العلم

المدارس: للتنوير أم لعيد التعميد؟

(ستيف فولر وحق نظرية التصميم الذكي في المنافسة)

  • ستيف فولر*
  • ترجمة: العنود عبدالعزيز
  • تحرير: غادة الزويد

هل إعطاء الدين دوراً كبيراً في عملية التعليم، يعني السماح بتسرّب اللاعقلانية والتعصب إلى المناهج الدراسية؟

يحدّثنا ستيف فولر في هذا المقال أن نظرية التصميم الذكي تُظهر كيف كان الكتاب المقدس دافعًا قويًا للعلم.

على مدار العقدين الماضيين، كانت نظرية التصميم الذكي (IDT) تصارع من أجل أن تحظى بموضع في مناهج علم الأحياء في المدارس الثانوية الأمريكية جنبًا إلى جنب مع الداروينية الجديدة.

 إن نظرية التصميم الذكي تضع الطلاب في موضع يتعاملون فيه مع العلم كما لو أنهم يحاولون الدخول إلى “عقل الإله”؛ إنها أكثر من مجرد نزوة أمريكية عززتها عودة ظهور الأصولية المسيحية والإسلامية في جميع أنحاء العالم.

تصر المجتمعات العلمانية اليوم على الفصل بين العلم والدين، وهو ما يعتبره العديد من المفكرين المؤمنين فصلاً تعسفيًا وقمعيًا.

من وجهة نظر خصومها: تعد نظرية التصميم الذكي محاولةً مستترة لعكس التقدم العلمي من خلال إعادة تقديم التعاليم المستوحاة من الكتاب المقدس في قالب علمي؛ وهذا بحد ذاته يشكل صدمة

للادعاء القائل بأن الكتاب المقدس كان بشكل أساسي رادعًا للعلم؛ لكن هذا الافتراض خاطئ، فقد وفر الكتاب المقدس حافزا قويًا للخيال العلمي.

تعتبر كلمة “الحدس المهني” heuristics من العناصر الأساسية في علم نفس الإبداع العلمي، وتشير إلى العقلية التي تسهّل حل المشكلات عن طريق التجارب والخبرة التقنية، وأن الشخص الذي صاغ مصطلح “الحدس المهني” وصاغ أيضًا مسمى “عالم” scientist -كعَلَم- على مهنة متخصصة هو: ويليام يويل، حاصل على ماجستير في كلية ترينيتي بكامبريدج، والذي كان في نفس الوقت عالم لاهوت طبيعي معروف في منتصف القرن التاسع عشر.

بالنسبة لويلي، أحد أبرز الأدلة من التعاليم الكتابية على أن الكتاب المقدس هو دليل إرشادي يحث على العلم معناه: أن البشر خلقوا على صورة الله ومثاله.[1]

يمكننا توكيد هذا الادعاء بطريقتين:

الأولى: عن طريق التأكيد على أوجه التشابه.

والثانية: التأكيد على الاختلافات بين الإنسان والإله.

بمعنى: هل نحن مبتدئون أم متمرسون في دراسة الإبداع والخلق؟ ينطلق المبتدئون في استدلالهم من أسباب مفترضة إلى تأثيراتها المعقولة، بينما المتمرسون يحاولون استنتاج الأسباب من مسبباتها ونتائجها الظاهرة.

الأول يُعد استدلالا بالتصميم، بينما الأخير استدلال على التصميم. الأول يغذي الطموح، بينما الثاني يشجع على التواضع إزاء ما يكشف عنه من غموض.

توضح هذه القراءة المزدوجة للادعاء الكتابي الفرق بين موقفي إسحاق نيوتن وتشارلز داروين. قدم نيوتن فيزياءه الرياضية على أنها الشفرة التي كتب بها الإله الكتاب المقدس؛ ومن الواضح أنه كان يعتقد أنه كشف عن إرادة الله من خلال دراسة آثارها. في المقابل، اتبع داروين النظرة الأكثر تواضعًا من رواية ويليام بيلي والتي رأى فيها هذا الأخير نظام الطبيعة أشبه بساعة مُتقنة الصنع وُجِدت على شاطئ، مما يعني وجود صانع لها. ولسوء الحظ، كشف السجل الأحفوري لداروين عن الكثير من “أنصاف” الساعات المكسورة، ولا شيء من هذا يمكن أن يكون صنعة إله جدير باحترام الإنسان، بقي داروين متواضعا حيال نظرته للطبيعة، أما إيمانه فكان قد اختفى.

في الثقافة العلمانية الحالية، تُرَوج أطروحة داروين -كرمز علمي- بسهولة أكبر من نظيرتها لدى نيوتن، على الرغم من أن نيوتن لا يزال بلا شك من أعظم العقول العلمية.

يحتوي المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي على معرض مخصص لحياة داروين يتضمن إعادة بناء منزله؛ وهذا ليس مفاجئا، لأن سيرة داروين تعكس صورة لائقة سياسياً للمسيحي الذي تخلى عن إيمانه بعدما أوغل في البحث العلمي؛ لكن من غير المحتمل أن نرى معرضًا مشابهًا لنيوتن لأن حياته تقول باختصار: “أن الكتاب المقدس يمكن أن يوفر طريقًا أكيدًا لعلم عظيم”

تكمن القيمة الاستكشافية لإدخال نظرية التصميم الذكي في تعليم العلوم في أنها قراءة غير حرفية للكتاب المقدس استطاعت أن توحد نيوتن والثوار العلميين الآخرين في القرن السابع عشر، ولكن عارضتها الكنيسة الكاثوليكية باستمرار.

اعتقد هؤلاء (البروتستانت) أن الكتاب المقدس خاطب المؤمنين بشكل مباشر وفردي كلٌ على حدة، دون وساطة من السلطة الكهنوتية. وهكذا، قرأ نيوتن الكتاب المقدس على أنه تحدٍ فكري شخصي يعكس “الهندسة الإلهية” في الكون؛ وكانت النتيجة هي أقوى رؤية للعلم ألا وهي: النظرة الميكانيكية للعالم.

في الوقت الحاضر، توجه سهام النقد إلى المقاربات الميكانيكية للطبيعة بسبب المبالغة في تبسيط العمليات العضوية المعقدة؛ بل كانت في الأصل نظرة هدّامة مسرفة في التبسيط؛ لأنها لم ترى في الإله سوى ميكانيكي كبير، وليس قوة فعالة مبهمة.

وهكذا لا يعدو علم الأحياء كونه تكنولوجيا إلهية؛ فالحيوانات -بما في ذلك البشر- هي نتاج “الحيلة الهندسية” تماما مثل آلاتنا. حتى وصل الأمر بأنصار النظرة الميكانيكية إلى توقع أن يسمح لنا التقدم التكنولوجي بفهم أسرار الحياة عن طريق تحفيز قدرتنا على محاكاة فعل الله.

عند تحديث النظرة الميكانيكية للعالم، فإن التصميم الذكي لن يبدوَ نظرية لنشأة الحياة تنافس نظيرتها لدى داروين، بقدر ما ستكون نظرية أكثر طموحًا لفهم (التصميم) بمعناه الأعم، غير مبالية بالتمييز بين الكائنات الحية والأشياء غير الحية. يساعد هذا التحول في توجيه الاهتمام العلمي على تفسير أنماط التفكير الفريدة التي تستحثها نظرية التصميم الذكي؛ فلماذا استطاع عالم الكيمياء الحيوية مايكل بيهي -مثلا- أن يتنقل بسهولة بين النظر في تصميم مصائد الفئران وتصميم الخلايا الحية؟

على عكس الروايات الشائعة، لم يقدم داروين مطلقًا تفسيرًا آليًا للتطور؛ لأنه كان يفتقر لنظرية موثوقة في علم الوراثة. وبحلول الوقت الذي بلغ فيه “أصل الأنواع” عيد ميلاده الخمسين في عام 1909، كانت نظرية داروين نفسها على وشك الانقراض، وكان أقصى ما يمكنها أن تقدمه لنا تحديدا هو بعض “قصص” التكيف لتفسير تغير الأنواع. ومع ذلك، فقد أُنقذت الداروينية من خلال إعادة اكتشاف عمل جريجور مندل، وهو راهب كاثوليكي كان هدف بياناته الإحصائية للوراثة التقاط مجموعة من السمات التي أراد الله وجودها في نوع معين. فيما بعد، مكنت هذه المعرفة البشر من توسيع سيطرتهم على الطبيعة -عن طريق الزراعة- وبالتالي إكمال الخطة الإلهية.

لكن سرعان ما فقد تاريخ علم الوراثة (genetics) دلالاته اللاهوتية، على الرغم من احتفاظه باسمه المستمد من سفر التكوين (Genesis). ومع ذلك، إذا تم التعامل مع تاريخ علم الوراثة على أنه مفصول عن تاريخ الداروينية الجديدة، فإن أطروحة “تمثيل دور الإله  playing god” ستصبح أكثر وضوحًا خلال القرن العشرين، خاصة مع التقدم في البيولوجيا الجزيئية والتكنولوجيا الحيوية. لطالما حرص علماء الوراثة على تسريع عمليات التطور من خلال إجراء تجارب على أنواع مثل ذبابة الفاكهة، والتي قد تسمح أنماطها التكاثرية برؤية التغييرات التي تستغرق مليارات السنين خلال الأيام الستة المنصوص عليها في سفر التكوين.

لا شك أن نظرية التصميم الذكي انتفعت كثيرًا بنقاط الضعف التجريبية في الداروينية الجديدة، كما لو لم يكن لديها رؤية علمية إيجابية خاصة بها؛ فيبدو الله وكأنه فقط “إله فجوات” يكتنفه الغموض، أكثر من كونه خالقا مبدعا نتطلع إلى الاقتداء بنموذجه؛ لكن هذه الرؤية الأخيرة تشكل تحديًا خطيرًا لارتداد داروين عن الدين.


  • ستيف فولر: أستاذ علم الاجتماع وأحد مؤسسي الابستمولوجيا الاجتماعية. كان فولر أحد الخبراء المُستدعَين للشهادة في قضية بنسيلفانيا حول إدخال التصميم الذكي في التعليم.

[1] – روى البخاري (6227) من حديث أبي هريرة (خلق الله آدم على صورته). – الإشراف.

المصدر
timeshighereducation

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى