- آنا مينتون
- ترجمة: د. أحمد صالح المحيميد
- تحرير: شيماء النجيدي
- اسم الكتاب: حوار مع ابنتي عن الاقتصاد، تاريخ موجز للرأسماليَّة
- المؤلف: يانيس فاروفاكيس -وزير المالية اليوناني السابق-
- الناشر: بودلي هيد Bodley Head
- سنة النشر: 2018
- عدد الصفحات: 224
يذهب هذا الكتاب -الذي يَعرض تاريخًا موجزًا للرأسماليَّة- إلى أنَّ الاقتصاد سياسيٌّ بطبعه، ويجب طرحه بمصطلحات يُمكن للجميع فَهمُها.
لا يكتب الكثير من المؤلفين كتابًا في تسعة أيام، والقليل منهم يذكر ذلك في تمهيد الكتاب إلا أنَّ يانيس فاروفاكيس لا يتردد بالقيام بذلك في كتابه حول التاريخ المختصر للرأسمالية، والذي تَمحوَر حول طريقته في التحدث إلى ابنته (زينيا) التي لم تصل لمرحلة المراهقة إلا منذ وقت قصير.
نُشر الكتاب لأول مرة قبل سنوات، عندما كانت زينيا في سن صغيرة، وأُضيفت إليه بعض الأجزاء للقراء البريطانيين بعد أسبوع آخر من نشر الكتاب.
من خلال الانفتاح على عمليَّة الكتابة في الكِتاب، يدير الباحث والسياسي توقعات قُرَّائه، ووَعَد بشرح الاقتصاد بلغة يمكن للجميع فهمها بدلاً من لغة العلوم الزائفة المليئة بالمصطلحات في علم الاقتصاد السائد.
يعتقد المؤلف -بشكل قاطع- أنَّ ضمان امتلاك كلِّ مُواطِن اللغة الأساسية والفَهم الَّلازم للتَّحدث عن الاقتصاد هي الحالة التي تفترضُها مُسبقًا الديمقراطيَّة الحقيقية، وليس هناك شك في أنَّ هناك حاجة ماسَّة إلى لغة جديدة للاقتصاد.
لكن كتابة مثل هذا الكتاب التمهيدي ليست بالمَهمَّة السهلة؛ نظرًا لأن الخبراء غالبًا ما يجدون أنه من الأسهل الاختباء وراء لغة مُبهمة بدلاً من شرح المفاهيم المعقَّدة بمصطلحاتٍ بسيطة، لذلك يفترضُ الكثير من أنَّ الخطاب المعاصر في الاقتصاد يعمل خارج السياسة، ومن الأفضل تركه للاقتصاديِّين المحترفين وعلماء الرياضيات.
يريد فاروفاكيس كسر هذا الحاجز، فهو يُجادل منذ البداية بأننا إذا خضعنا للخبراء في الاقتصاد فإننا نُخوِّلهم سلطة اتخاذ جميع قراراتنا السياسية الأكثر أهمية.
لقد قرر استخدام مصطلح كارل بولاني (مجتمع السوق) طوال الوقت، لذلك -على الرَّغم من أنَّه يصف تاريخَ الرأسمالية– إلا أنه استغنى عن المصطلح الفعلي، مُعتقدًا أنه يترافق مع الكثير من الأفكار الأيديولوجية، ويُفضل مصطلح (مجتمع السوق) على مصطلح (اقتصاد السوق) المحمّل بنفس المعنى -كما في العبارة الشهيرة لمارجريت تاتشر: «لا يوجد بديل لاقتصاد السوق»- ومن هنا فإن فاروفاكيس مُصمِّمٌ على إظهار أنَّ السياسة يُمكنها دائمًا إنتاج اقتصاديات بديلة.
يذكر المؤلف من أين أتت فكرة المال (النقد) بنفس المصطلحات البسيطة التي وعد بها، فيقول: لقد اختُرِع المال لتسجيل الديون، مما يعني أنَّ المال والديون قد سارا معًا منذ العصور القديمة، والنصوص الأولى التي لدينا هي سِجلَّات محاسبية لإظهار مقدار الإنتاج الفائض، مثل الحبوب وعمال المزارع المستحقة، لكن التحول من المجتمع الإقطاعي إلى مجتمع السوق هو الذي حول الدَّين إلى العامل الأساسي، فلا يمكن أن يكون هناك ربح بدون ديون؛ لأنَّ الشركات تضطر إلى الاقتراض للنُّمو. أدى توسُّع الديون أيضًا إلى عدم الاستقرار وأدى إلى حدوث الانهيارات، لكن الدَّين -وليس الفحم- (كان الوقود الحقيقي الذي دفع محرك الثورة الصناعية.)
قدم فاروفاكيس مقارنةً حية بين وفرة النقود (المعروض النقدي) وسوق السجائر في معسكر أسرى الحرب الألمانيّ لشرح التضخم والانكماش وأسعار الفائدة، بحيث يفهمها أيُّ مراهق أو بالغ، ففي المعسكر تلقى السُّجناء مَعونات من الصَّليب الأحمر تضمنت طعامًا وسجائر وشاي وقهوة، وبمرور الوقت -كما هو الحال في السجون في جميع أنحاء العالم- أصبحت السجائر هي العملة التي يتم من خلالها تداول السلع الأخرى.
