- محمد بن عبد العزيز المترك
- تحرير: عبير الشهري
لعل من أظهر الفوارق بيننا وبين الرعيل الأول من الصحابة والتابعين هو: قوة التسليم للنص الشرعي، والتسليم ليس مقامًا سلوكيًا فحسب، بل هو من أعظم مقامات الاهتداء العلمي، فهو يقوم على فَهم العبد علاقته بربه، ومعرفته بحقيقة الإسلام والاستسلام له، وإدراكه لنقص علمه وسعة جهله، مقابل كمال علم ربه وحكمته ورحمته.
فلا عجب إذن أن تسبق الصحابة إليه أهلَ زمانٍ تفشَّت فيه المادية وصار الإنسان هو مدار الأفلاك، وبه تقاس المحاسن والرذائل.
من الأوهام التي سيطرت على عقول كثير من أهل هذا الزمان: ظنهم أن أمر الله ونهيه لا بد وأن يكون معلوم الحكمة معقول المعنى ظاهر المصلحة والمناسبة، وهذا عين الجهل بمنزلة العبودية، فالعبد يطيع ربه أبدًا، أدركَ حكمة الأوامر والنواهي أو جهلها، اقتنع بها أو لم يقتنع.
وكلما كمُل مقام العبودية في القلب كمُل معه مقام التسليم، لذا كان إبراهيم عليه السلام أمة في التسليم والانقياد، وهذا المقام جليٌّ في شخصيته.
فبعدما لبث من عمره سنين يسأل ربه ذرية صالحة بشّره الله بغلام، ولما وهبه إياه على كِبَرٍ أمره الله بتركه وأمه بقفرٍ موحشٍ وحدَهم، فانقاد وفوّض أمرهم إلى الله.
فلما نجاهم الله وبلغ ابنه معه السعي ابتلاه ربه بالبلاء العظيم، أمره أن يذبح ابنه! فبادر بالامتثال والتنفيذ، ولم يستشكل امتنانه عليه به طفلًا ثم أمْرَه بإهلاكه شابًا فتيًّا.
وأوحي إليه ببناء البيت بأرض خالية مهجورة، فسارع بالطاعة، ولم تكن خفاء المصلحة لتمنعه من الإقدام على مراد الله.
ولما علم بإرسال ملائكة العذاب على قوم لوط حار في الحكمة من ذلك، فزُجر عن جدالهم وما كان منه إلا الاستجابة والرضا.
حتى إن أثر تسليمه بلغ أهله وأولاده، فابنه بادره بقوله: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾، أما زوجه هاجر فلم يهدأ روعها حين علمت أنه يتركها في واد غير ذي زرع حتى سألته (آلله الذي أمرك بهذا؟) فلما قال: (نعم)، قالت بقلب ملئ تسليمًا وتصديقًا: (إذن لا يضيعنا)[1].
وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذا سُئلت: “لِمَ نفعل؟” كان الجواب الذي يسبق لذهنها: “لأننا أُمرنا”، كما سألتها معاذة رضي الله عنها: (ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة) قالَتْ: (أحَرُورِيَّةٌ أنتِ؟) فقالت معاذة: (لست بحَرُورِيَّةٍ، ولكنّي أسأل) فقالت عائشة: (كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة)[2]، فلكمال تسليمها لم تكن بحاجة لباعث على الامتثال غير ورود الأمر به، ولم تكن تتصور أن مؤمنا يحتاج لغير هذا!
ومن أعظم نماذج التسليم صحابيٌّ لم يُحفظ اسمه كما حُفظ انقياده، لما رآه رسول الله ﷺ لابسًا خاتمًا من ذهب نزعه فطرحه، وقال: «يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إلى جَمْرَةٍ مِن نَارٍ فَيَجْعَلُهَا في يَدِهِ»، فقيل للرجل بعدما توارى رسول الله ﷺ: (خُذْ خَاتِمَكَ انْتَفِعْ به[3])، قال: (لا وَاللَّهِ، لا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رسول الله ﷺ)[4].
