عام

مسرحية الخدمة الاجتماعية

  • ابتهال باخطيب

لم يكن أبو الفنون وسيلة ترفيه عادية منذ بداية نشأته، فقد ارتبط أولاً بالطقوس الدينية في عصور الرومان والإغريق، وعلى مدار الزمن غدا منبرًا توعويًا هامًا، خصوصًا في فترات تفشي مظاهر الرأسمالية في العديد من أقطار العالم.

وبين هذه الأهمية وتلك، آمن البعض بأن الفنون الأدائية تفوق في أهميتها الترفيه والثقافة، وتتسع فوائدها لتشمل العلاج النفسي والاجتماعي، ومن هنا ظهر مفهوم السيكو دراما كأسلوب علاجي متخصص في تقويم السلوكيات وإعادة ترميم البناء المعرفي لدى الفرد.

نشأ هذا الأسلوب على يد الطبيب النفسي جاكوب ليفي وقد كان عاشقًا للمسرح وأراد الجمع ما بين المجالين، فتمخض هذا الدمج عن تجارب مسرحية نفسية واقعية ومرتجلة(1)، نقلت المسرح من التقليدية إلى العفوية كما أنها دعمت فكرة التعبير عن النفس وحرية الممثل عندما يؤدي دورًا غير دوره فيتخلص من قيوده أو ما كان يعتقد بأنها قيود تُعطل أدائه.

والحديث هنا ليس أسلوب السيكو دراما فحسب ولكن فكرة اللجوء للمسرح، من خلال مسرحة أساليب التدخل المهني في الخدمة الاجتماعية، كطريقة من طرق التدريس والتدريب ووسيلة عصرية للتسويق الاجتماعي للمهنة.

إن مفهوم مسرحه يعني ببساطة: تحويل المنهج النظري إلى صورة مرئية من خلال كتابة وتنفيذ نصوص مسرحية تعليمية، وينطوي على هذا التحويل العديد من الإيجابيات التي تصب رأسًا في صالح المهنة، وقبل حصرها والحديث عنها، أطرح على طاولة النقاش هذا التساؤل: أليست النصوص المنفذة تنطوي على جانب اجتماعي وهي انعكاس للواقع المُعاش؟

ألا يُعد وجود الخدمة الاجتماعية في المسرح، سواء بالتركيز على أسلوب السيكو دراما، أو بالمشاركة في كتابة وصياغة أعمال تناقش قضايا اجتماعية بالشكل السليم، بظهور شخصية الأخصائي الاجتماعي كبطل في العروض، تسويقًا اجتماعيًا مُبتكرًا وبعيدًا عن المباشرة والتقليدية، وخروجًا عن المألوف؟

بالطبع، ولنستشهد بالمسرحية التعليمية الأولى في ممارسة الخدمة الاجتماعية والتي قدمها الأخصائي الاجتماعي أ. طلال الأسمري في عام 2004، بمناسبة اللقاء المهني الثاني للخدمة الاجتماعية بالخدمات الطبية في وزارة الدفاع، وكانت تحكي عن الجانب المظلم في المهنة، مثل: الصعوبات التي يواجهها، ومحاولات الموازنة مع حياته الشخصية، بالإضافة إلى أسس ومبادئ المهنة و بعض الفنيات و الأدوات والأساليب العلاجية، إلى جانب عرض لبعض شخصيات العملاء التي يتعامل معها الأخصائي وفق مبدأ التقبل بشكل درامي شيق أشاد به الحضور، وقد أبرز الأسمري شخصية الاخصائي كبطل للنص، وهو بفعلته هذه أخرج الخدمة من دورها المساند و منحها البطولة.(2)

في هذا العرض لم يتقمص الأخصائي دورًا غير دوره كأي ممثل عادي، بل ظهر بشخصه ولخص في هذا العرض كتبًا، وبحوثًا ودراسات، تناولت أسس المهنة ومبادئها ونظريات الممارسة، اختصر كمًا هائلًا من المعلومات النظرية في ثلاث ساعات، فأثرى وأمتع.

وقد أشاد الحاضرون بهذا العمل، مؤيدين فكرة تحويل الكتب النظرية إلى مسرح تعليمي، حيث كتب طلال الناصر:” المنهج المسرحي تغيير جديد يدخل لأول مرة لمهنة الخدمة الاجتماعية وهذا المفهوم التقدمي يهدف إلى تطوير التعامل مع المشكلات من جانب وقائي وعلاجي وتنموي وقد يكون في المستقبل أحد طرق التأثير والتعليم الجديدة التي ترتكز على عنصر المشاركة”، وأضاف:” هناك ضرورة لربط الممارسة بالتعليم ومن هنا جاء التركيز على أهمية المسرح الذي يرتكز أساساً على عنصر الترفيه والتعلم الذاتي للحضور وردة الفعل المباشرة. (3)

بناء عليه يمكن القول بأن من أبرز معوقات عمل الأخصائي الاجتماعي، تتمثل في عدم تناسب بعض تقنيات وأساليب التدخل المهني في الخدمة الاجتماعية مع ما يشهده العالم من تطور، كما أن إعداده النظري في بعض الأحيان يقف حجرَ عثرة بينه وبين واقع الأداء المهني، مما يُقلل من فرص التفاعل مع العملاء، ويخلق عدم رضا لدى الأخصائي عن عمله، وأساليب التدخل العلاجي التي اعتمد عليها، كيف لا والعالم اليوم يشهد تطورات سريعة ومتلاحقة تستلزم حدوث تغييرات مقصودة ومباشرة في القطاعات المختلفة! ومن هنا تنبع أهمية التجديد في عرض هذه الأليات والفنيات، بما يتناسب مع الحراك الثقافي اليوم.

