- د. سعد الشمري
في أوقات الرخاء والغنى والثراء لا يرضى الناس إلا بالنَّخب الأول من الأطعمة والأشربة والألبسة وبقية شؤون حياتهم، أما في أو قات الجوع والمسغبة، فيرضيهم ما يسد الرمق، ويستر العورة، وكل ما يبقيهم على قيد الحياة، حتى لو كان ذلك نخباً ثانياً أو ثالثاً أو دونهما مما يتوفر، ويكون ذلك نافعاً لهم، بل ضرورياً لبقائهم.
وكذلك الأمر في المعنويات، ففي أوقات الرخاء لا يلتفت الناس إلا إلى الأعلم والأفصح والأكثر تأثيراً من النخب الأول، ولا يكون ثمت احتياج كبير إلى من دونهم من النخب الثاني، أما في أوقات احتياج الناس للضروري من العلم، والمحكم من الوحي، كما هو الحال في أزمنة الفتن، فحينها يتعين البلاغ على كل من حمل أثارة من علم ليبلغه لغيره، فالبلاغ ونقل العلم من أيسر الأعمال، ولذا أمر الله به المسلمين كافة – حتى لو لم يكونوا من أهل العلم- كما قال عليه الصلاة والسلام: (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حامِل فِقْهٍ إلى مَن هُوَ أفْقَهُ مِنهُ ورُبَّ حامِل فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ) رواه الترمذي، وقوله صلى الله عليه وسلم (بَلِّغُوا عَنِّي ولو آيَةً) رواه البخاري، فإذا كان هذا في بلاغ العامة، فالمسؤولية على طلاب العلم والدعاة أجل وأعظم، فدورهم أعظم من البلاغ المجرد، فهم ورثة الأنبياء، فمقامهم مقام التعليم والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إبراءً للذمة، ونشراً العلم، ونصرة للحق.
فمن الخطأ والخذلان أن لا تستشعر بقية الصفوف أنها في ورثت مسؤوليات الصف الأول عند انكشاف مكانه في المعركة، إما لأنها لم تُهيأ لذلك أثناء زمن وفرة الصف الأول، أو لأنها اعتادت الدعة، وألفت الظل، واستكانة للرخاء.
ومن نظر إلى نصوص الوحي من كلام الله سبحانه، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وجد أن مشاركة بقية الصفوف مع وجود نُخَب الصف الأول ظاهرة متوافرة في خبر الأنبياء عليهم السلام، وسيرة رسولنا عليه الصلاة والسلام ومن ذلك؛ مبادرات أتباع الأنبياء مع وجود صفوة الخلق عليهم السلام، كمؤمن آل فرعون، فيما أخبر الله عنه في قوله تعالى: ﴿وقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِن آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمانَهُ أتَقْتُلُونَ رَجُلًا أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾ (غافر: ٢٨)، فقد ناصر موسى عليه السلام في وجه أعدى أعداء الرسل، وكذلك صاحب آل ياسين في قوله تعالى: ﴿وجاءَ مِن أقْصى المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى﴾ [يس:٢٠] الذي ألقى تلك الخطبة العظيمة دفاعاً عن رسل الله عليهم السلام، ونصرة لهم حينما كُذبوا من قومهم، ومن اللطيف في خبر هذين الرجلين أن أسماءهما لا تعرف، تعظيماً لهذا الموقف، وإشارة إلى أنهم لم يكونوا من المعروفين لدى الناس في ذلك الزمن.
ومبادرات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع وجود خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، المسدد بالوحي، المؤيد بالملائكة، ومع هذا يجد نعيم بن مسعود وسلمان الفارسي مساحة للقيام بدور عظيم كان سبباً في تغيير موازين معركة الأحزاب بعد توفيق الله سبحانه، إذ لم يكتفوا بانتظار الأوامر، أو انتظار خلو ميدان المعركة من الصفوف الأولى من السابقين الأولين.
وهذا التمكين المبكر لتلكم الصفوف ظهر أثره على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فما أن نفضوا أيديهم من دفنه عليه الصلاة والسلام حتى اتخذ كل منهم موقعه في العلم والفتوحات والخلافة وغيرها من مقامات التعبد التي أقامهم الله فيها، فقد تربوا على تحمل المسؤولية مع وجود سيد أصفياء الله ورسله صلى الله عليه وسلم.
فقد علموا أن طابور الانتظار لا يليق بأتباع الأنبياء عليهم السلام، فهو طابور ممل طويل، والعمر أقصر منه بكثير، قال سبحانه: ﴿وسارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ﴾[ال عمران:133]، وقال سبحانه ﴿والسّابِقُونَ السّابِقُونَ﴾ [الواقعة:١٠]، وقال عز وجل ﴿سابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ وجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ والأرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ [الحديد:٢١].
اقرأ ايضًا: انقشاع الخوف بشهود المعية