- أندرو مكيردي
- ترجمة: هناء بنت عبد الله الغامدي
- تحرير: حمد بن راشد الشعيلي
أعادت وفاة نجمة برنامج “تراس هاوس” هانا كيمورا في مايو الماضي تسليط الضوء على قضية انتحار الشباب، في وقت ازداد فيه القلق بالفعل وسط تفشي الوباء.
إيريكو كوباياشي البالغة من العمر 21 عامًا عندما حاولت الانتحار لأول مرة. تقول كوباياشي ذات الاثنين والأربعين عامًا عن أولى محاولاتها الأربعة للانتحار: “شعرتُ وكأن ثقلاً يُرفع عن كتفي، شعرت أن كل مشاكلي على وشك أن تختفي وأنني سأشعر بالراحة، لقد شعرت بالحرية”.
في ذلك الوقت كانت كوباياشي تعمل في شركة نشر في طوكيو، ووجدت أخيرًا وظيفة بعد بحث طويل ومحبِط من تخرجها من الكلية في اليابان في التسعينيات خلال “عصر الجليد الوظيفي”، وسرعان ما استنفدت قواها ساعاتُ العمل الإضافي غير مدفوعة الأجرة، ناهيك عن أن أجرها كان منخفضًا لدرجة أنها بدأت في سرقة الطعام من محلات السوبر ماركت. فقررت كوباياشي في النهاية تناول جرعة زائدة من الحبوب التي وصفت لها للتعامل مع مشاكل الصحة العقلية، واستيقظت في المستشفى بعد ثلاثة أيام بعد أن وجدها صديقها فاقدة للوعي.
والآن تعمل كوباياشي في منظمة غير ربحية تهتم بقضايا الصحة العقلية، وقد ألفت أيضًا أربعة كتب تتناول جوانب من حياتها بما في ذلك صراعها مع الاكتئاب، وعلاقتها بأسرتها، وعلى الرغم من أنها تستطيع الآن أن تنظر إلى الوراء في محاولاتها للانتحار وتفكر في أن معاناتها كانت لتذهب سدى لو ماتت في ذلك الوقت؛ إلا أنها تعلم أن العديد من الآخرين يعانون مثلها. تقول كوباياشي: “من الصعب طلب المساعدة في الوقت الذي يقرر فيه شخص ما الانتحار، من المحتمل أن يكون قد أصيب بخيبة أمل كبيرة في حياته، ربما تعرض للتخويف في المدرسة ولم يفعل معلمه شيئًا، أو كان الأطفال الآخرون يقفون جانباً ويتفرجون، ربما أراد من والديه التصرف بطريقة معينة لكنهم لم يفعلوا ذلك. عندما تمر بسلسلة من خيبات الأمل وتشعر باليأس، فإن الشعور بأن لا أحد سيساعدك حتى لو طلبت ذلك يزداد قوة”.
خطت اليابان خطوات جادة نحو خفض معدل الانتحار منذ الأيام المظلمة في أواخر التسعينيات، عندما ساعدت عمليات التسريح التي سببتها الأزمة المالية الآسيوية في زيادة عدد حالات الانتحار السنوية إلى أكثر من 30 ألف حالة لأول مرة في عام 1998، وبلغ الرقم ذروته في عام 2003 حيث وصل الى 34427 حالة انتحار، ولكن منذ ذلك الحين أخذ العدد في الانخفاض، حيث ينخفض كل عام منذ عام 2009. في العام الماضي انخفض الرقم حتى وصل الى 20169 حالة انتحار، وهو أدنى مستوى منذ أن بدأت السلطات في حفظ السجلات في عام 1978. وقد نسب الخبراء الفضل في ذلك لتحسن الاقتصاد وإدخال القانون الأساسي لمنع الانتحار عام 2006 ومع ذلك، فإن حقيقة أن اليابان لا تزال لديها أعلى معدل انتحار بين مجموعة الدول السبع – 16 منتحر من بين 100 ألف شخص – يثبت أنه لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به. بالنسبة لآلاف الأشخاص المتأثرين بشكل مباشر، قد يكون من الصعب الهروب من ظل الانتحار.
يقول “يوكي” العامل في مكتب يبلغ من العمر 33 عامًا في محافظة إيباراكي أن زوجته تعاني من الاكتئاب وحاولت الانتحار في أكثر من مناسبة:
“التقيت بزوجتي منذ حوالي 10 سنوات وتزوجنا في نوفمبر 2014. لا يمكنها العمل، ولا حتى القيام بالمهام اليومية، وتفكر بشكل سلبي، وفقدت ثقتها في نفسها، وعندما يزداد الاكتئاب قوة، تقول إنها تريد أن تقتل نفسها”.