إن ممارسة الخدمة الاجتماعية هي فن قبل أي شيء آخر، والمعارف النظرية رهن الإشارة، لكن ما يُميز أخصائي عن آخر، هو الفنيات والأدوات المتبعة.

كيف يمكن أن يتحول هذا التراكم المعرفي لمهارات تتجدد باستمرار لتحقيق أهداف وأغراض المهنة؟

خلال سنوات انتقلنا بالطرق والأساليب العلاجية من العام للخاص، ومن الإسهاب إلى الاقتصار، عجلة التطور السريعة خلفت عملاء لا يملكون الوقت، وعميل اليوم تأثر بالثورة التكنولوجية وأصبح رقميًا، فهو دائم البحث عن حلول واستشارات هنا وهناك، عند مغردين أو باتباع نمط حياة مؤثر.

بوجود الخدمة الاجتماعية على خشبة المسرح، بإعادة صياغة هذه المعارف، والمداخل العلاجية، والمبادئ، على هيئة مشاهد بصرية للطلبة، ما هو إلا دلالة رسمية بتجدد المهنة وتأكيد على خصائصها الديناميكية.

كما أنه سيكون وسيلة مبتكرة للتسويق الاجتماعي لمهنة الخدمة الاجتماعية خارج إطار المهتمين بها، في حال تم عرض هذه المشاهد وفق تسلسل درامي بديع وعرضها على مستوى أكبر ولأغراض أخرى غير التدريس والتدريب.

بالإضافة إلى تعزيز مكانة الخدمة الاجتماعية كمهنة إنسانية هدفها الإنسان، ومنها وإليها تتقاطع طرق التخصصات، مما يفتح أمامها آفاق أكبر و يُخرجها من حيز التعليم و الصحة، إلى كافة قطاعات ومجالات العمل في الدولة، ويمهد الطريق نحو الهدف الرئيسي للمشتغلين بها والمُنادين به منذ زمن وهو: حمايتها من المتسللين إليها من مجالات أخرى، ومن أجل ذلك تعمل العديد من الجهات على قدم وساق لتحقيق هذا الهدف مع صناع القرار، على أمل أن تتمخض عن جهودهم تشريعات قانونية تُجنب الإنسان مضار الغير متخصصين في الإرشاد الاجتماعي، ويتم استصدار تراخيص مزاولة مهنية رسمية مقننة ومشروطة بمعايير، تحت شعار(الإنسان قابل للكسر) ومن يتعامل معه يجب أن يعي خطورة هذا الأمر وحساسيته.

ناهيك عن خصوصية المشكلات والظواهر الإنسانية التي نتعامل معها، خصائص العملاء واختلاف شخصياتهم، ردود أفعالهم، وعدم ثبات مزاجهم، والذي جعل من ثبات نظريات الممارسة أمرًا مستحيلاً، وخاضعًا لظروف الموقف العلاجي، هذا الكم من الأحداث يُعد مادة دسمة للحديث عنها، بعيدًا عن الإطار العلمي والقوالب المجردة، نحتاج للمسرح لعرض الجانب العاطفي والانفعالي من المشكلات الإنسانية وردود الفعل البشري، إذ يتوجب علينا كممارسين لهذه المهنة أن نقف، ثم نحول مسارها نحو وجهة مختلفة، ليست مخاطرة بل ضرورة فرضتها علينا آليات التحول الرقمي، وعصر الصورة، طالب اليوم مختلف عن سابقه ويمتلك قدرات ومواهب تقنية ويتفاعل بطرق حسية متكاملة، لم تعد العلاقة بينه وبين أي مصدر للتعلم تقليدية، بل بات يبحث عن التفاصيل ويتعلم بالصور والتقنيات الحديثة، كما أنه واعٍ، مثقف، وشغوف بكل جديد ويمتلك حسًا فنيًا رفيعًا.

ولجميع ما سبق نحن اليوم بأمس الحاجة إلى الدراما لمعالجة القضايا الاجتماعية، كطريقة حديثة أو مدخل يتكامل مع الطرق المتاحة والاتجاهات المعاصرة في الخدمة الاجتماعية، ونحتاج إلى المسرح كأداة لتحقيق الأهداف المأمول بها، إلى جانب إضفاء صبغة عصرية على المهنة.


المراجع:

(1) جويرية بريطل (2017). السيكو دراما (المسرحية النفسية) Psychodrama. مسترد من الباحثون الجزائريون

(2) سليمان الزعير (2005، 21 فبراير). العميد طبيب الصليفيح افتتح لقاء «ممارسة مهارات البرمجة اللغوية العصبية. جريدة الرياض،13391. مسترد من جريدة الرياض

(3) طلال الناصر (2004، 15 يناير). المسرحية التعليمية الأولى في الثقافة المهنية لممارسة الخدمة الاجتماعية. مسترد من منتدى مجلة العلوم الإجتماعية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى