- ريبيكا ماسترتون*
- ترجمة: أنس بن سعود الجروان
هناك العديد من الملخصات الجيدة الموجودة لتطورات التصوف في القرون الإسلامية الاولى، لذلك عندما يظهر ملخص جديد، سيكون السؤال هو: ما الجديد الذي يمكن أن يقدمه؟ وفي الجواب على هذا السؤال، يسلط أحمد كارامصطفى[1] الضوء على المشاكل التي نشأت مع العديد من هذه الدراسات: وهي أنها جوهرية وخارج السياق. هذا صحيح بالتأكيد. العديد من الدراسات حول التصوف ترسم تطوراتها كما لو أنها حدثت في فراغ ذاتي لا يتأثر بالأحداث الخارجية مثل السياسة أو الحرب. يشرع كارامصطفى في توجيه نقد تاريخي للقرون الأولى للتصوف، ويدرسها في سياقها الاجتماعي. ويقول إنه يجب الاعتراف “بأولوية “شبكات الظروف” للتاريخ والثقافة (ص 7). ويبدو أن الآراء المؤيدة لهذا الكتاب تؤكد أن كارامصطفى قد حقق أهدافه: “إنه يحقق توازنا بين التاريخ الاجتماعي والفكري”، و”يحدد المسائل ذات الاهتمام” و”يضع الصوفية ضمن سياقها الثقافي الأوسع”؛ ولكن هل قدم كارامصطفى أي رؤى جديدة غير التي نعرفها الآن والتي تشكل تاريخ التصوف؟
يتألف الكتاب من ستة فصول. الأول يعرض التخلي المبكر والظروف التي بدأ فيها استخدام مصطلح صوفي، ثم يعرٍف بصوفية بغداد، مثل الخراز (277هـ/890 أو 286هـ/899)، والنوري (295ه/907) والجنيد (297ه/910) وملخصا لمعتقداتهم ورؤاهم ونظرياتهم. الفصل الثاني يتطرق إلى الصوفية من مناطق أخرى غير بغداد، مثل إيران وآسيا الوسطى. آخذا في الاعتبار السياق الاجتماعي والسياسي، موضحا لماذا أصبحت بعض الادعاءات الصوفية، مثل ادعاء التستري (283ه/896)، إمكانية التواصل مع الإله موضع شك: “في نهاية الأمر، كانت هذه هي الفترة التكوينية للفقه الإسلامي والمدارس الفقهية (المذاهب)، وكان مؤيدو التفسير الفقهي للإسلام يتفاوضون على مكانهم داخل الأنظمة السياسية الإسلامية من خلال لقاءات مشحونة مع أصحاب السلطة السياسية من جهة، ومن جهة أخرى، الآراء المطالبة بسلطة خاصة بين المسلمين (ص 39). ويعرض كارامصطفى رحلة الترمذي الروحية وأعماله (318ه/936-320ه/938)، ومن الرائع أن نرى أنه يذكر زوجة الترمذي التي “ربما كانت أقرب رفيق روحي له” (ص 44).
إن دراسة كارامصطفى للملامتية (أولئك الذين يعتمدون طريقة ” لوم النفس”، ومقرها في نيشابور، خراسان)، مثيرة للاهتمام، وإن كانت موجزة. وهو يقوم بتحليل ومقارنة مراقبة الذات الصارمة جداً عند الملامتية مع نهج الصوفية الآخرين مثل الترمذي، الذي اعتبر طريقة الملامتية “شغلاً ضالاً” (ص 50). كما أنه يمكٍن القارئ من رسم خيوط الصلة بين الصوفية، حتى يسهل عليه فهم كيفية انتقال الأفكار والممارسات الصوفية.
يتتبع الفصل الثالث انتشار “التصوف البغدادي” إلى هذه المناطق ويسأل أيضا عما إذا كان هناك متصوفون في السنوات الأولى من الحكم الأندلسي. هنا، يعتبر كارامصطفى أقل مثالية، مشيرا إلى أن “متصوفة بغداد كانوا غير متوافقين مع بعضهم البعض حول جميع القضايا أو متجانسين في مقارباتهم للفكر والممارسة الصوفية” (ص 56). ويناقش كيف ارتبط بعض الصوفية بالمدارس الفكرية المختلفة وكيف أثر ذلك على انتشار التصوف؛ على سبيل المثال، كان متصوفة بغداد إلى حد كبير يتبعون مذهب الإمام الشافعي، مما صعب من دخولهم مناطق الأحناف في بلاد ما وراء النهر. ومع ذلك، فإن بحثه ما إذا كان هناك صوفية في بداية دولة الأندلس هو مختصر للغاية، ولا يمكن استخلاص فهم شامل من خلاله.