هذا ما قاله يوكي الذي طلب أن يُطلق عليه اسم مستعار للخصوصية؛ “في البداية، حاولت جعل الأمور أفضل حتى لو كان ذلك بنسبة قليلة، ولكن هناك حد لما يمكنك القيام به، في بعض الأحيان كنت أحاول مساعدتها مع العلم أن ذلك سيؤثر عليّ حقًا”.
وجد يوكي في النهاية المساعدة من “لايت رنج” وهي منظمة غير ربحية تعلّم الشباب كيفية دعم الأصدقاء أو الشركاء الانتحاريين مع الاهتمام بصحتهم العقلية أيضًا.
من ناحية أخرى، يقول أياكا إيشي مدير “لايت رنج”: أن مشاعر اليأس أو الغضب يمكن أن تنتقل بسهولة إلى الشباب الذين يحاولون المساعدة،والكثير منهم يكافحون من أجل التأقلم. وأعرب قائلا: إنه من المهم للشباب دعم شخص ما لرعاية صحته العقلية وطلب المساعدة من الآخرين والحفاظ على مسافة آمنة، وشدد على أهمية “الاستماع النشط” أي معرفة متى تقدم المشورة أو تعطي تنبيهًا ودودًا. وأقر أيضًا بالصعوبات التي تأتي مع مثل هذا الدور. ويقول إيشي: “هناك أمر واحد الكثير يسأل عنه وهو كيف يجب أن يردوا إذا تلقوا رسالة من الشخص في منتصف الليل؟. التواصل على وسائل التواصل الاجتماعي متكرر وسريع، ويمكن أن يأتي الرد في غضون ثوان، ماذا لو مات الشخص في الوقت الذي لا ترد فيه؟ هذه بعض المشاكل التي يتعين عليهم التعامل معها”.
بينما انخفض العدد الإجمالي لحالات الانتحار في اليابان بشكل جدير بالملاحظة على مدى السنوات العشر الماضية، إلا أن عدد الشباب الذين قتلوا أنفسهم ظل ثابتًا، فهناك 659 شاب دون سن 20 عاما انتحروا العام الماضي بزيادة 60 شاب عن العام الذي يسبقه. كانت هذه هي الفئة العمرية الوحيدة التي شهدت زيادة.
هانا كيمورا المصارعة المحترفة البالغة من العمر 22عامًا ونجمة برنامج تلفزيون الواقع “تراس هاوس” والتي قتلت نفسها في مايو الماضي بعد تلقي مجموعة من الرسائل السلبية على وسائل التواصل الاجتماعي، وقد أعادت وفاتها تسليط الضوء على قضية انتحار الشباب مرة أخرى.
كانت ميدوري كوموري هي وزوجها شينيشيرو يقاتلان لرفع مستوى الوعي بعواقب التنمر منذ أن ماتت ابنتهما كاسومي البالغة من العمر 15عامًا في عام 1998 بعد أن تعرضت لمضايقات من قبل ثلاثة من زملائها في المدرسة الثانوية، لطالما علما أن ابنتهما كاسومي تتعرض للتنمر وحاولا إيقافه بطرق شتى بما في ذلك التحدث إلى المدرسة واتحاد الآباء والمعلمين عدة مرات، ونقل ابنتهما إلى عيادة نفسية، وعندما ثبت عدم نجاح ذلك أخذت كاسومي زمام المبادرة وانتحرت، وحاول الزوجان العثور على إجابات من خلال الاتصال بالمدرسة وكتابة رسائل إلى زملاء ابنتهم وأولياء أمورهم.
ومع ذلك نفت المدرسة حدوث أي تنمر عليها، وأعاد الآباء الرسائل دون فتحها وطلبوا من عائلة كوموري تركهم وشأنهم. وجد ميدوري وشينيشيرو نفسيهما في نهاية المطاف منبوذين من قبل المجتمع الذي فضل أن يدير ظهره بدلاً من مواجهة حقيقة مؤلمة، منذ ذلك الحين والزوجان يحاول تثقيف الأطفال والمعلمين حول مخاطر التنمر من خلال منظمتهم غير الربحية، مشروع “قلبٌ ودود”.
يقول ميدوري: “لقد غير الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي الأمور تمامًا في السنوات التي تلت وفاة كاسومي. يعتقد الناس أنهم يضايقون الناس فقط على الإنترنت وهذه ليست مشكلة كبيرة، لكن هذه المضايقات مثل قنبلة تنفجر على الطرف المتلقي لها. عندما يفعل الكثير من الناس ذلك يعتقدون أن دورهم في ارتكاب الخطأ ضئيل للغاية. ولكن أيهما أسوأ أن يتنمر عليك شخص واحد أم أن يتنمر عليك 100 شخص؟ حتى أطفال المدارس الابتدائية يمكنهم فهم ذلك”.
ومع ذلك فإن التنمر هو مجرد سبب من الأسباب العديدة التي تدفع الشباب إلى الانتحار، وقد تشمل العوامل الأخرى: العلاقات الأسرية المتوترة أو سوء المعاملة أو الضغط الأكاديمي أو مشكلات الصحة العقلية أو المخاوف المالية التي تدفع نحو الانتحار.
تقول جون تاتشيبانا، قائدة المنظمة غير الربحية “بوند بروجكت” لمساعدة النساء اللواتي يعانين من مشاكل في سن المراهقة والعشرينيات والتي مقرها طوكيو، إنها غالبًا ما تصادف الشباب الذين يشعرون أنه لا مكان لهم في المجتمع. تقول أيضا: “يشعر هؤلاء الشباب أنه لا مخرج لهم والمكان الذي يطلبون منه المساعدة لا يصغي إليهم، غالبًا ما يكون هؤلاء أطفالًا لديهم تجارب سيئة مع الكبار لذا فهم لا يثقون بهم، فيختار الكثير منهم عدم طلب المساعدة من الكبار، ويحاولون حل مشاكلهم بأنفسهم ثم يتصرفون بدافع أن ليس لديهم أي شخص يمكنهم الرجوع إليه”. لا يغطي قانون رعاية الأطفال في اليابان سوى الأطفال حتى سن 18 عامًا، وتقول: إن الشباب فوق هذا العمر والذين يعانون من سوء المعاملة على يد أحد أفراد الأسرة غالبًا ما لا يتم التعرف عليهم. وتتابع تاتشيبانا: “أتت إلينا فتاة صغيرة في هذا الموقف اليوم، وأخذناها إلى السلطات للتعامل معها، لكنني لا أعرف ما إذا كانت ستحصل على الحماية أم لا كما هو الوضع الآن، ليس هناك الكثير من التفهم لحالة الأشخاص الذين يتعرضون للإيذاء من قبل أحد أفراد الأسرة”.
تشعر بعض مجموعات منع الانتحار بالحاجة إلى اتباع نهج استباقي للعثور على الأشخاص الذين يتسللون عبر شقوق المجتمع.
جيرو إيتو هو رئيس”OVA”، وهي منظمة غير ربحية تستخدم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لربط حياة الأشخاص الذين يفكرون في انتحار مع مجموعات يمكنها مساعدتهم. اعتاد إيتو العمل في عيادة للصحة العقلية وهناك أدرك أن الأشخاص الذين يفكرون في الانتحار نادراً ما يتحدثون عن نواياهم. أجرى إيتو بعض الأبحاث حول عدد المرات التي يكتب فيها الناس عبارة “أريد أن أموت” أو عبارات مشابهة في محركات البحث على الإنترنت، وقد صُدم عندما اكتشف أن هذه العبارة تتردد حوالي 130000 مرة في الشهر في اليابان، ما جعله يضع هذا في عين الاعتبار؛ لذلك أسس ” OVA” وبدأ في استخدام تقنية الإعلان لجعل المعلومات حول خدمات منع الانتحار تظهر تلقائيًا على شاشات الكمبيوتر أو الهاتف كلما بحث المستخدم عن كلمات أو عبارات تتعلق بالانتحار.
يقول إيتو: “من الصعب جدًا العثور على أشخاص يفكرون في قتل أنفسهم. نحن نستخدم نظامًا إعلانيًا كان مخصصًا في الأصل للشركات لجذب العملاء ونستخدمه فقط لتحديد الأشخاص المعرضين لخطر الانتحار بشكل كبير ولدينا نهج استباقي للعثور على الأشخاص والتواصل معهم.
الأمر كبير مع الشباب وخاصة الأولاد ، فإن احترامهم لذاتهم ضعيف للغاية، كما أنهم يخشون أن يُنظر إليهم على أنهم ضعفاء إذا طلبوا المساعدة ويقاوم الكثير منهم فكرة إرسال استغاثة. من المهم التواصل معهم بطريقة تسهل عليهم باستخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وما إلى ذلك”. تعتمد مجموعات منع الانتحار الأخرى على الأشخاص الذين يأتون إليها بما في ذلك “مركز طوكيو للوقاية من الانتحار” وهو مركز اتصال بخط ساخن يضم أكثر من 30 متطوعًا يعملون في نوبات كل ليلة بين الساعة 8 مساءً إلى الساعة 5:30 صباحًا، عملت مديرة وكبيرة الباحثين أكيكو مورا في مركز “طوكيو للوقاية من الانتحار” على مدار الـ 19 عامًا الماضية وتقول: إن المنظمة تتلقى حوالي 11000 مكالمة سنويًا معظمها من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 30 و50 عامًا. نسبة الأشخاص الذين ينتحرون بالفعل في اليابان حوالي 70 في المائة رجال مقابل 30 في المائة نساء، وتقدر مورا أن ما يقرب من 60 في المائة من المتصلين بـ”مركز طوكيو للوقاية من الانتحار” هم من النساء و 40 في المائة من الرجال. تقول أيضا: إنه من المهم أن تدع المتصلين يعرفون أنه يمكنهم التحدث بصراحة، وتعتقد أن تغيير المواقف في السنوات الأخيرة سهّل عليهم القيام بذلك.
تقول مورا: “كان الانتحار جريمة في اليابان حتى قبل حوالي 20 عامًا، كان من الصعب حتى قول كلمة انتحار، والان أصبح الناس قادرين على القول علنًا إنهم يريدون الموت. أعتقد أن فكرة أن هناك أشخاصًا يريدون الموت قد ترسخت”. حتى لتعترف مورا أيضًا بأنه قد تراودها أفكار سلبية.
وفقًا لاستطلاعٍ أُجريَ في أواخر أبريل كان “مركز طوكيو للوقاية من الانتحار” هو المسؤول عن التعامل مع أكثر من 80 في المائة من مجموعات منع الانتحار، وقد تعطلت عملياته بسبب جائحة كورونا واضطر إلى تعليق خطه الساخن ليلا في أوائل أبريل واستؤنفت الخدمة مرة واحدة في الأسبوع اعتبارًا من 12 مايو، ثم بدأت بالعمل مرتين في الأسبوع في يونيو.
أظهرت إحصاءات وزارة الصحة أن حالات الانتحار في أبريل انخفضت بنسبة 20 في المائة عن العام السابق، لكن الخبراء يحذرون من أن الانخفاض قد يكون مؤقتًا فقط، ويمكن أن تشمل أسباب الانخفاض إغلاق المدارس في مارس، أو زيادة عدد الموظفين الذين يعملون من المنزل أو الشعور بالوحدة بشكل عام في مواجهة الأزمة، وتوقعت دراسة أجرتها “وحدة المرونة البحثية” بجامعة كيوتو والتي نشرت في نهاية أبريل أن التداعيات الاقتصادية للوباء يمكن أن تتسبب في وقوع 140.000 إلى 270.000 حالة انتحار إضافية في السنوات القادمة، وتستعد مجموعات الدعم لوقت عصيب في المستقبل. و قال أيضا: “بالطبع سيكون الاقتصاد عاملاً لكنني أعتقد أن الشعور بالعزلة المقترن بالاقتصاد السيئ هو الذي سيجعل الناس قلقين على مستقبلهم، أعتقد أن مشاعر اليأس والقلق ستكون عاملاً كبيرًا للأشخاص الذين يفكرون في الانتحار.”
تقول المؤلفة كوباياشي: إن بيئتها الأسرية السيئة والتنمر في مرحلة طفولتها أعطاها نظرة سلبية للحياة والتي قد تتخطى الحدود كلما واجهت محنة إلى أفكار انتحارية والتي ستتبلور على مدار ثلاثة أو أربعة أشهر، وإذا شعرتْ أنه لا يوجد أحد يمكنه مساعدتها في إيجاد مخرج فسوف تلجأ إلى تدابير يائسة، كما أنها لا تزال تعاني من الاكتئاب وأن فكرة أنها تريد الموت لا تزال قائمة معها، لكنها تقول الآن: إنها أكثر استعدادًا للتعامل مع المشكلات عند ظهورها. “لقد حصلت الآن على وظيفة ولدي أصدقاء، لذلك لا أشعر أنني أريد الموت على الفور، عندما أشعر بالوحدة أو أن الأمور لا تسير على ما يرام في العمل، أشعر أنني أريد الموت ولكن ليس لدرجة أنني سأواصل ذلك بالفعل، إن الشعور بأن الأشياء سيئة للغاية لدرجة أنك تريد الموت هو مجرد لحظة واحدة، إنه مجرد عاطفة تستمر للحظة واحدة” هذا ما قالته كوباياشي.