- مارتن بودري
- ترجمة: خالد تركي آل تركي
- تحرير: بلال الخصاونة
ما الذي نتحدث عنه عندما نتحدث عن العلموية؟ يظن معظم الأشخاص عند سماعهم لهذا المصطلح أنه شيء سيء، أو خطيئة معرفية، أو مأساة يجب علينا تجنبها بأي ثمن. هذا بالفعل هو الاستخدام الأكثر شيوعاً للمصطلح. يتلخص جوهر تعريف هذا المصطلح في فكرة أن العلم يتجاوز حدوده، ويتجاوز نطاقه الصحيح، ويحتل بشكل غير شرعي مجالات البحث الأخرى. من ناحية أخری، اعتمد بعض الناس هذه المصطلح أيضاً کوسام شرف على الرغم من دلالاته السلبية. يعلن فلاسفة مثل أليكس روزنبرج ودون روس الآن بفخر أنهم من دعاة “العلموية”. يعتقد هؤلاء الفلاسفة عموماً أن العلم التجريبي يُشكِّل الرؤية الكونية الأكثر موثوقية أو الجزء الأكثر قيمة من معلومات الإنسان، والذي بدوره يستبعد وجهات النظر الأخرى، بمعنى أنه لا توجد طرق أخرى للمعرفة سوی العلم. كانت مسألة العلموية ونطاق العلم موضوعًا حررته في عام 2018 بالاشتراك مع “ماسيمو بيلوتشي”. يحتوي الكتاب على مساهمات من قبل مناصري العلموية وأعدائها، ويحاول الإجابة على سؤال: ما هو النطاق الصحيح للعلم؛ إن وجد؟
في مقدمتنا لكتاب “هل العلم مطلق؟” قمنا بتحديد طريقتين لتعريف “العلموية”:
- تعريف العلموية ككلمة مسيئة مثل مصطلح “العلوم الزائفة” (تعریف ازدرائي). العلموية هنا سيئة من حيث التعريف، ليصبح السؤال المناسب الذي يجب طرحه هو: ما الذي يمكن أن يوصف بأنه “علموي”؟ وهل هو مصطلح مفيد؟ وهل يوجد في مجتمعنا الحديث أي شيء يلائم هذا الوصف؟
- تعريفها كموقف فلسفي عادي تجاه نطاق وصلاحيات العلوم (تعريف محايد)، ليصبح السؤال المناسب الذي يجب طرحه هو: هل هذا الرأي قابل للدفاع عنه أم لا؟ وهل هناك حجج قوية لصالحه؟
لقد قرأت الشهر الماضي مقالة جديدة في موقع “metaphilosophy” تدافع عن العلموية باتباع الاستراتيجية الثانية التي ذكرناها آنفاً.
يدافع المؤلفون الفنلنديون المعروفون باسم “دائرة هلسنكي”، عن تعريف محايد للعلموية، حيث يحاولون التمييز بين أربعة مواقف مختلفة في الحديث عن العلموية، تنبع المواقف الأربعة من خيارين بسيطين: إما أن تتبنَّى تعريفاً ضيقًا أو واسعًا للعلم، وإما أن تؤمن بأن العلم هو المصدر الوحيد الصالح للمعرفة، أو إذا دققنا: هو أفضل مصدر متاح.
ونظراً لأن العلموية في الغالب يتم استخدامها كفزّاعة من قبل منتقديها؛ فقد انصب معظم النقد على النسخة الأكثر راديكالية من العلموية، والتي تنص على أن العلوم الطبيعية هي الشكل الوحيد الصالح للمعرفة، وهذه وجهة نظر راديكالية جداً من شأنها أن توحي بأن كل العلوم الإنسانية والاجتماعية مجرد هراء. أعتقد أن هذه النسخة من العلموية من السهل نسبياً الإطاحة بها، لكن في الواقع لا أحد تقريباً يتبناها، باستثناء الفيلسوف أليكس روزنبرج.
أراد المؤلفون لفت الانتباه إلى المواقف الثلاثة الأخرى من “العلموية”، والتي يمكن الدفاع عنها بشكل أكبر بالإضافة إلى وجاهتها في بقية الورقة، ناقش المؤلفون كيف تقع التفسيرات المختلفة للعلموية تحت إطار عنصرين من النقد: (أ) أن العلموية مآلها الدحض الذاتي؛ لأن الأطروحة نفسها لا يمكن إثباتها بالوسائل العلمية (ب) أن العلم يعتمد أحياناً على مصادر معرفة غير علمية، مثل الافتراضات الميتافيزيقية أو البيانات التي نستمدها من حواسنا.
مغالطة التأسيسية
هنا أريد أن أركز على العنصر الثاني: هل العلم يفترض مسبقاً وجود عالم خارجي، أو قوانین وقوی منظمة، أو قوى طبيعية وفقاً للفلسفة الطبيعانية أو المذهب الطبيعي-الفكرة أو المعتقد الذي يشير إلى أن القوانين والقوى الطبيعية هي الوحيدة العاملة في العالم- أو أي مفاهيم ميتافيزيقية أخرى؟ لا، هذه مجرد فرضيات إجرائية يتم اختبارها بينما نمضي قدما، وقد يتضح أنها خاطئة من بعض النواحي، لكننا استفدنا منها بشكل جيد حتى الآن. لقد ناقشت هذا الموقف بإسهاب، في ورقة بحثية مع طبيب الأعصاب “یون فیشمان”، وفي وقت سابق مع زملائي في جينت، ولكن إليكم مساهمة دائرة هلسنكي في تفنيد القضية:
“لا يتعين على المرء أن يفترض أن العلم يمكنه شق طريقنا لمعرفة العالم الخارجي بالكامل، يمكن للعلم فقط أن يفترض إمكانية تحقيق قدر ما من المعرفة. لأغراضٍ عملية ستنص هذه الفرضية على أن هناك بعض أوجه الانتظام التي يمكن ملاحظتها فقط، يمكن اختبار هذه الفرضية بالوسائل العلمية محاولين الحصول على المعرفة التجريبية. إذا كان من المستحيل تحقيق هذه المعرفة التجريبية، فإن الجهود ستذهب سدى، لكن الرغبة في وجود شيء ما ليست مثل الاعتقاد بوجود هذا الشيء”.
ثانياً، هل حقيقة أن العلماء يعتمدون على حواسهم في استقاء بعض البيانات یدحض فكرة العلموية؟ لا، إذا كان ذلك يُشكِّل حداً للعلم، فإن مسألة العلموية تصبح اختزالًا مُخِلًا. بالطبع يعتمد العلم على البيانات المُكتسبَة من خلال حواسنا البشرية في الواقع، لا يمكن أن تخرج الفكرة إلى أرض الواقع بدون هذه الحواس. لكن الجدير بالذكر أنه وبينما نمضي قدمًا، يتم تصحيح وصقل هذه المعلومات الحسية. صاغ العلم جميع أنواع الضمانات والضوابط المنهجية؛ بغية التعويض عن جوانب التحيّز، ونقاط الضعف في الإدراك البشري، والتي تم اكتشافها بدورها من خلال البحث. على سبيل المثال، اعتمدنا بروتوكول البحث المعتمد على إخفاء هوية الطرفين في مجال البحث الطبي (أي عدم معرفة المرضى والأطباء بهويات المجموعات المشاركة في الدراسة لحين الانتهاء منها) بمجرد أن اكتشفنا الانحياز التأكيدي -ميل الفرد للبحث عن وتفسير وتذكر المعلومات بطريقة تتوافق مع معتقداته وافتراضاته السابقة- وتأثير الدواء الوهمي.
تعتبر كل هذه النقاشات حول كون العلم قائما على بعض الافتراضات أو مصادر المعرفة غير العلمية مدانة بما أسميه “المغالطة التأسيسية”. يُعتبر من الخطأ الاعتقاد بأن المعرفة شيء يجب أن يستند إلى أساس متين، وأن هذا الأساس يجب أن يكون سليمًا تمامًا، وإلا فسوف ينهار الصّرح بأكمله، لكن هذه الاستعارة عن المعرفة الإنسانية تعتبر خاطئة بشدة، وهي تؤدي حتما إلى انتكاسٍ لا نهائي، مهما كان الأساس النهائي الذي توصلتَ إليه، يمكنك دائما طرح السؤال: ما الذي يقوم عليه هذا الأساس؟ لا يمكن أن يكون واضحًا بنفسه، أو جاء من لا شيء هكذا. يذكرنا هذا بأحد اعتقادات علم الكونيات الهندوسي القديم الذي يقترح أننا نعيش على أرض مسطحة تدعمها أربعة فيلة كبيرة، متينة جداً، ولكن على ماذا تقف الفيلة؟ على ظهر سلحفاة عملاقة، وتلك السلحفاة؟ على ظهر سلحفاة أكبر، ولذا فالأساس عبارة عن سلاحف إلى ما لا نهاية.[1]
أفضل تشبيه للمعرفة البشرية هو تشبيهها بشبكة كبيرة بها العديد من الخيوط المترابطة التي تدعم بعضها البعض، كلما زاد عدد الروابط زادت مصداقية المعرفة التي توصلنا إليها. تشبِّه الفيلسوفة سوزان هاك العلم بحل لغز كلمات متقاطعة، حيث تتقاطع الإجابات الرأسية والأفقية وتدعم بعضها البعض، بطبيعة الحال إذا كنت تريد حل مثل هذا اللغز، عليك أن تبدأ من مكان ما، لكن هذا لا يعني أن إجابتك الأولى ستكون هي أساس جميع الإجابات الأخرى. في الواقع، يمكنك أن تبدأ من أي مكان، لكن إذا كنت ذكيا، فابدأ بقلم رصاص أولاً، وكأنها مسودة الإجابات المبدئية، ثم لاحقا عندما تكون واثقا قم باستخدام القلم الحبر. إذا كنت في مازق ما، فيمكنك دائما التراجع ومحو بعض الإجابات. كما كتب المؤلفون، فإن المعرفة ليست قضية كل شيء أو لا شيء، أسود أو أبيض، على الرغم من أن هذا اعتقاد معظم منتقدي العلموية:
“يهتم العلم بتحديد وتمييز الممارسات والأساليب والتجارب والأدوات وأشكال الاستدلال وما إلى ذلك، سواء الناجحة منها أو غير الناجحة، يسعى العلم إلى صقل الوسائل والأساليب الناجحة، والتخلص من الوسائل غير الناجحة، بعبارة أخرى، الأفكار “ذات الجودة المعرفية الضئيلة جدا” يمكن صقلها لتصبح ذات جودة معرفية عالية، ومن ثم فإن منطق “كل شيء أو لا شيء” الذي يؤمن به منتقدو العلموية لا يستند إلى أي أساس”.
الانتهازية الإبستمولوجية
انصب اهتمامي بهذه الورقة عبر مفهوم المؤلِّفَين حول ما يمكن تسميته “الانتهازية المعرفية” في العلم، وهي الفكرة التي تقترح بأن العلم ليس له قواعد أو أساليب محددة مسبقا، ولكنه على العكس من ذلك يتمتع بالمرونة اللازمة ليشمل أي طريقة أو فكرة تثبت صحتها. أوافق على أن العلم يتعامل مع أي طريقة ناجحة وصحيحة، ولكن عند نقطة معينة، قد يهدد هذا بابتذال أطروحة “العلموية”. لنفترض أننا اكتشفنا غداً أن قراءة أوراق الشاي (التاسيوغرافي: قراءة البخت أو الكهانة التي تفسر الأنماط في أوراق الشاي أو رواسب القهوة و النبيذ) نجحت حقا وقدمت تنبؤات موثوقة حول الأحداث المستقبلية، سوف ينتبه العلماء بالتأكيد ويحاولون معرفة ما الذي يجري، ربما يبدأ علماء الأرصاد الجوية بدمج أوراق الشاي في طرق استطلاع الأحوال الجوية، لكن بالطبع سيكون هذا خروجا جذريا عن الممارسات العلمية كما نعرفه، وسيتطلب إصلاحا شاملا لرؤيتنا للعالم من منظور العلم،سيكون من السخافة أن نقول: أن “العلموية لا تزال صحيحة لأن قراءة أوراق الشاي جزء من العلم الآن!”.
لجعل العلموية أطروحة مثيرة للاهتمام وغیر ضحلة، أعتقد أننا بحاجة إلى إضافة فكرة الاستمرارية المنهجية والتي تعني أن جميع طرق المعرفة مستمرة بالإضافة إلى الطرق الخاصة بالعلوم، و تشكِّل جميع هذه الطرق شبكة واحدة متماسكة، باختصار، لا توجد طرق أخرى للمعرفة سوى تلك الطرق المستخدمة في العلم (الملاحظة التجريبية، والاستدلالات المنطقية والإحصائية المختلفة). بالطبع، لا يزال بإمكانك التمييز بين العلم بالطابع المؤسسي وأشكال البحث الأخرى، على سبيل المثال، يوجد شكل من أشكال اكتساب المعرفة في حياتنا اليومية وهو محاولة السبّاك تحديد مكان التسرب. سيكون من الغريب إلى حد ما وصف السبّاك هنا “بالعالم”، لكن هذا لا يعني أنه يتبع “طريقة أخرى للمعرفة”. إذا كان سبّاكًا جيدًا، فسيعتمد على نفس الأساليب وأنماط الاستدلال الموجودة لدى العالم: تدوين الملاحظات، واختبار الفرضيات المختلفة، واستخدام الاستدلالات المنطقية، وما إلى ذلك. غنيٌّ عن القول أن المعلومات الأساسية التي يستخدمها السبّاك مرتبطة أيضا بالمعرفة العلمية المناسبة، على سبيل المثال المعرفة المرتبطة بديناميكيات السوائل، لكن الاختلاف الرئيسي هو أن السبّاك يعمل على مشكلة عارضة، وبسيطة بما يكفي لكي يعالجها بمفرده، ومحدودة بما يكفي حيث لا تهتم بها المجلات الأكاديمية!
على الجانب الآخر، من الممكن أن تكون الطريقة المختلفة للمعرفة في هذا المثال هي استخدام السبّاك العصا أو بلّورات سحرية لتحديد موقع التسرُّب، تختلف هذه الأساليب اختلافا جذريا عن تلك المستخدمة في العلوم؛ ولهذا ليس من قبيل الصدفة كونها محض هراء.
باختصار، تعريف “العلموية” الذي سأؤيده هو ما يلي: لاتوجد طرق أخرى للمعرفة سوى الطرق المستخدمة في العلوم(بمفهومها الواسع، بما في ذلك التاريخ والعلوم الإنسانية). جميع طرق المعرفة مستمرة بالإضافة إلى الطرق الخاصة بالعلوم، و تشكل جميع هذه الطرق شبكة واحدة متماسكة، وتعتمد إلى حد كبير على نفس الأساليب وأنماط الاستدلال. من ناحية أخرى، إذا قدم لنا شخص ما طريقة منفصلة تماما عن تلك المستخدمة في العلوم، مثل الحدس الشخصي أو الوحي أو قراءة أوراق الشاي (الكهانة)، فيمكننا أن نقول أن هذه الطريقة محض هراء. كما أوردت في كتابي:
إذا كانت الأسئلة التي يطرحها الواقع قابلة للإجابة في المطلق، فيمكن الإجابة عنها باستخدام طرق علمية؛ لكن إذا أصبحت بعض المشاريع المعرفية منفصلة عن العلم، وبالتالي عن بقية شبكة المعرفة التي يرتبط بها العلم، فإن ذلك لا يبشر بالخير لهذا المشروع (على سبيل المثال، علم اللاهوت، الميتافيزيقيا، التحليلية، الظاهراتية).
اقرأ ايضاً: العلموية ونقادها
[1] يتبنى المؤلف هنا رأيًا حول مسألة تبرير المعرفة، السؤال هو: ما الذي يبرر معرفة ما؟ لدى الإبستمولوجيين ثلاثة إجابات: الأولى هي أنه لا وجود لأسس معينة يجب أن تستند إليها معارفنا لتصبح مبررة، ويعرف هذا الاتجاه بـ “اللامحدودية”؛ الثانية: الترابطية المنطقية، ويرى أصحاب هذا القول أن شبكة من الاعتقادات يتوافر فيها سمة الترابط المنطقي كافية لتبرير المعرفة، وهو الاتجاه الذي دعمه كواين وظاهر كلام المؤلف؛ الثالثة: هي التأسيسية، أي الاتجاه القائل بأن المعارف يجب أن تنتهي إلى أسس إذا توافرت فيها سمات معينة يمكنها أن تبرر المعرفة، هذه السمات مثل: التبرير الذاتي، عدم قبولها للشك، وغيرها من السمات، وللتأسيسية صور مختلفة، ويُنسب هذا الاتجاه إلى ديكارت. وعامة هذه الاتجاهات عليها اعتراضات مبسوطة في مراجع نظرية المعرفة. -الإشراف.