بعد تحديد الظروف الاجتماعية لانتشار التصوف، ينتقل كارامصطفى إلى دراسة تطوره الفكري، يناقش الفصل الرابع “الأدب الصوفي المتخصص”، الذي تطور كجزء من بناء التقليد الصوفي. يقدم كارامصطفى قائمة مفيدة من الكتابات حول التصوف ويصنف العناوين تحت فئات مختلفة. كما يقدم تحليلا مقارنا للمحتوى والمقاربات لهذه العناوين، ويوضح بعض النقاط المثيرة للاهتمام حول كيفية تقاطع الصوفية مع آراء العلماء التقليديين: الهجويري (ه465/1072-469ه/1057)، من الاحناف، ذهب إلى حد تسمية أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل كمتصوفة، ونجح كل من القشيري والهجويري في مواءمة الصوفية مع الشافعية- الأشعرية والاحناف -الماتوريدية” (ص 106)، وهذا النمط بقي حتى يومنا هذا. ومع ذلك، لا يضع كارامصطفى هذه التطورات في أي سياق سياسي، ولا يزال تحليله ضحلا إلى حد ما.
ثم يعود كارامصطفى في الفصل الخامس لدراسة بنية التصوف المنظمة بشكل متزايد، حيث يتتبع “ظاهرة الشيخ المحاط بمجتمع من التلاميذ” (ص 125). وهو يفرق عادةً بين طريقة التدريب المبكر حيث يقوم شيوخ معينون بتعليم طلابهم، والتي لم تستمر سوى بضعة أجيال، وتطور الطريقة، حيث يكون الشيوخ والمريدين متصلين من خلال الأنساب الروحية، وهو الأمر الذي مكن أساليبهم التعليمية من الصمود للقرون القادمة. كما يشير كارامصطفى إلى “خطاب جديد من الطاعة” للشيخ. وكما قال التستري: “كن بين يدي شيخك كالميت بين يدي مغسله”، وهي عبارة يرددها عبد القادر الجيلاني (561ه/1166). يلاحظ كارامصطفى أن هذا النمط الخاص من علاقة الشيخ بالمريد تطور في ظل حكم السلاجقة، لكنه لا يربطه بحقيقة أن السلاجقة، نيابة عن العباسيين، كانوا عازمين على وضع مسميات للإسلام وتعاليمه وممارساته تحت سيطرة الخليفة، وتطوير شكل من أشكال التصوف الذي ترضاه المؤسسة السياسية.
وفي ختام الكتاب بالفصل السادس، بعنوان “انتصار الأولياء”، والذي يتوج بدراسة لكيفية حصول الولي أخيراً على السلطة والاستقلالية داخل مجتمعه، يقوم كارامصطفى بتحليل مدروس لدور “مجتمعات الأضرحة” الناشئة ويسلط الضوء على حقيقة أن هؤلاء الاولياء المحليين في هذه المجتمعات، الذين كان يُعتقد أنهم يحمون الأرض والناس، لم يكونوا صوفيون بالضرورة. كما يلاحظ الفرق بين الصورة الشعبية لبعض الصوفيين وشخصياتهم الفعلية. وهنا نرى أيضا انعكاس الدور بين السياسة والتصوف، حيث يبدو أن قادة السلاجقة يعتمدون على الدعم المعنوي لأعلام التصوف، بدلا من اعتماد الصوفية على القادة السياسيين. كما يتناول كارامصطفى الانتقادات الموجهة للممارسات الصوفية من قبل علماء المعتزلة والشيعة، والذين اتهموا الصوفية بأنهم ضد العقلانية وادعاءاتهم الكاذبة حول الكرامات.
بعض مصطلحات كارامصطفى جميلة وأنيقة: فهو يصف التصوف بأنه “طريقة التقوى”، وهو ما يعني بحق أن هناك طرق أخرى داخل التقليد الإسلامي. ويشرح الفناء (الانصهار في الذات الإلهية) بأنها ‘إعادة تمثل للعهد البدائي’ (ص 17). ومع ذلك، لا بد من القول إن ادعاءه بأن الفصل الأول “يرسم صورة اجتماعية وفكرية شاملة” عن الحركة الصوفية في بغداد لهو أمر محير إلى حد ما. في هذا الفصل يتبع إلى حد ما الصورة التقليدية لمتصوفة بغداد، مصوٍراً تلك المدينة على أنها نقطة انطلاق للتصوف، دون أن يدرس بتفصيل أثر الكوفة والبصرة (حيث كان يطلق مصطلح الصوفية على أتباع أبو حاتم العطار (260ه/874)، وهو معتزلي، قبل استخدام هذه الكلمة في بغداد)، على الرغم من أنه يعترف ببعض أوجه التشابه السطحية بين الحركات الروحية في تلك المناطق. ولا يمكن أن يكتمل التاريخ الاجتماعي والفكري، دون ذكر الظروف السياسية المحيطة على الأقل. وفي حين أن الزهاد والصوفية الأوائل قد نأوا بأنفسهم كثيرا عن السلطة الفاسدة المتمثلة في الأمويين والعباسيين، إلا أنهم تأثروا بسياسات الخلافة.
ومن المستغرب كذلك أن كارامصطفى لم يكن نقدياً تجاه الصوفية التي استعرضها في كتابه. وقد قام علماء آخرون بالفعل بالربط بين ممارسات وتعاليم سهل التستري والعقائد والممارسات المانوية، مثل تبنيه للنباتية واستخدامه لمفهوم (عمود النور) للجوهر المحمدي الكائن قبل الوجود، لكن كارامصطفى لا يقدم التستري إلا بالشكل التقليدي المعروف: مسلطاً الضوء على بعض النقاط في عمله والتي من خلالها يمكن أن يطلق عليه صوفي.
موضوع الولاية هو المفتاح لأي دراسة للتصوف، ولكن في حين أن جميل أبو النصر، في (مجتمعات الفضيلة الإسلامية: الأخوة الصوفية في الحياة الدينية الإسلامية)، (نيويورك: مطبعة جامعة كولومبيا، 2007)، يعطي نقدا محددا ودقيقا لكيفية تطور مفهوم الولاية عند الصوفية الأوائل، يشرح كارامصطفى هذه الظاهرة بالقول إنها كانت “منتشرة فحسب” (ص 6). في تصويره ل “الجنيد”، يعتمد بشكل كبير على عمل سابق: “حياة وشخصية وكتابات الجنيد” لعلي حسن عبد القادر (لندن: جيب ميموريال تراست، 1976)، حتى أنه يكرر ترجمة عبد القادر لكلمة (توحيد) العربية بالنقحرة على أنها “التوحيد بالمصطلح الشرعي المتعارف عليه”، وهو في حد ذاته إشكالي، لأن هذا ليس معناه الوحيد. وقد ترجم علماء آخرون ذلك، بشكل أكثر فائدة، بمعنى “تأكيد الوحدة” كما في كتاب (التصوف الإسلامي المبكر)، ترجمة وتحرير: مايكل سيلز (نيوجيرسي: مطبعة باوليست، 1996).
ويبدو أن كارامصطفى لم يستطع أن يضع يده على جوهر بعض التعاليم الصوفية. وفيما يتعلق بإحدى تعاليم الجنيد المركزية حول كيفية الثقة بالله وفصل النفس عن التفكير المادي، حيث يسأله البعض “ما الحل إذن؟” ويجيب “التخلي عن [فكرة] الحل”، يفسر كارامصطفى ذلك على أنه مجرد “إرضاء لجميع الأطراف” (ص 24)، وهو بالكاد تفسير كاف للأهمية المتسامية لهذه العبارة.
بشكل عام، في حين يقدم هذا الكتاب بعض التحليلات الجديدة للعوامل الاجتماعية والفكرية والديموغرافية التي ساهمت في ظهور التصوف، فإن الكثير مما جاء فيه لا يزال يُعد تقليديا إلى حد ما في هذا الموضوع، تماما مثل الأعمال التي انتقدها كارامصطفى نفسه.
اقرأ ايضًا: جدلٌ حول التصوف: المفهوم، والأصل، والحقيقة
- ريبيكا ماسترتون: محاضرة في الكلية الإسلامية بلندن، ولها اهتمام ودراسات عديدة في التصوف والتشيع، وقد كتبت هذه المراجعة في مجلة الدراسات القرآنية، المجلد العاشر، العدد الثاني، ص107-110.
[1] أحمد كارامصطفى: بروفيسور التاريخ في مدرسة اللغات والآداب والثقافات بجامعة ماريلاند، له اهتمامات في تاريخ الشرق الأوسط والعصور الوسطى، ومن أشهر كتبه: (التصوف: عصر التكوين) وهو من إصدار مطبوعات جامعة إدنبره.