتاب ربه اهتزاز الورقة اليابسة إذ طاف بها نسيم الصبا، وقد أوصد على نفسه أبواب الدنيا وقعد عن مساعيها، إلا روزنةً من نورٍ فتحها لتُفضي بقلبه إلى ذكر الله وشكره وحسن عبادته.
ويتبارى الرجال كهولة وفتيانًا في حثِّ خطاهم إلى بيوت الله، فتمتلئ رياض المساجد بعمّارها وقوّامها، وتتفتّق أزهار ربيعها بالعاكفين على المصاحف يتلون آيات القرآن المجيد.
بذا جرت عادة المسلمين في شهر رمضان المبارك، أنّهم يُلملمون رَهق ما مضى من الأوقات، وقد أثقلت أوزار الخطايا ظهورهم حتى أخلدتهم إلى متاهات الوحشة، فيجمعون كل ذلك ثم يُلقون به وبأرواحهم المرهقة إلى مجرى نهر المغفرة الدفّاق في أيام رمضان ولياليه، فينغمسون فيه، ويغتسلون منه، فتزول عنهم سواد الأوضار، فلا يأتي سَرر الشهر إلا ونفوسهم مبيضّة ناصعة قد تخفّفت من أعباء الخطايا، وتضمخّت بعبق الصالحات.
أمّا ليل رمضان، وما أدراكم ما ليله، وهل رمضان إلا بلياليه! تلك الليالي الفسيحة الباقية من ذكرى القرون المواضي، المتوشّحة بفوانيسه المضيئة لدهاليز القلوب، فإليها يُخبِّئ الناس أدعيتهم وأمانيهم من الحَول إلى الحَول، ويتحيّنون قدومها بلهفة تُحاكي اندفاعة الأطفال، كي ترقى أصوات مناجاتهم إلى السماء، عندما يتراكم في طباق الجو أصوات التلاوات النديّة المتجاوبة من محاريب صلاة التراويح، بفنون المقامات المتنوّعة، ويغشى أفئدة الناس ضياء الإيمان، فينتظمون في صفوفٍ رَتِلةٍ ملائكةً أو كالملائكةِ، ركّعًا سجّدًا يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا.
فما إن يأتي الليل ناثرًا نجومه في سماء ظلامه، إلا وترى الناس منبعثين إلى الطرقات، متدافعين في فجاجها، لائذين بالمساجد ذكرانًا وإناثًا، معرضين عن كل أوحال الدنيا وشتاتها، مقبلين بأنفسهم إلى ذخائر الآخرة ونعيمها، كأنَّ الدنيا في أعينهم عرائسُ من شمع، وخيال محض وأوهام لا حقيقة لها، وكأنَّ عرش الرحمن بارز أمامهم يغذوهم بالإيمان الذي لا شكَّ فيه، وأنَّ القيامة قامت، وأنشر الله من في القبور، وصار الغيبُ شهادةً وحقَّ اليقين، فتنخلعُ عندئذٍ قلوبهم هيبة وخشية، وتنحني رقابهم إجلالًا وتوقيرًا، وتشخص أبصارهم خضوعًا ومهابًة، فيعبدون الله كأنهم يرونه تعالى، فيملؤهم بسُبحات الجلال ويفيض عليهم من بركات الرضا ويباهي بهم ملائكته الكرام.
ثم يغتنم المصلّون إقبال الله عليهم واحتفاءه بهم، وقد ضاقت عليهم أنفسهم من تشعّث أحوالهم، فيمدّون أيدهم إلى السماء وهم موقنون من استجابة الله لهم، فتنتثر من كنانتهم بين يديه حوائج الدنيا ومآرب الآخرة، وهموم الأيام وكدر السنين، فيشتكون إليه خيبات الأمل من الأقربين والأبعدين، ويبوؤون له بانكساراتهم في دروب الهوى والخطيئة، وعثرات الخطى في بيداء المعاصي، ويبثّونه النجوى في حياء وخجل بصوت أخفى من دبيب النمل، ويبلّون ثرى أدعيتهم بقُطار الدمع السخين، فإذا للقلوب وجيب، وللأجساد انتفاضة، وللأرواح نشيج، فيتجاوب المسجد بصوت واحد ملؤه الخوف والرجاء.
ثم ينتشر أولئك الأمم من المؤمنين عقب صلاة التراويح بروح أخرى غير تلك التي دخلوا بها، مغتبطين بمقة الله التي ألقاها عليهم، فكأنّما خُلقوا خلقًا آخر من جديد، متسامين به عن عنصر الرغام الطينيِّ، متدثرين بعنصر الروح النوراني، وقد جدّدَ القرآن ما تخرّق من قلوبهم، وأصلح ما فسد من أحوالهم، وحثا على وجوههم بريق الإيمان، ونفث في أرواحهم تمائم السكينة، فتثقل أرواحهم من معاني حقائق القرآن وعظاته، فيمشون في الطرقات بسيماء البشر في أرواح الملائكة، بأوجه وضّاءة كأنَّ شموس الضحى أفرغت فيها، فما يعبؤون لشيء من الدنيا وزخرف حطامها، وإذا سألت أحدهم عمّا يجده في نفسه من شعور الإيمان والرضا، لأجاب من فوره بلسان منطلق مبين: رَوح وريحان وجنة نعيم.
أما معراج الأرواح الأتمُّ ففي ليلة القدر، واهًا لها ثم واهًا من ليلة! عندما تملؤها الملائكة في مواكب من نورٍ يتقدّمهم سيّدهم جبريل عليه السلام، فيأخذون بمخنق الشمس فتُشرق على الدنيا ذاوية ذابلة ليس فيها من اسم النور إلا مبناه دون معناه، وأمّا شياطين الإنس والجنِّ فيرفضّون صاغرين عن جوانب هذه المأدبة العظيمة، فإنّها محرمة عليهم فيتيهون في سُدُف الظلام الموحشة.
فما خلق الله ليلةً أُريقت فيها العبرات ونزفت فيها المآقي كليلة القدر، وانظر إلى المسلمين الذين عبثت بهم الآراء وشتّتهم المذاهب وفرّقتهم المواقف، فصاروا أباديد تائهين، غير أنّهم إذا أطلّت عليهم ليلة القدر وحّدهم انفعال مشترك، فاتفقوا على تعظيمه وانتظموا قائمين في صفوفه، هناك في ذرى جبال الهندكوش، وعلى ضفاف نهر السند، وفوق تخوم صحراء سيبريا، وفي بيداء الطوارق المتلثمة، وبين رمال شطآن المحيط الهندي، وفي أقصى غابات جنوب شرق آسيا المطيرة، وأدغال أفريقيا الموحشة، وفي جزيرة العرب مهد الإسلام، وعلى جُدَّة النيل من أرض الكنانة أرحام النبي صلى الله عليه وسلم، وبأنحاء بلاد الشام منزل عيسى عليه السلام، وحول مواطئ الحكمة في مهابط الجنس العربي في اليمن، مذ أن بُعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وخلقًا بين ذلك كثيرًا كثيرًا، ترى كلَّ أولئك غرقى في دموعهم، يجأرون إلى الله بالدعاء ومناجاته في مواقف القيام ليلة القدر.
ثم في فجاءة من الأمر جفت تلك الروضة الغناء وغاض ماؤها، وتبدل رمضان غير الذي نعرفه، فلا موائده تنداح في جنبات المدن، ولا أصوات أئمته تضرى في حوالك لياليه، بعد أن دهتنا داهية كورونا، فحُبس الناس في بيوتهم وصدرت قرارات المسؤولين معتضدة بفتاوي كبار العلماء بتعليق اللقاءات العامة وإرجاء الاجتماعات بكافة أشكالها، الديني منها والوظيفي والاجتماعي، حرصًا على سلامة الناس، ومراعاة للمصلحة العامة.
على أنَّ أمر المؤمن كله خير أو إلى خير، وأمثل ما يُتعزّى به في هذه النازلة الوبيلة قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا” رواه البخاري، قال ابن بطال: فلذلك كل مرض، وكل آفة من سفر وغيره يمنع من العمل الصالح المعتاد، فإن الله قد تفضل بإجراء أجره على من مُنع ذلك العمل.
اللهم إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنَّ تباريح الشوق إلى تراويح رمضان لتكاد تبطش بأرواحنا، وتفتك بصبرنا، غير أنّا لا نقول إلا ما يرضي ربنا سبحانه وتعالى، فأزل اللهم عن بلادنا وبلاد المسلمين الغمّة، واكشف عنّا الكرب، وأذق قلوبنا برد الصلاة جماعة مع المسلمين قريبًا عاجلًا.