- حوار مع روبرت بولاك
- ترجمة: محمد الغافري
- تحرير: بلال ياسين الخصاونة
إنّني أتساءل دائمًا عن أهمّ أمرٍ يجب عليّ القيام به في الوقت الذي لديّ؟ وأشعر بالامتنان للوقت الذي أملكه، ويدهشني دائما الفرق بين ما أنا عليه الآن وما كنتُ عليه سابقًا، كما أنّني مندهشٌ أيضًا من غياب الاستقرار المستقبليّ للأجيال القادمة، والذي هو بكلّ المقاييس أقل من الاستقرار الذي حظيتُ به عندما كنت في مثل سنهم.
لقد ولدتُ في سنة 1940، وعاصرت -كحال الكثير ممن هم في عمري-فترة الهيمنة الأعظم للقوّة الأمريكيّة وديموقراطيّتها وقوّتها العسكريّة. لقد عشنا سبعين سنةً دون حربٍ نوويّة بعد أن استُخدمت مرّة في اليابان. إنّني أنظر لطلابّي الذين أدرّسهم الآن وأتساءل كيف ستكون حياتهم عندما يبلغون نفس عمري؟ وكيف ستكون أيضًا حياة أحفادهم بعد ذلك؟ هذا ما أفكّر فيه، لا أظنّ أنّه سؤال سياسيّ، بل هو سؤالٌ وجوديّ، وقد يكون أيضًا سؤالاً دينيًّا، لكنّه حتمًا سؤالٌ مدفوعٌ بالعاطفة. أنا عالم، وأظنّ أنه يجدُرُ القول أنّه سؤالٌ علميّ أيضًا، وعندما أفكّر بهذا السؤال علميّا؛ فإنّني أفكّر به من زاوية تخصّصي الأكاديميّ.
أنا عالم أحياء، وأنا على دراية بهبةِ البصيرة التي تمتّع بها تشارلز داروين قبل 150 عامًا، حيث أدرك ملحوظةً غير متوقّعة، والتي أعتقد بأنّها قد أزعَجَتْهُ كأيّ شخصٍ آخر، وهي أنّك عندما تنظر إلى أفراد أيّ نوعٍ حيّ- الديدان، النباتات، أو الأشخاص، أو أي شيٍء بين هذه الأنواع- لن تجد أيّ فردين متطابقين داخل النّوع نفسه، فكلّ فرد لديه اختلاف ما، على الرغم من انها وَلودةٌ ويمكن ان يكون لها ذريّة. قال داروين بأنّ الاختلافات تنشأ ثم تصبح مُستقرّة ثم يتمّ توريثها، وقد يكون توريث هذه الاختلافات الجديدة مصدرا للتّجديد بمرور الزّمن، حيث أنّه خلال وقتٍ كافٍ، سيظهر نوعٌ حيّ جديد من نوعٍ قديم، ولربّما قد انحدرنا جميعًا من نفس النّوع في البداية.[1] وهذا صائب؛ إذ أنّنا نعلم بأنّ حمضنا النوويّ عبارة عن مادة كيميائيّة تخضع للتّجديد من خلال إحداث تغيير في أزواج القواعد النيتروجينية، ثم تستقرّ هذه التركيبة الجديدة، كما لو كانت مطابقة للتركيبة القديمة.
قدّم داروين قبل 150 سنة نموذجًا يشرح بوضوح العالَم الحيّ في الطّبيعة، وكتابه الذي عنونه بـ “أصل الأنواع” شبيه بضفّة نهر شديدة التّعقيد حيوياً، فأنتَ عندما تراها فإنّك ترى أنواعًا كثيرة من الأحياء كالنّباتات والحيوانات والديدان والحشرات، وكلّ هذه الكائنات في حالة تفاعل مع بعضها البعض، وهذا هو ما نُطلق عليه بعلم البيئة/الإيكولوجي.
لقد عشت كبيولوجيّ في عالم داروين، محاولًا فهم الطفرات الداروينيّة ما قبل-التكيّفيّة في الخلايا السرطانيّة بسبب اختلافها عن الخلايا الطّبيعيّة، وأعتقد بأنّني أفهم هذه الطّفرات جيّدًا. لكن بينما أدرس طلّابي الجامعيين، انتبهتُ إلى أنّنا كنوعٍ حيٍّ واحد -أي: البشر-خرجنا تمامًا من ضفّة النّهر تلك المشار لها آنفا، وذلك أنّ عددنا زاد 100000 مرّة عن عددنا الطبيعيّ، فأصبحنا نُهدّد الكوكب بسبب نجاحنا. إنّ الذي يشغل فكري متعلق بالطريقة المناسبة في الإفصاح للآخرين بأنّ مشكلتنا: تكمن في نجاحنا وليس في فشلنا. أنا لستُ من الأفراد الذين يصرخون بحسرة بعد محاولةٍ فاشلة:” يا ويلنا، لقد فشلنا”، بل ما يقلقني، وما أهتمّ به، هو كيف أُعيد تعريف النّجاح بحيث يجعلنا هذا المفهوم الجديد للنّجاح في حالة توازن مع العالم الحيّ، مفهومٌ لا يجعلنا ندمّر الكوكب. أقوم بتدريس هذا السؤال، كما أنّني أتساءله وأكتب عنه. وما يمنعني هو خوفي من كون الحقيقة معروفة بالنّسبة لي عن طريق الاستعارة أو المجاز، لكن هذه الاستعارة خفية لدرجةِ أنّه لا يمكن الكتابة عنها بسهولة، كما سترى لاحقًا.
لقد درستُ الفيزياء ثم تحوّلتُ منها إلى علم الأحياء. في زمالة الدراسات العليا لما بعد الدكتوراه في كليّة الطب بجامعة نيويورك، استخدمتُ ما جاء به داروين لفهم آليّة مرض السّرطان. إنْ كان داروين مُحقّا في استنتاجاته من أنّ التغيّرات تنشأ قبل الحاجة إليها، فربّما يخبرنا هذا بوجود خلايا سليمة داخل الورم السرطانيّ. نحن لن نعرف ذلك، لأن الورم سيتغلبّ على تلك الخلايا السّليمة، لكن عندما نعالج ذلك الورم بواسطة العلاج الكيميائيّ، فقد تكون الخلايا السّليمة هي النّاجية الوحيدة من العلاج. لكن إنْ لم تكن الخلايا الناجية خلايا سليمة، فقد تتسبب بمشكلات مستقبليّة. لكن هل من أحدٍ سمع من قبل بوجود خلايا سليمة داخل ورم سرطانيّ؟ لقد قمتُ بالبحث، وبالفعل، وجدتُ بأنّه من كلّ 100000 خليّة سرطانيّة توجد خليّة سليمة واحدة، أي خليّة طبيعيّة في سلوكها، لا تنقسم بشكل عشوائي ومتزايد كما تفعل الخلايا السرطانيّة حولها. بمجرّد ما تلمس هذه الخلايا السليمة خليّة أخرى، فإنّها تتوقّف عن الانقسام. إنّها خلايا اجتماعيّة ومترابطة مع باقي الخلايا، الحَسَنة فيها أنّها لم تصبح مستقلّة بذاتها وحرّة في فعل ما تريد بنفس الطريقة التي ينتهجها الورم. هل فهمتَ الاستعارة التي أقصدها؟
كيف نفهم بأنّ عددنا الكبير جدّا، بالإضافةِ إلى ما نفعله من أجل إطعام أنفسنا، يجعلنا بمثابة ورم سرطانيّ بالنّسبة للكرة الأرضيّة؟ لا أريد أن يحمل المستقبل نهايةً لجنسنا البشريّ، والتي ستكون بمثابة عمليّة جراحيّة لهذا الكوكب لإزالةِ الورم الذي تفشّى فيه، وأعلم بأنّه ما من أحدٍ يرغب في هذا. إذن كيف نعود إلى طبيعتنا طالما كنّا قادرين على ذلك؟ كيف سنعاود الدخول إلى عالم الانتخاب الطبيعيّ مرّة أخرى، ليس من باب معاقبة أحدنا للآخر والقضاءِ عليه، بل من باب التطوّع لإعادةِ تعريف النّجاح بحيث يكون مُوجّهًا ليشمل بقاء المستقبل، ليضمن وجودنا في المستقبل، ولا يكون مقتصرًا فقط على النّجاح المرتبط بهذا العالم الفاني الذي نعيش فيه؟ كيف سنقوم بذلك؟ لا يوجد لدينا لغة للقيام بذلك.
لدينا بالفعل بِنًى تُقدّم المستقبل وتُقدّره بناء على النّجاح في اللحظة الآنيّة. أنا في مؤسسة لديها هذه البِنى، فجامعة كولومبيا هي واحدة من أكثر الجامعات التي تتلقّى منحًا ماليّة في العالم. هذه المنحة الماليّة الدّائمة، استنادًا إلى الهيكل الاقتصادي للبلاد، مستقرّة وتُنتج ثروة من دون ضرائب، وهذه الثروة، بموجب اللوائح الحكوميّة، يجب إنفاقها للمصلحة العامّة. وظيفتي هي للمصلحة العامة، وكذلك تدريسي، وأحصل على راتبي بهذه الطريقة، وتفرّغي أيضا الذي يُتيح لي وقتا للتحدّث معك الآن. ربّما تكون فكرة الوقف فكرة قابلة للتوسيع. ولو كان حديثي هذا ليس معك يا جون، ولكن مع الأشخاص الذين آمل أن يستمعوا له، فإنّني أودّ الحديث مع الأغنى والأقوى منهم. كلّما كان لديك العديد منهم، كلّما كان بإمكانك تخصيص المزيد من المال في المنح لتحقيق الاستقرار في الحاضر حتى لا ينهار المستقبل.
هذا لا يعدّ من الضّرائب، وليس أيضًا إعادة توزيع للثروة أو أيّ شيءٍ آخر. إنّه اقتطاع؛ إنّه اتّفاق لإنفاق القليل الآن من أجل المستقبل. لا أرى البنى الاقتصادية للبلدان تفعل ذلك، ولا السياسة أيضًا. لكنّي أرى أطفالًا، مثل أولئك الذين في الشّارع هذا الأسبوع، يعرفون أنّه إذا لم نفعل شيئًا كهذا؛ لن يكون لديهم عالم ليعيشوا فيه.
كعالم أحياء، أقول بأنّ العالم غير مضمون البقاء. والحقيقة أنّنا نتحدّث الآن لأننا نتاج انتخاب طبيعيّ.[2] نحن هنا لأنّنا فانون. كلّ الحياة تسير حسب رؤية داروين: ينشأ التجديد في الحمض النوويّ، لكنّك لن تعرف ما إذا كان سيكون هذا التّجديد أفضل أو أسوأ حتّى تقوم باختباره في الجيل التّالي، ولا يمكن أن يكون لديك جيلٌ جديد إذا كان لديك أفراد خالدون. تذكرة الدخول إلى الحياة هي الموت، هذا هو الأمر الثّاني الذي يشغل فكري: مدى بعد هذه الحقائق عن رؤيتنا للطبّ، ومدى بعدها عن رؤيتنا للنّجاح.
العلاج الطبي النّاجح يبقيك على قيد الحياة. حسنا، ما هو الدواء الذي يضمن حياة كاملة حقيقيّة لا تقتصر على البشر فقط؟ ما هو الدواء الذي يجعلنا نقبل حقيقة أنّنا فانون ولكن مع ذلك نسعى في الحياة ونضرب في الأرض؟ ما هي المسؤوليّة الاجتماعيّة التي نتحمّلها تجاه بعضنا البعض بينما نساعد بعضنا البعض خلال هذا التحوّل في قبول هذه الأفكار؟ أرني الضرائب التي أُنفقت على ذلك، وأرني أيضًا البنيّة التحتيّة التي تُكرَّس في سبيل ذلك. إنه أمر لا يوصف، كما لا يمكننا التحدّث عنه. ولكن إذا لم نتحدّث فيه أساسًا، سواء على مستوى فناء الجنس البشريّ، أو على نطاق فناء الأنواع الحيّة، أو على نطاق فناء الكوكب برمّته، فإنّنا سنكون قد شاركنا في التّعاون مع الطّبيعة لإنهاء أنفسنا والقضاء عليها.
كيف نستخدم ذكائنا لنعمل بشكلٍ أكثر ذكاءً ممّا نقوم به الآن؟ بما أنّ ذكائنا يحرّرنا من الانتخاب الطّبيعيّ، ألا يُمكننا استخدام ذكائنا لاستبدال طموحاتنا بأن يكون لدينا أكبر وأقوى وأكثر قدر ممكن من كلّ شيء [وهو ما أعنيه بالنّجاح الذي أريد التخلص منه]، بتعريفات أخرى للنّجاح تجعل الطّبيعة مستقرّة وتبقينا على قيد الحياة؟ أي أنّه تعريف للنّجاح لا يقتصر على النّوع البشريّ.