فما دار في ذهنه سؤال الحكمة، ولم يقل لمَ جاز للنساء دون الرجال؟ وما استشكلَ التفريق بين الذهب وغيره من الأثمان والزينة، بل بلغ به تسليمه أن تعدى محل النهي ومدلوله، فالنهي مقيد بوضعه في اليد -ويؤكده فهم الذي أشار عليه بالانتفاع- ولكن لأهل التسليم والإذعان شأن آخر.
· لله الحكمة البالغة
ولو قدرنا انعدام الحكمة في أوامر الله ونواهيه فلا يغير من وجوب الامتثال شيئًا، فكيف وهو اللطيف الخبير الذي لا يُشرّع إلا ما يقتضيه كمال الرحمة والحكمة، ولكن قد تستوجب حكمته إخفاء شيء من حِكَمه عن خلقه، قال ابن القيّم: (وكماله أيضا یأبی اطلاع خلقه على جميع حِکمته، فحكمته تمنع اطلاع خلقه على جميع حكمته، بل الواحد منّا لو أَطْلع غيرَه على جميع شأنِه وأمرِه عُدّ سفيهًا جاهلًا، وشأن الرب تعالى أعظم من أن يطّلع كل واحد من خلقه على تفاصيل حكمته)[5]، ولكننا -في زمنِ طغيان المادية وتأليه الإنسان- ضيّقنا مفهوم الحكمة حتى حصرناه في المعاني المادية والاقتصادية، وربما وسع شيئًا من المعاني الاجتماعية والأخلاقية، وصيّرنا مصلحة الإنسان وحده ميزان هذه المعاني، وتصورناه قادرًا على الإحاطة بها جميعًا وإدراكها، ورهنَّا كمال الامتثال بموافقة الأذواق وتقبُّلِها!
ويشبه هذا حال رجلٍ حَكَم عليه النبي ﷺ بدفع عبدٍ أو أمةٍ ديةً لجنين سبَّب إسقاطَه، فقال مستشكلًا: (كيفَ أغرَم ما لا أكَل ولا شَرِب، ولا نَطَق ولا استهَل، ومثلُ ذلك يُطَلُّ[6]؟!) فقال رسول الله ﷺ: «إنما هذا من إخوان الكُهّان»[7]، وأعرض عن الجواب عليه.
أما العارفون بالله وبكمال عِلْمِه وحِكمته وسَعة رحمته، المدركون لقصورهم وأنهم لا يحيطون بشيء من علمه، المتعبدون له المنقادون إليه، فأولئك يعرفون أن لله في أوامره حِكَمًا لا تبلغها عقولهم ولا تحصرها علومهم ويفوضون المصلحة فيها إلى رب حكيمٍ رحيمٍ.
بل ربما بدت لهم مفسدةٌ في الامتثال، فلا يزعزع ذلك تسليمَهم شيئًا. هذا رافع بن خديج رضي الله عنه يتحدث عن عقدٍ تجاري تعارفوا عليه وانتفعوا به في الجاهلية وأول الإسلام، قال: (كنا نحاقل الأرض على عهد رسول الله ﷺ، فنكريها بالثلث والربع، والطعام المسمى، فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي، فقال: «نهانا رسول الله ﷺ عن أمر كان لنا نافعا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا، نهانا أن نحاقل الأرض…»)[8]، فكأنما يقول: “الله أرحم بنا من أنفسنا، وأحب للعدل والإحسان منا، وعِلْمه بطُرق ذلك كاملٌ لا يخفى عليه منها شيء، فإن نهانا عما بدا لنا حُسنه فقد امتن علينا بإظهار ضُرِّه، وإن أمرنا بمكروه عندنا فقد أبان بذلك عن نفعه”، ولكنه طوى هذه المعاني القلبية بقوله: (وطواعية الله ورسوله أنفع لنا).
وقد أشار شيخ الإسلام لجهل الإنسان بألوان الحِكَم، وحصره لها في أنواع مادية إنسانوية بقوله: (وكثير من الناس يقصر نظره عن معرفة ما يحبه الله ورسوله من مصالح القلوب والنفوس ومفاسدها، وما ينفعها من حقائق الإيمان، وما يضرها من الغفلة والشهوة … فتجد كثيرًا من هؤلاء في كثير من الأحكام لا يرى من المصالح والمفاسد إلا ما عاد لمصلحة المال والبدن، وغاية كثير منهم إذا تعدى ذلك أن ينظر إلى سياسة النفس وتهذيب الأخلاق بمبلغهم من العلم، كما يذكر مثل ذلك المتفلسفة وأمثالهم)[9].
