- حامد دبشي
- ترجمة: مصطفى هندي
- تحرير: عبدالله الفهد
- اسم الكتاب: نشأة الإنسانيات عند المسلمين وفي الغرب المسيحي
- المؤلف: جورج مقدسي؛ صدرت الترجمة العربية عن مركز مدارات، ترجمة د. أحمد العدوي.
- سنة النشر: 1990؛ الترجمة العربية: 2021.
- عدد الصفحات: 430
إذا كان لنا أن نطلق لقبًا على جورج مقدسي، فسأختار لقب “محطم الأساطير”، لكنه في هذا الكتاب يواجه أسطورة ضخمة، إنها الأقوى من نوعها في عصرنا، إنها أسطورة “الغرب”. لقد سخّر مقدسي سعة اطّلاعه الهائلة، وأقوى أدواته المعرفية لمواجهة هذه الأسطورة، حتى أنّ هذه المواجهة لتذكرنا بمواجهة داود وجالوت.
في كتابيه المتتاليين “نشأة الكليات: معاهد العلم في الإسلام والغرب” (إدنبرة ، 1981)، و “نشأة الإنسانيات عند المسلمين وفي الغرب المسيحي”، لم يألُ مقدسي جهدًا في توثيق مصادر أعظم ما تحتفي به الحضارة “الغربية” وأحظى ما تعتز بإنجازه: التقليد المدرسي والإنسانيات، وإرجاعها إلى أصولها الإسلامية. إنّ الحجج التي قدمها جورج مقدسي -إذا تلقتها الروح العلمية الموضوعية- كفيلة بأن تبدد الأسطورة القائلة بأن “الغرب” هو منارة العالم، وأن حضارته هي أحق الحضارات باسم التمدن، تلك الأسطورة التي يروّجها ويحافظ عليها مجموعة من المشتغلين بشرح وترجمة العلوم العربية. لكن -كما هو الحال مع حججه التي قدمها في “نشأة الكليات”– فإن هذه الحجة الجديدة إما أن تقع على آذان صماء، أو أن تكون محل نزاع عنيف من قبل أنصار المركزية الأوروبية.
حشد مقدسي حججا قوية، وغنيٌّ عن البيان أن نقول إنّ التحدي الأكبر الذي يواجهه في هذه العملية هو تقديم وجهة نظر تعددية بديلة للتاريخ البشري. لقد نجح مقدسي في إعطائنا المسح الأكثر شمولاً وموثوقية للإنسانيات الإسلامية حتى الآن (كما فعل مع التقليد المدرسي في نشأة الكليات). ولأول مرة نرى بلغة أوروبية وصفًا شاملاً لصعود روح ومؤسسات الأدب (أو ما يسميه مقدسي الإنسانيات الإسلامية). يتتبع الجزء الأول من الكتاب صعود النزعة الإنسانية الإسلامية إلى أصول المدرسية/التقليد المدرسي. هذا الجزء في الواقع يمثل ربطًا مثاليًا بين نشأة الكليات ونشأة الإنسانيات. يقدم الفصل الأول حجة مكثّفة (طرحها مقدسي في مكان آخر) حول أهمية الشافعي في تأسيس ما أسماه مقدسي “الإسلام التقليدي”. ويمهد هذا الفصل لمناقشة المعركة الكلاسيكية بين التقليديين والعقلانيين التي وثقها مقدسي بالفعل فيما بعد. الفصل الثاني يؤرّخ لتشكّل المذاهب، وتحولها إلى حواجز مؤسسية “ضد تكرار الإزعاج العقلاني” (ص 16). بينما يعرض الفصل الثالث حجة إضفاء الطابع المهني على الدراسات الفقهية ويرى أن فيها تعزيزّا للمواقف التقليدية ضد العقلانيين.
يتتبع الفصل الرابع -خاتمة الجزء الأول- التحول من العقلانية إلى المؤسسات التقليدية. وفي هذا الفصل -وتحديداً في قسم “الدور العقلاني السري للكلية النظامية” (ص 41 وما يليها)- يهيئ مقدسي المسرح لظهور روح الأدب ومؤسساته. أما الأجزاء من الثاني إلى السادس، ففي فصل تلو الآخر يتتبع مقدسي ويوثق الجوانب الحاسمة لمؤسسات الأدب، بما في ذلك فحص مصادر الوقف، وتفصيل أشكال التعليم، كما حدد تنظيم المعرفة، وعين بدقة المجالات الرئيسية للإنسانيات الأدبية (مثل المذاكرة، والمناظرة ، وما إلى ذلك). وأخيرًا في الجزء السادس، بعنوان “المجتمع الإنساني” (ص 232 وما يليها)، يقدّم مجموعة متنوّعة من المجموعات الاجتماعية (مثل الرعاة، والباحثين الإنسانيين، والطلاب الإنسانيين، وما إلى ذلك) التي جعلت من الممكن تشكل مؤسسات الأدب.
في الجزء السابع، يستأنف مقدسي هدفه الأكثر طموحًا للفت الانتباه إلى “أوجه التشابه المدهشة في عددها وأهميتها، بين إنسانيات الإسلام العربي الكلاسيكي وإنسانيات الغرب المسيحي اللاتيني” (ص 294). في هذا القسم، يستعرض مقدسي أولًا أفكار عدد من المؤرخين البارزين الذين تكهّنوا بأصول الإنسانيات وسوابقها كما يعرفها “الغرب”. ناقش مقدسي هنا نظريات واقتراحات كل من أولمان، روبرت ويس، سيم دريسدن، بول أوسكار، رينولدز، ويلسون، واستنتج أن
“ما يمكن تعلمه -من بين أمور أخرى- من هذه الدراسات حول الإنسانيات هو أن الحركة الإنسية في الغرب المسيحي قد نشأت في إيطاليا…ولكن ما بقي دون إجابة هو لماذا بدأت هذه الحركة في إيطاليا بدلاً من فرنسا، وهي موطن تقليد أدبي كلاسيكي أصيل يبدو أنه لم يكن موجودا في إيطاليا؟ ما هو مصدر هذا “الدافع الغامض” للحركة الإنسية الذي اكتشفه أولمان في إيطاليا؟ إن الدراسات سالفة الذكر [حول أصل الإنسانيات]… تلقي الضوء على “ماهية” النزعة الإنسية، لكن يظل “دافع” نشوئها غامضًا”(ص 301 – 2).
ولكيلا يدّخر جهدًا في تدعيم رؤيته، يلجأ مقدسي إلى المصدر الأكثر موثوقية حول نشأة الإنسانيات، وهو العمل الكلاسيكي لجاكوب بوركهارت “حضارة النهضة في إيطاليا”. أسهب مقدسي في عرض المقاطع التي تم إهمالها بشكل كبير، والتي يناقش فيها المؤرخ الثقافي الألماني البارز مركزية صقلية في إشعال شرارة عصر النهضة وعلاقتها بالعالم الإسلامي، لا سيما في عهد فريدريك الثاني. ويتابع مقدسي سرديته ببيان أوجه التشابه الملحوظة بين النزعة الإنسية الغربية ونظيرتها الإسلامية: نظرة بوركهارت للدولة، والنزوع الفرداني، والتعددية، والنزوع نحو الشهرة والمجد، وانتشار الطابع الساخر، إلى آخر أوصاف حضارة النهضة في إيطاليا. ويختتم مقدسي هذا الفصل بالحديث حول خصوصيات عصر النهضة الإيطالية باقتباس من بوركهارت نفسه:
كانت المعرفة والإعجاب بالحضارة الرائعة التي وصل إليها الإسلام -خاصة قبل غزو المغول- خصيصة إيطالية منذ زمن الحروب الصليبية. وقد تعزز هذا الإعجاب عن طريق السياسات شبه الإسلامية لبعض الأمراء الإيطاليين، وذلك بإظهار الكراهية وحتى الازدراء للكنيسة القائمة، والاتصال التجاري المستمر مع موانئ شرق وجنوب البحر الأبيض المتوسط. يمكن إثبات أنه في القرن الثالث عشر، كان لدى الإيطاليين نموذجًا إسلاميًا للنبل والكرامة والفخر، وقد أحبوا التواصل مع شخص السلطان”.
(ص 307 – 8).
يمكننا القول إن استنتاجات المقدسي لا تنجرف نحو المبالغة، على الرغم من توثيقها بدقة:
“إن التقليد المدرسي والإنسانيات -وهما حركتان فكريتان رئيسيتان في التاريخ الفكري في العصور الوسطى- تحملان توقيع الإسلام الكلاسيكي، والذي يمكننا رؤيته بوضوح ضمن العناصر الأساسية المكونة لهاتين الحركتين”(ص 348). ففي مؤسسات مثل “المؤسسات التي تمنح رخصة التدريس” ومؤسسات تعليم فني النثر والأدب اللاتيني، وجد مقدسي آثارًا في الإنسانيات “الغربية” ليس لها “جذور” في محيطها المباشر، اللهم إلا أصولها في المصادر الإسلامية، ويلخص مقدسي ذلك بقوله:
“يمكن ملاحظة التوازي [بين النزعة الإنسية العربية للإسلام الكلاسيكي والإنسية في عصر النهضة الإيطالية]في جميع المجالات: معاهد العلم، تنظيم المعرفة، الدراسات الإنسانية، نمط التأليف، فنون البلاغة، منهجية التدريس، التعليم الذاتي، وفي جميع أنحاء وأبعاد المجتمع الإنساني -سواء من الهواة أو المحترفين- وفي العلاقة بين الإنسانيات والقانون/الفقه، وفي أدب الكاتب، وفن كتابة الرسائل، في الأشعار وصيغ الرسائل والوثائق القانونية الرسمية، في السعي وراء الشهرة والمجد، وفي ممارسة السخرية والتندر، وفي النزوع الفرداني بشكل عام وفي العديد من الجوانب الأخرى..” (ص 348-49).
يدحض مقدسي نظرية “الروح المشتركة” (التي من المفترض أنها كانت تحوم فوق عالم البحر الأبيض المتوسط في العصور الوسطى)، ليس فقط من خلال الإشارة الذكية إلى الخطابة الاستعمارية لمقولة روديارد كيبلينج “الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقي الاثنان أبدًا”، ولكن أيضا من خلال الحجة الأكثر إقناعًا بأن الروح المشتركة لم تكن في شمال وجنوب وشرق وغرب البحر الأبيض المتوسط في وقت واحد، وأن “الدوافع الأساسية والجذور الرئيسية للحركتين [المدرسية والإنسية] موجودة في الإسلام الكلاسيكي، من نشأتهما إلى تطورهما الكامل، في عملية تاريخية طويلة. وأما في الغرب المسيحي، فقد ظهرت كلتا الحركتين على الساحة في النصف الثاني من القرن الحادي عشر، دون أن يكون لها خلفية تاريخية غربية مناسبة…”. (ص 349).
ومن ثم، يرى مقدسي أنّه عندما يكون العلماء الذين يوسمون بالجدية والتحقيق العلمي -وهو لا يرى فيهم سوى “مؤرخين للمركزية الأوروبية”- راغبين وقادرين على الإشارة إلى أن “حركة عفوية للعقل البشري” هي ما أوجدت الكليات، أو أن “دافعًا غامضًا” هو ما أدّى لظهور النزعة الإنسية= فلا مناص من أن يكون الحاجز الاجتماعي والنفسي الفطري أقوى بكثير من إمكانية الانفتاح العلمي. ولكنه من ناحية أخرى يقدم احترازًا أهم:
باستثناء بعض العلماء ذوي الرؤية الواسعة، افترق المؤخرون الغربيون حول مسألة تأثير الإسلام الكلاسيكي على الغرب المسيحي، مما أدى ببعضهم إلى توسيع أطراف النقاش، فمن طرح نظرية الروح المشتركة، إلى إعلان الاختلاف المطلق بين اثنين من الأرواح المتعارضة. وعلى الرغم من التناقض بين النظرتين، إلا أن كلتيهما تؤدي إلى نفس النتيجة؛ لأنه في ظل هاتين الرؤيتين، لن يكون هناك فائدة من مناقشة إمكانية تأثير الإسلام على الغرب، كما أن التوازيات بين الإسلام والغرب لن تعدو كونها توازيات عارضة، ولا شيء آخر. (ص 349).
لم يعرّج مقدسي في فقراته المكتوبة بعناية على مصدر وتداعيات هذا التوتر وتلك الحساسية الداعية لنفي أي تأثير خارجي على “الغرب”، لا سيما تأثير الإسلام، وهنا تحديدًا تكمن قوة أسطورة الغرب، ولهذا السبب فإنّ من المتوقع أن يواجه كتاب مقدسي الرائع -مرة أخرى- مقاومةً شديدة في دراسة حجته بجدية من قبل أتباع المركزية الأوروبية.