بين الحين والآخر، كان الصَّليب الأحمر يضخ إلى السجن المزيد من السجائر، مما يعني أنه سيزيد تدويرها في المخيم، لذلك ستصبح قيمتها أقل، وبهذا ستكون هناك حاجة إلى المزيد من السجائر لشراء نفس الكميَّة من البضائع، وهذا هو التضخم، لكن على العكس من ذلك، فبعد غارة قصف عنيفة، انخفضت الأسعار -وهو ما يعرف بالانكماش- حيث استُهلِكت العديد من السجائر التي كان عددها قليلًا بالأساس وكانت قيمتها أعلى، ونظرًا لأن السجائر مُعمِّرة -مثل الأصداف والمعادن الثمينة التي استُخدمت قديمًا عُمْلات- فيمكن توفيرها باستمرار، وهنا في الوقت المناسب ظهر (المَصرفيُّون) في المخيَّم، أي هؤلاء الذين يُقرِضُون السجائر بفائدة، مما يضمن أنَّ المقترضين سيدفعون أكثر ممَّا أخذوه، وفي أوقات التَّضخم -عندما كانت قيمة العملة غير ثابتة- ترتفع أسعار الفائدة، والعكس صحيح.
جزءٌ أساسيٌّ من هذا التشبيه يكمن في أنَّ الصليب الأحمر عندما وزَّع السجائر -التي توازي المعروض النقدي- كان قادرًا على لعب دورِ بنكٍ مركزيٍّ مستقلٍ حقًا، لكن في حين أنَّ البنوك المركزية لمعظم الاقتصادات المتقدمة في العالم مستقلة (رسميًا) يعتقد فاروفاكيس أنه لا يمكن لمثل هذه المؤسسات القويَّة، والمسؤولة عن السياسة النقدية أنْ تتصرَّف بمعزل عن السياسة، وبدلاً من أن يكون هناك بنك مركزيٌّ مُحايد مثل الصليب الأحمر، فإنَّ النتيجة هي أننا في النهاية وصلنا إلى (بنك مركزي تظل قراراته سياسيَّة كما كانت دائمًا، باستثناء أنَّ البرلمان لم يعد يشرف عليها.)
ثمَّ سارَ المؤلِّف بحجته إلى الطرف الآخر من الطيف عارِضًا مقارنةَ تاتشر بين ميزانية الأسرة والاقتصاد، وهي نفسها تتماشى مع افتراض أنَّ علم الاقتصاد هو علم مُحايد ومعزول عن السياسة، وبالنسبة لفاروفاكيس فلطالما كان الاقتصاد سياسيًا؛ لأن من يُسيطر على المال يمتلك السلطة، وتعكسُ آراؤه بشأن الديون تَجرِبته كوزير مالية يوناني عام 2015، وهو يُحاول يائسًا إعادة التفاوض بشأن ديون اليونان، وتقليص برنامج التَّقشف الوحشي، ومما لا يُثير الدَّهشة، أنه يُوجِّه دفَّة نقده اللاذع نحو البنوك؛ فيرى أنه ربما كان من الضروري الحفاظ على هذه المؤسسة، لكن لماذا يُكافَأ المصرفيُّون الذين سهّلوا ضخَّ مبالغ بديون لا يمكن سدادها؟ لماذا لا نُرسلهم إلى بلادهم مُفلسين ليكونوا عبرةً لأيِّ مصرفي آخر تُسوِّل له نفسه أن يحذو حذوهم؟ إنَّ إجابته -التي تعتمد بشكل كبير على الصِّلاتِ والعلاقات الوطيدة بين كبار المصرفيين والحكومات- مدعومة بشكل كبير بعدد من نشؤوا في مؤسسة جولدمان ساكس للخدمات المالية ثم تولوا بعد ذلك مناصب عدة في الحكومات الأمريكية المتعاقبة.
يذهب فاروفاكيس خارج الحدود المرتبطة عادةً بالاقتصاد، بِدءًا من العصور القديمة وحتى فترة ما قبل الحداثة والتصنيع وما بعده، وهو حريص على التركيز على الحاضر تمامًا مثل الماضي، واستحضار المستقبل البائس لعصر ما بعد الإنسان، لكن خطورة هذا العرض الواسع تَكمُن في أنَّ الملخَّصات المبسطة للموضوعات المتنازع عليها -مثل تطويق الأراضي وفقدان المملوكات المُشاعة- تُقلِّل من قوة طرحه في مسائل أخرى؛ ففي حين أن فضحه للأيديولوجيا هو أحد مميزات الكتاب، إلا أن تأكيده على التَّوطين المتعمَّد للسلطة باعتبارها آلية للسيطرة لدى الحكومات -بدءًا من التخلص من الدين المنظم وحتى توطين الدين العلماني الجديد للاقتصاد- يفتقد للحكمة النفسيَّة التي مفادها أنَّ الناسَ في بعض الأحيان يتمسكون بالقوة والسلطة، ويحتكمون إليها طوعًا.
تُظهر السرعة التي كُتب بها هذا الكتاب ما أكَّده فاروفاكيس لِقرَّائه: بداية لغة جديدة، وتدمير للأسطورة تلو الأخرى، فإذا كان بإمكانه فعل ذلك في تسعة أيام، تخيَّل ما يمكنه كتابته في تسعين يومًا! ربما يكون هذا هو النَّص الاقتصادي الذي يبحثُ عنه الجيل الجديد.