ومن شواهد كلام ابن تيمية في عصرنا: الولع الشديد بتقصي الحِكَم المادية من العبادات، فتجد من يقول: الصلاة شُرعت –أصالةً- لرياضة البدن وتمرين المفاصل، والصيام للحمية، وقيام الليل لتنظيم النوم، والوضوء للتنظيف والتعقيم، وربما تكلّف أمورًا أبعد من ذلك وأسمج، حتى أحدث المعاصرون ما أسموه بـ«الإعجاز العلمي في العبادات»، وإنما هو عجز عن تصوّر سعة الشريعة وشمولها، وانهزامٌ أمام العلمويّة والماديّة، وإفلاس من براهين الإسلام الصحيحة.
· حِكَم ماورائية
ومما جرّته علينا الثقافة المادية: إغفال الحقائق غير المحسوسة، والعوالم الغيبية، وإمكان تعلق حِكم الله بها، فالنبي ﷺ قال: «إذا قامَ أحَدُكُمْ يُصَلِّي، فإنَّه يَسْتُرُهُ إذا كانَ بيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فإذا لَمْ يَكُنْ بيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ آخِرَةِ الرَّحْلِ، فإنَّه يَقْطَعُ صَلاتَهُ الحِمارُ، والْمَرْأَةُ، والْكَلْبُ الأسْوَدُ» فسأله أبو ذر الغفاري رضي الله عنه: (ما بالُ الكَلْبِ الأسْوَدِ مِنَ الكَلْبِ الأحْمَرِ مِنَ الكَلْبِ الأصْفَرِ؟)، فقالَ: «الكَلْبُ الأسْوَدُ شيطانٌ»[10]، فهل لعقولنا أن تهتدي لهذه الحكمة لولا سؤال أبي ذر وجواب النبي ﷺ؟ وكيف لنا أن نهتدي للحكمة في قطع المرأة والحمار التي لم نُخبر عنها؟
ومثل ذلك قوله ﷺ لما بيّن إحدى حِكَم تحريم تعليق الصور واتخاذ الكلاب في البيوت: «لا تدخل الملائكةُ بيتًا فيه كلب ولا صورة»[11].
· التعلّق بمُدْرَك الحِكَم يوهن الانقياد
فإذا تفطن المؤمن لحكمة من الحِكم فليستصحب جهله وقصوره، فربما أخطأ الحكمة الصحيحة، وربما أصاب إحدى الحِكَم وعجز عن إحصاء الباقي، وعليه ألا يعلِّق بها قلبَه، ولا يرهن بها امتثاله، فإن ذلك يوهن الانقياد كما قال أبو إسماعيل الهروي في كلمة كثيفة المعاني رقيقة العبارة: (تعظيم الأمر والنهي: هو أن لا يعارضا بترخص جاف، ولا يُعرِضا لتشديد غال، ولا يحملا على علة توهن الانقياد)[12]، وهذه الجملة شرحها ابن القيم بنص بديع أنقله بطوله:
(وقوله: (ولا يحملا على علة توهن الانقياد)، يريد أن لا يتأول في الأمر والنهي علةً تعود عليهما بالإبطال، كما تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه مُعلَّل بإيقاع العداوة والبغضاء والتعرض للفساد، فإذا أمن من هذا المحذور منه جاز شربه، كما قيل:
أَدِرْهَا فَمَا التَّحْرِيمُ فِيهَا لِذَاتِهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ سُكْرٌ يُضِلُّ عَنِ الْهُدَى | وَلَكِنْ لِأَسْبَابٍ تَضَمَّنَّهَا السُّكْرُ فَسِيَّانِ مَاءٌ فِي الزُّجَاجَةِ أَوْ خَمْرُ |
وقد بلغ هذا بأقوام إلى الانسلاخ من الدين جملة، ومن العلل التي توهن الانقياد أن يعلل الحُكم بعلةٍ ضعيفةٍ لم تكن هي الباعثة عليه في نفس الأمر، فيضعف انقياد العبد إذا قام عنده أن هذه هي علة الحكم، ولهذا كانت طريقة القوم عدم التعرض لعلل التكاليف خشية هذا المحذور.
وفي بعض الآثار القديمة: (يا بني إسرائيل لا تقولوا: لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا؟)
وأيضا فإنه إذا لم يمتثل الأمر حتى تظهر له علته لم يكن منقادًا للأمر، وأقل درجاته أن يضعف انقياده له.
وأيضا فإنه إذا نظر إلى حكم العبادات والتكاليف مثلًا، وجعل العلة فيها هي جمعية القلب والإقبال به على الله، فقال: أنا أشتغل بالمقصود عن الوسيلة. فاشتغل بجمعيته وخلوته عن أوراد العبادات فعطلها، وترك الانقياد بحمله الأمر على العلة التي أذهبت انقياده.
وكل هذا من ترك تعظيم الأمر والنهي، وقد دخل من هذا الفساد على كثير من الطوائف ما لا يعلمه إلا الله، فما يدري ما أوهنت العلل الفاسدة من الانقياد إلى الله، فكم عطلت لله من أمر، وأباحت من نهي، وحرّمت من مباح، وهي التي اتفقت كلمة السلف على ذمها)[13]
· الابتلاء أم الحِكم
والحكمة التي لا يخلو منها أمر ولا نهي، هي حكمة الابتلاء والاختبار، بل تكون أظهر كلما خَفِيت عنا غيرها من الحِكم، فمن فتح الله على قلبه أنوار البصيرة وهداه لما اختلف فيه من الحق، سيجد في كل أوامر الله الحكمة البالغة، فإنه إذا لم يتفطن للمصالح الظاهرة في طاعة معينة، تجلت له حكمة الابتلاء والاختبار بها، وأن الله كلفه بما لا يعقل معناه ليبلو انقياده أيضعف للجهل بمبررات التكليف أو يقوى لعظيم التسليم؟ ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ ﴿لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾.
وقد علّق الله بحكمة الابتلاء إحدى أغمض القضايا وهي تناسخ الشرائع وتبدلها، فقال في شأنها: ﴿لِكُلٍّ جَعَلنا مِنكُم شِرعَةً وَمِنهاجًا وَلَو شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُم أُمَّةً واحِدَةً وَلكِن لِيَبلُوَكُم في ما آتاكُم فَاستَبِقُوا الخَيراتِ إِلَى اللَّهِ مَرجِعُكُم جَميعًا فَيُنَبِّئُكُم بِما كُنتُم فيهِ تَختَلِفونَ﴾.
وهي بارزة في تكليف إبراهيم ذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام، وتحريم الصيد على المحرم وفي الحرم ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا لَيَبلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيءٍ مِنَ الصَّيدِ تَنالُهُ أَيديكُم وَرِماحُكُم لِيَعلَمَ اللَّهُ مَن يَخافُهُ بِالغَيبِ فَمَنِ اعتَدى بَعدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَليمٌ﴾.
· بين وضوح الدليل وخفاء الحكمة
ومما يندى له الجبين أن تظهر دلائل حكم الله في مسألة معينة جلية محكمة، ثم ينقلها واهن الانقياد لدائرة المتشابه؛ لأنه لم يحصّل حكمةً تقنعه!
وتقسيم المسائل لمحكم ومتشابه متعلق بدلالة الدليل لا بالحكمة والتعليل، وإلا لكانت الصلوات الخمس وصيام رمضان وحج البيت من المتشابه، فإن لم تغمُض الحكمة في جملة هذه الشرائع غَمُضت في تفاصيلها من تعيين الأوقات وتحديد الأعداد وتخصيص الصفات، فهي ليست من المتشابه، وما انتقلت إلى دائرة الرَّيب، بل هي أعظم محكمات الشريعة وأركان الإسلام.
والحيرة في الحِكَم ليست بمنفية عن قلوب المؤمنين، ولكنهم لا يجرّون هذه الحيرة إلى مربع الأحكام، فما دامت أدلة الأمر والنهي واضحة فقد قامت حجة الله عليهم.
· واهن الانقياد
وإذا ما ذُكرت حِكمة لبعض التشريعات انقسم الناس فئتين:
فصادق الإيمان يستبشر بما عرف ويقول لنفسه: (ولعل الحكمة فيما لم تعلمه أعظم منها فيما علمته؛ فإن الذي علمته على قدر عقلك وفهمك، وما خفي عنك هو فوق عقلك وفهمك) كما قال ابن القيم[14]، فيزداد إيمانًا وتسليمًا.
أما مريض القلب فيتتبع ثغراتها ويفتّش عما ينغّصها، فتذبل في عينه ولا تشفي علته، وربما أشفق على الذين فرحوا بهذه الحكمة غير المقنعة، ولم يزده علمه بها إلا حيرةً ووهنًا.
وأشبه شيء بحالهما قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ 124 وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ 125﴾.
لهذا إذا سأل واهن الانقياد عن الحكمة فخيرٌ له ألا يجاب بها، وإنما يُرد إلى الأصل المحكم: الله لا يشرّع إلا مقتضى الحكمة، وقد شرّع هذا الحُكمَ فسلّم به وفوّض الحكمة إليه.
والحقيقية أن كثيرا ممن يستسمج الحِكَم دافعه الهوى، ويجد نفسه يسلّم بأحكامٍ هي أغمض مما ارتاب فيها؛ لضعف داعي الهوى إليها، ولو سلك طريق التقعّر مع سائر الشريعة كما يفعل إذا دعاه هواه لَتدرّج في سُلّم الانحلال حتى لا يسلم له إيمان.
وهذه المعاني السلوكية العلمية ترسّخت عند ابن الجوزي رحمه الله، حتى قال في صيد خاطره:
(الفقيهُ مَن علَّل بما يُمكن، فإذا عجز استطرح للتَّسليم، هذا شأن العبيد، فأما من يقول: “لمَ فعل كذا؟ وما معنى كذا؟”، فإنه يطلب الاطلاع على سِرِّ المَلِك، وما يجد إلى ذلك سبيلًا؛ لوجهين:
أحدهما: أنَّ الله تعالى سَتر كثيرًا من حِكَمه عن الخلق.
والثاني: أنْ ليس في قوى البشر إدراك حِكَم الله تعالى كلِّها؛ فلا يبقى مع المعترض سوى الاعتراض المُخرج إلى الكفر: ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾، والمعنى: من رضي بأفعالي وإلا فليخنق نفسه، فما أفعل إلا ما أريد)[15].
ولو تدبَّر الإنسان قول ربه: ﴿ها أَنتُم هؤُلاءِ حاجَجتُم فيما لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحاجّونَ فيما لَيسَ لَكُم بِهِ عِلمٌ وَاللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لا تَعلَمونَ﴾، وقوله: ﴿لا يُسأَلُ عَمّا يَفعَلُ وَهُم يُسأَلونَ﴾، وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ لكف عن الإسراف في تقصي الحكم، ولأقبل على أوامر الله مسلّما مذعنا ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.
· الانقياد أدعى للاحتساب وأنفى للرياء
قال النبي صلى الله عليه وسلم «إنَّ المُسْلِمَ إذا أنْفَقَ علَى أهْلِهِ نَفَقَةً، وهو يَحْتَسِبُها، كانَتْ له صَدَقَةً»[16]، فإذا أنفقها المسلم غافلًا عن ابتغاء وجه الله بها، منشغلًا ببعض حِكَم الأمر من سد حاجة عياله وإغنائهم، فاته أجر المُحتسب الذي يقصد بها القربة أصالةً، وداعيه إلى الإنفاق رضى الله أولًا.
والاستغراق في تقصي الحِكَم يلهي عن قصد التعبّد، ويفوّت منزلة الاحتساب وكمال الانقياد، يقول الإمام الشاطبي: (فكم ممن فهم المصلحة فلم يَلْوِ على غيرها[17]؛ فغاب عن أمر الآمر بها؟ وهي غفلة تُفوّت خيراتٍ كثيرة)[18]، ومن كانت هذه حاله فهو أشد عرضةً لواردات الرياء وحظوظ النفس، بخلاف المسارع بالامتثال والانقياد، فحاله أكمل وأسلم كما بيّن الشاطبي بقوله:
(والثالث: أن يقصد مجرد امتثال الأمر، فَهِم قصد المصلحة أو لم يفهم؛ فهذا أكمل وأسلم.
أما كونه أكمل؛ فلأنه نصب نفسه عبدًا مؤتمرًا، ومملوكًا مُلبيًّا؛ إذ لم يعتبر إلا مجرد الأمر.
أيضا، فإنه لما امتثل الأمر؛ فقد وكَلَ العلم بالمصلحة إلى العالم بها جملة وتفصيلًا، ولم يكن ليَقْصُر العمل على بعض المصالح دون بعض، وقد عَلِم الله تعالى كل مصلحة تنشأ عن هذا العمل؛ فصار مؤتمرا في تلبيته التي لم يقيدها ببعض المصالح دون بعض.
وأما كونه أسلم؛ فلأن العامل بالامتثال عامل بمقتضى العبودية، واقف على مركز الخدمة، فإن عَرَض له قصدٌ غير الله ردَّه قصدُ التعبد، بل لا يدخل عليه في الأكثر … وأيضا؛ فإن حظه هنا ممحوٌ من جهته، بمقتضى وقوفه تحت الأمر والنهي، والعمل على الحظوظ طريق إلى دخول الدواخل، والعمل على إسقاطها طريق إلى البراءة منها)[19].
وليس المقصود امتداح الجهل بالمصالح، أو أن يتعمد المرءُ إغفال الحِكَم، فلم يخبرنا الله ورسوله ببعضها إلا لما في معرفتها من الفوائد فـ(القلوب إلى ما فَهِمت حكمته أسرع انقيادًا، والنفوس إلى ما تطَّلِع على مصلحته أعطش أكبادًا) كما قال شيخ الإسلام[20]، وإنما المراد قصد وجه الله، وتكون الحِكَم كالحُداء الذي يسوق النفس نحو طريق الامتثال.
· خَنْقُ النُّصُوصِ بحِكَمها
فُتن المتأخرون بسبيلٍ تفرّقت بهم عن سبيل الانقياد والتسليم، فإذا مروا بنصوص الأمر والنهي فتّشوا عن الحِكمة وراءها، ليجدوا محل النص أوسع مما خُيِّل إليهم من حكمته، فيعودون عليه بالتشذيب والتقريض، ثم يُسمّون صنيعهم هذا تمسكًا بلُبِّ الشريعة وروحها، بدلًا من رسمها وقشورها، وانشغالًا بالمعنى والمغزى عن اللفظ والمبنى.
وكأنهم يقولون بلسان الحال: أي ربّ، لو لم تأمرنا بمُفصّل الأحكام الشرعية وأمرتنا بمُجمل الحِكَم التعبدية لكان أوفق وأكمل، ولانشغلنا بالمقصود عن تقييد الطريق.
وقد كفانا الإمام الشافعي تحليل هذه الظاهرة المتأخرة، والإبانة عن موضع الزلل فيها، وذلك لما علق على آية مصارف الزكاة: ﴿إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ …﴾، قال: (أضاف الله تعالى الصدقات بلام الاستحقاق إلى أصنافٍ موصوفين بأوصاف، فرأى بعض الناس جواز الاقتصار على بعضهم ذاهبًا إلى أن المرعيَّ الحاجةُ، وهذا في التحقيق: تأسيس معنیً يعطّل تقييدات أمر الله تعالى، فلو كانت الحاجة هي المرعية لكان ذكرها أكمل وأشمل وأولى من الأقسام التي اقتضاها اللفظ ومُقتضاها الضبط)[21].
وليس هذا بجمود على الألفاظ وإهمال للمعاني والمقاصد، فهذا عَلَم المقاصد أبو إسحاق الشاطبي يقول:
(المعنى المفهوم للأمر والنهي إن كَرَّ[22] عليه بالإهمال؛ فلا سبيل إليه، وإلا فالحاصل الرجوع إلى الأمر والنهي دونه؛ فآل الأمر في القول باعتبار المصالح أنه لا سبيل إلى اعتبارها مع الأمر والنهي، وهو المطلوب.
ولا يقال: إن عدم الالتفات إلى المعاني إعراض عن مقاصد الشارع المعلومة؛ لأنّا نقول: هذا أيضا معارَضٌ بما يضادُّه في الطرف الآخر في تتبع المعاني مع إلغاء الصيغ، وإذا كانت المعاني غير معتبرة بإطلاق، وإنما تُعتبر من حيث هي مقصود الصيغ؛ فاتباع نفس الصيغ التي هي الأصل واجب؛ لأنها مع المعاني كالأصل مع الفرع، ولا يصح اتباع الفرع مع إلغاء الأصل، ويكفي من التنبيه على رجحان هذا النحو ما ذكر)[23].
وما اكتفى الشاطبي بإبطال الحكمة التي تَكِرّ على نصّها بالتقييد، بل حلل أسباب بطلانها:
- قد يخطئ المستنبط إصابة حكمة الله:
(وكثيرا ما يظهر لنا ببادئ الرأي للأمر أو النهي معنى مصلحي، ويكون في نفس الأمر بخلاف ذلك، فلا بد من الرجوع إلى ذلك النص دون اعتبار ذلك المعنى)[24].
- ولو أصاب حكمة أصل الحكم وجملته، فلا تكفي لتفسير تفاصيل الحُكم:
(فإن المصلحة وإن علمناها على الجملة؛ فنحن جاهلون بها على التفصيل.
فقد علمنا أن حد الزنى –مثلا- لمعنى الزجر بكونه في المحصن: الرجم، دون ضرب العنق، أو الجلد إلى الموت، أو إلى عدد معلوم، أو السجن، أو الصوم، أو بذل مال كالكفارات.
وفي غير المحصن: جلد مائة وتغريب عام دون رجم، أو القتل، أو زيادة عدد الجلد على المائة أو نقصانه عنها، إلى غير ذلك من وجوه الزجر الممكنة في العقل.
هذا كله لم نقف على تحقيق المصلحة فيما حُد فيه على الخصوص دون غيره، وإذا لم نعقل ذلك -ولا يمكن ذلك للعقول- دل على أن فيما حُد من ذلك مصلحة لا نعلمها، وهكذا يجري الحُكم في سائر ما يُعقل معناه، أما التعبدات؛ فهي أحرى بذلك، فلم يبق لنا إذًا وَزَرٌ[25] دون الوقوف مع مجرد الأوامر والنواهي)[26].
- ولو عرفنا الحكمة لتفاصيل الأحكام على الوجه الصحيح فثمّ حكمة أخرى لكل تكليف شرعي، وهي حكمة التعبد والابتلاء التي تمنع من تضييق الحُكم عن محل النص.
(كل أمر ونهي لا بد فيه من معنى تعبدي، وإذا ثبت هذا؛ لم يكن لإهماله سبيل؛ فكل معنى يؤدى إلى عدم اعتبار مجرد الأمر والنهي لا سبيل إلى الرجوع إليه)[27].
- ولو قدّرنا خلوه من المعنى التعبدي فلا دليل عند المُضيِّق على انحصار الحِكَم فيما ظهر له بالنص أو الاستنباط.[28]
(وأيضا؛ فإن المصالح لا يقوم دليل على انحصارها فيما ظهر، إلا دليلٌ ناصٌّ على الحصر، وما أقله إذا نظر في مسلك العلة النصي؛ إذ يقل في كلام الشارع أن يقول مثلا: “لم أُشرّع هذا الحكم إلا لهذه الحكمة”، فإذا لم يثبت الحصر، أو ثبت في موضع ما ولم يطّرد؛ كان قصد تلك الحكمة ربما أسقط ما هو مقصود أيضا من شرع الحُكم)[29].
فهذا جانب من تحرير إمام المقاصديين يواريه كثير ممن تسوّر محرابه فقرأ كتابه الذي قال فيه: (ومن هنا لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد؛ حتى يكون ريّان من علم الشريعة، أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب، فإنه إن كان هكذا؛ خِيفَ عليه أن ينقلب عليه ما أُودع فيه فتنةً بالعَرَض، وإن كان حكمةً بالذَّات، والله الموفق للصواب)[30]، ثم خَلَفه أقزامٌ لبسوا ثيابه فعثروا بها، واتخذوا عباراته ذريعة للتنصل من النصوص، فصدق ظنه وصاب حدسه.
وليس المقام هنا تفصيل مسألة: «تأثير الحكمة في دلالة النص»، فإنها وإن وردت بها اجتهادات مقبولة في الجملة، فهي معلقة بقيود شديدة الإحكام، وضوابطَ عزيزة التحقيق، يعجز عنها كبار المتخصصين فضلا عن غيرهم، وما ذُكر يكفي اللبيب إشارةً إلى بُعد هذا المرمى ووعورة طريقه، وأن دونه مفاوز انقطع بها زاد أقوام من العلم، وأضلّ الهوى فيها آخرين، فهلكوا وأهلكوا أتباعهم، فالنجاة باللجأ إلى النصوص، والسلامة بالتسليم والاستسلام، وأما ما يخّيل إليك أنه الحكمة (فلا يُتجاسر به على كل تخصيص)[31].
اقرأ ايضًا: الحكمة من وجود الشر عند ابن القيم
[1] أخرجه البخاري (رقمه: 3364).
[2] أخرجه البخاري (رقمه: 321)، ومسلم (رقمه: 335).
[3] أي: بغير اللبس كالبيع ونحوه.
[4] أخرجه مسلم (رقمه: 2090).
[5] «شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل» لابن القيّم (2/ 195) دار عالم الفوائد 1440هـ .
[6] أي: مثل هذا ينبغي أن يكون دمه هدرًا.
[7] أخرجه البخاري (رقمه: 5758- 5759)، ومسلم (رقمه: 1682)، ووصفه النبي بإخوان الكهان لمشابهتِه لهم في تزيين الباطل بالسجع.
[8] أخرجه مسلم (رقمه: 1548).
[9] «مجموع فتاوى ابن تيمية» (32/ 233).
[10] أخرجه مسلم (رقمه: 510).
[11] أخرجه البخاري (رقمه: 3226)، ومسلم (رقمه: 2106).
[12] «منازل السائرين» لأبي إسماعيل الهروي (81)، دار الكتب العلمية 1408هـ .
[13] «مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين» لابن القيم (2711)، دار الصميعي 1428هـ .
[14] «شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل» لابن القيّم (2/ 229) دار عالم الفوائد 1440هـ .
[15] «صيد الخاطر» لابن الجوزي (666)، مدار الوطن 1437هـ .
[16] أخرجه البخاري (رقمه: 55)، ومسلم (رقمه: 1002).
[17] (لا يلوي على شيء) أي: لا يلتفت إليه ولا ينتظره ولا يتوقف عليه، والمراد هنا: لا يلتفت لغيرها.
[18] «الموافقات» للشاطبي (3/ 98) دار ابن عفان 1417هـ .
[19] «الموافقات» للشاطبي (3/ 99) دار ابن عفان 1417هـ .
[20] «الصارم المسلول على شاتم الرسول»، لابن تيمية (3/ 905)، دار رمادي 1417هـ .
[21] «البرهان»، للجويني (551)، تحقيق: د. عبد العظيم الديب 1399هـ .
[22] أي: رجع.
[23] «الموافقات» للشاطبي (3/ 410) دار ابن عفان 1417هـ .
[24] «الموافقات» للشاطبي (3/ 410) دار ابن عفان 1417هـ .
[25] أي: ملجأ.
[26] «الموافقات» للشاطبي (3/ 409) دار ابن عفان 1417هـ .
[27] «الموافقات» للشاطبي (3/ 410) دار ابن عفان 1417هـ .
[28] ولو عورض بحكمة محتملة تحققت في الصورة التي غابت عنها حكمته فلا يملك دفعها بعدم ورود الدليل عليها؛ لأنه في المقابل لا يملك دليلا على الحصر، فتعود المسألة إلى أصلها وهو النص.
[29] «الموافقات» للشاطبي (3/ 98) دار ابن عفان 1417هـ .
[30] «الموافقات» للشاطبي (1/ 124) دار ابن عفان 1417هـ .
[31] «شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل» لأبي حامد الغزّالي (85)، مطبعة الإرشاد 1390هـ.