ربّما من الضّروري العودة والتّحدّث عمّا نعنيه بالانتخاب الطّبيعيّ بناءً على ملاحظات داروين كما هي مكتوبة في كتابه، والذي أعلم بأنّه لم يكن كتابًا حقيقيًا، بل كان بمثابة مسوّدة لكتابٍ كان سيكتبه برويّة، لكن وَجَدَ أنّ شخصًا آخر سينشُرُ كتابا بنفس الأفكار التّي كانت لديه، لذلك قام بتسليم تلك المسوّدة إلى الجمعيّة الملكيّة لأنّه كان يملك الفكرة أولاً. والفكرة بسيطة: فكرته هي أنّ غياب المقصد، والهدف، والاتّجاه، والكمال هي نتائج للاختلاف العشوائيّ الموروث، والذي اقتصر فقط على إنجاب نسلٍ قادرين على العيش والتكيّف.
نحن نتاج سلسلة من الأسلاف تمتدّ لأربعة مليارات سنة حافظت هذه السلسلة على نسلها بالرغم من كلّ ما حدث. كانت أكبر كارثة حلّت على كوكب الأرض، حسب ما أرى، هي ظهور مسار كيميائيّ مختلف نشأ في المحيطات، هذا المسار الجديد كان عكس المسار الكيميائيّ المنتظم الذي كان يحدث في تلك الأزمنة والذي من خلاله نحصل على الطاقة من الجزيئات حتّى تتمكّن نفسُكَ من النّموّ من خلال التقاط طاقة الضّوء وعكس المسار بأكمله، بحيث تُمكّنك طاقة الضوء هذه من التقاط ثاني أكسيد الكربون، وكسر رابطة الأكسجين من ثمّ إلقائه بعيدًا، وبالتّالي تكوين جزيئات تتكوّن من المركبات العضوية (مركبات أساسها الكربون) فقط، تستمدّ طاقتها من الضوء. أدّت هذه العمليّة إلى تسميم الغلاف الجوي بالأكسجين وقتلِ كلّ شيء لا يعتمد على عمليّة التّمثيل الضوئيّ تقريبًا. نحن أحفاد النّاجين من عمليّة التّمثيل الضّوئيّ النّادرة هذه، ونحن في حالة توازن مع عمليّة التّمثيل الضّوئيّ منذ ذلك الحين.
ربّما يكون ما سبق مثالاً جيّداً على عدم وجود خطّة للانتقاء الطّبيعيّ. في الواقع، كلمة تطوّر، صاغها أحد أتباع داروين، وليس هو. إنّ كلمة “تطوّر” تعني ضمنًا وجود خطّة قيد التّنفيذ، بحيث تصل الكائنات لغايةٍ ما. وقد تجلّت بصيرة داروين العميقة عندما نفى وجود أيّ خطّة من هذا النّوع.
لا أعرف أيّ فكرة علميّة قد نجت من كلّ محاولات دحضها لأكثر من 150 سنة،[3] ومع ذلك هي غير مقبولة اجتماعيّا مثل استبعاد داروين للهدف، والغاية، والكمال. لقد أُعيقت ملاحظات داروين بأكبر عدد ممكن من المحاولات العلميّة للدّحض. قيل لنا، على سبيل المثال، بأنّه لا يوجد علم وراء أيّ تصنيف للاختلافات بين البشر، بحيث إنّ بعض الأجناس البشريّة تقترب والبعض الآخر يبتعد عن الكمال. لا يوجد، ولا يمكن أن يوجد علم وراء هذا. من وجهة نظر الداروينيّة، ربّما لا يكمن مستقبل جنسنا البشري في أيّ واحد منّا، أي في فئة معيّنة بالذات، ولكن في أقصى تنوّع في نسخ الحمض النووي البشري، بحيث يبقى بعض منا فقط. أين يوجد أكبر تكتلّ من هذه الاختلافات في الحمض النووي للجنس البشريّ؟ إنه في وسط أفريقيا، لأنّنا جميعًا أفارقة.
عندما أقوم بتدريس الطلاب في الجامعة، أقول لهم بأنّه قد يوجد بيننا أمريكيّون من أصلٍ أفريقيّ، لكنّنا جميعًا أمريكيّون أفارقة. كلّ إنسانٍ له أصلٌ أفريقيّ قبل 50 أو 60 ألف سنة فقط. النّاس الذين يسكنون مختلف البقاع في هذا الكوكب، وأحفادهم، مثلي مثلا، جاؤوا من مجموعات سكانيّة صغيرة من تلك الأجداد البشرية الأفريقية. معظم الاختلافات في الحمض النّوويّ موجودة في الأشخاص الذين يعيشون في وسط أفريقيا، والذين يحتقرهم البعض ويتجاهلونهم. لكن إذا فهمنا قيمة التنوّع، قيمة الاختلاف، فإنّنا سنحتفي بمزايا هذا التنوّع.
قد تعتقد أنّ حججي تصريح محبط للغاية، لكنّني لا أعتقد ذلك. ما أقوله هو أنّنا رحمة لبعضنا البعض بشكلٍ أساسيّ. من بين الإغراءات التي يتعيّن علينا التغلّب عليها، أولا: إغراء الكسب، حيث نقيس النّجاح بالماديّات التي نملك بدلاً من قياسه بالحفاظ على مستقبلنا. الطريقة الثانية التي نخاطر بها في المستقبل هي: التّفكير الذكيّ في أنّ البعض منا يستطيع الهروب من مخاطر المستقبل. سواء كنّا نعتقد أنه يمكننا فعل ذلك من خلال العيش في قمر صناعيّ أو على كوكب في مكانٍ ما خارج الأرض، أو ما إذا كنّا نعتقد بأنّه يمكننا الهرب منه باستخدام ثرواتنا للذّهاب إلى المريخ أو القمر، فكلّها تعاني من المشكلة نفسها: إنّ “نحن” في هذه السياقات تشمل عدداً قليلاً جدًا من الناس فقط. لكنّني مهتمّ بالنّوع البشريّ بأكمله وليس فقط بحفنة من النّاس.
الحقيقة الجوهريّة في الحياة هي أنّه لا يوجد أحدٌ منّا أهمّ من الآخر، فكلٌّ منّا له أصل مباشر يصله بالبكتيريا اللاهوائيّة قبل 4 مليارات سنة. لا يوجد شيء في الطّبيعة يجعل أحدنا أكبر قيمة من الآخر. أنا لستُ مهتمّا بأي حجّة تقول: “سأفعلها وأنجو، اذهب أنت إلى الجحيم”. في عالم الأحياء الجزيئيّة، إنّ الأشخاص الذين يُدلون بهذه الحجّة هم أناسٌ يقولون: “لديّ ما يكفي من المال. سآخذ الحيوانات المنويّة والبويضات قبل أن أنجب طفلاً، وسأحرص على أن تنتج هذه الحيوانات المنويّة والبويضات طفلا أبيض بمستقبل مشرق”. هو يعتقد بأنّه أفضل من الآخرين، لكن ما يجعله أفضل ليس شيئا في الطّبيعة، إنّما ثروته. إنّني لستُ مهتمّا بخطّة بحث تفترض مُسبقًا شيئًا أفضل بحيث تقول: “سأنجب طفلًا أفضل”.
في الواقع، إنّ حمضنا النوويّ البشريّ فريد من نوعه، فريدٌ لأنّه مرتبط بالتغيّرات في عالم الأجنّة عن بقيّة الحيوانات، فهو يعطينا دماغًا كبيرًا بطيء التطوّر بحيث يكون وعينا اجتماعيًّا منذ الولادة، لذلك إنّ أيّ فكرة تقول “أريد أن يكون لطفلي أكبر فائدة، لذلك سوف أجري تغييرات في حمضه النوويّ الخاصّ به/بها ” تُدمّر إمكانيّة قبوله بين أقرانه أيًّا ما تكون أنت. إنّ خطورة هذا الفعل مثل خطورة أي حكم عنصريّ سواء كان بسبب العرق أو الدين أو اللون أو أي شيء آخر تراه بنظرة استعلائية. إنّني لستُ مهتمّا بالنّماذج البشرية المعدّلة، كما أنّني لست مهتمّا بإنقاذنا. لست مهتمّا بتجميد العقول لحفظها. أنا مهتّم بنفس الشيء المملّ القديم داخل كَوْن بشري من بشرٍ فانين – ما هي أفضل طريقة لرعاية بعضهم البعض وتأمين مستقبلٍ لبعضهم البعض. ولا أعتقد بأنّ الغرض من العلم والتكنولوجيا هو منح فرد واحد فقط من مليار شخص فرصة للنجاة.
يجب أن أوضّح جوهر ما أحاول قوله، أنا لا أدلي ببيانٍ سياسيّ. ليس لديّ آلية تهتمّ بالمستقبل وتفضّله على الوقتِ الحاضر لتؤمّن لنا المستقبل. إنّ خطط إعادة التّوزيع المُتّبعة حاليًا لإرساء العدل ]بين الجنسين مثلا[، والضّرائب، وأيّ رأي سياسيّ تتبناه في الوقت الحاضر أو المستقبل القريب= لن ينقذ الكوكب من مشاكل الجنس البشريّ. إنّ إنقاذ الكوكب من أفراد نوع معيّن يتطلّبُ استجابةً على مستوى النوع بأكمله.
إنّ تاريخنا بأكمله منذ ظهور جنسنا البشريّ، بقدرته على إنتاج لغات وإنشاء محادثات بين أفراده؛ كان يسير في اتّجاه الحدّ من قدرتنا على استماع وفهم بعضنا البعض. لدى جنسنا المئات، بل ربّما الآلاف من اللّغات، فإن كنتَ لا تستطيع الحديث بلغة شخصٍ آخر، فأنت لا تعرفه كشخص. إنّهم ليسوا بشرًا تمامًا بالنّسبةِ لمن لا يتحدّث بلغتهم. لدينا إلى حدٍّ ما، أنواع بشريّة فرعيّة، لها قدرة على العمل، هذه الأنواع تتألّف من الآلاف من الأشخاص الذين لا يستطيعون التّحدّث مع بعضهم البعض، بالتّالي لا يستطيعون مساعدة بعضهم البعض، ولا يستطيعون التّخطيط معًا للمستقبل، بسبب اختلاف لغاتهم. العالَم الرقميّ نفسه الذي يسمح لي بإجراء هذه المقابلة هو العالم الرّقميّ الذي يفتح هذه المشكلة أساسًا، فلدى جوجل مترجم تلقائيّ، ولكنّه مخصّص لعدد قليل من اللّغات وليس جميعها.
كيف نستعيد، أو نبتكر وعيًا ذاتيًّا لنوعنا البشريّ بمختلف أطيافه؟ وعي لا يقتصر فقط على مجموعة بشريّة واحدة، بل يشمل الجميع؟ كيف نعترف بكلّ واحدٍ منّا كواحد من بين 7 مليار شخص، وليس كواحد من بين 300 مليون مواطن أمريكي، وليس كواحد من عشرة أشخاص في عائلتنا المباشرة، وليس كواحد من بين الفئات المختلفة التّي يمكنك عدّها والتّي نحن جزء منها؟ من يعتقد أنّه واحد من بين 7 مليارات؟ التّفكير يجعلنا مختلفين، فهو علامة جنسنا البشريّ، ومع ذلك لا يمكننا العثور على لغة موحّدة للتّفكير في هذه الحقيقة. هذه هي المعضلة.
لقد قلتُ للتّوّ بأنّ البشر يفتقرون إلى لغة بشريّة موحّدة، فاللّغة إذن تعدّ جزءًا من عمليّة العزل الذاتي للبشر إلى مجموعات سكّانية فرعيّة حتّى نتمكّن من الاهتمام بأفراد مجموعتنا الخاصّة فقط. فالفرد منّا إذن غير مُلزَم برعاية نوعنا البشريّ بأجمعه، فأصبحنا بذلك نزيد مجازًا بـ 100000 مرّة من عددنا الطّبيعيّ بسبب الاهتمام فقط بالأقربين إلينا. لدينا تقنيّة عالميّة، لذا لا أعرف إلى من أتحدّث بخصوص هذا الأمر، ربّما سيعلم عنه النّاس الذين يشاهدون هذا. يبدو لي أنّ هذا مشروعٌ يستحقّ شبكة ويب عالميّة ويستحقّ ترجمةً من جوجل.
كيف نُدلي بتصريح يُفهَم على الفور، ولا بأس بأن يُختَلَف فيه، ولكنّه مسموعٌ من قِبَل الجميع؟ إلى من سنتحدّث؟ أنا لا أرغب في التحدّث إلى الأشخاص الذين يتّفقون معي، لستُ مهتمًّا بأن أكون هنا، أنا مهتّم بإثارة سؤال ليس لديّ إجابة عنه. القاعدة الأولى للخروج من الحفرة هي التوقّف عن الحفر، ونحن نحفر تلك الحفرة بشكل أعمق عندما نواصل التحدّث مع بعضنا البعض حول كيفيّة نجاحنا.
أنظر حولي فأرى مساريْن حاليين، أو ثلاثة إنْ فكّرت في الأمر، لكنّني لا أعرف مآلاتها، كما أنّني أرحّب بأفكارٍ أخرى من أيّ شخص. المسار الأوّل هو ما ذكرته للتو: الويب متاح، ولا يتحدّث بلغةٍ واحدة. المسار الثاني هو ما أفعله: التّدريس، إنّه ظاهرة عالميّة، ويسمح لي بإنفاق عمري في أمرٍ معيّن. لو اعتبرتُ هذه المنحة كمسؤوليّة، فيجب عليّ أنْ أقضي وقتي في العمل مع طلابي للعثور على اللّغةِ التي تناسبهم هم، وليس أنا، لأنّني متقدّمٌ في السّنّ، من ثمّ جَعْلِهِم يعلّمونني إيّاها. التّدريس المتبادل كالمحادثة. ومن ذلك أسلك إلى المسار الثالث، والمتعلّق بكيفية بدء تجربة ما تبدو عليها هذه اللغة العالميّة، وكيف تبدو أصواتها في حال كان لها أصوات، وكيف يُمكن لشخصين لم يلتقيا أبدًا من أن يتحدّثا حول مصلحتهما المشتركة في بقاءِ أحفادهما؟
أدركتُ بأنّني ناقضت نفسي، فمن ناحية، أنا أتحدّث عن الجميع. ومن ناحيةٍ أخرى، أنا أتحدّث عن ثلّة من الأفرادِ الذين تمّ اختيارهم مُسبقًا والذين وصلوا إلى فصلٍ دراسيّ في جامعة كولومبيا ليخترعو لُغةً للبشر جميعًا! سؤالي هو: هل يمكنني أنا وطلابي العمل معًا للعثور على لغةٍ مُتاحةٍ للجميع؟ هل يُمكننا استخدام استمراريّة واستقرار الجامعة لمشروع كهذا؟ هل يمكنني استخدام استقراري الوظيفيّ ليس لتخريج المزيد من الأشخاص مثلي، ولكن لجعلنا نتصرّف لخدمة هذا المشروع؟ هذا يعني عدم مغادرة مكاننا، ولكن تغيير نمط تفكيرنا، علينا أنْ نفكّر إذن بطريقةٍ جديدة. لا يمكننا أن نَقْصُرَ ونَحُدّ تفكيرنا ليشمل فقط الأفراد الذين يشبهوننا، بل يجب أن يمتدّ ليشمل جميع البشر.
يمكنني تخيل النّاس الذين يسمعونني يقولون: هذا الشخص سيرتكب الخطأ الذي يرتكبه النّاس طوال الوقت ويقولون: “أعرف هذا الرجل، إنّه أبيض وهو كبير في السّنّ. هذا رأي رجلٍ عجوزٍ أبيض، لماذا يهمّني ما يقوله؟” لذلك، سينصرفون عن إجراء محادثة. وجهة نظري كلّها هي أنّ هذه المحادثات هشّة جوهريّا، ويمكن كسرها قبل أن تبدأ حتّى. هكذا تبدو العنصريّة والتحيّز: “أراك من مسافة عشرة أقدام، إنّني أعرفك، أنت لا تستحقّ أيّ شيء، وليس لديّ ما أقوله لك”. إنّني أتوسّل لمن يقرأ هذا أن يفكّر في اللّغة التي يمكننا تشاركها على الرّغم من اختلافاتنا، إنْ لم نتمكّن من العثور على لغة كهذه، فإنّ أحفادنا وأحفاد الآخرين سيغضبون منّا بشدّة لسببٍ وجيهٍ، وهو أنّنا لم نحاول إيجاد هذه اللغة المشتركة التي تُؤمّن لهم المستقبل.
إنّ الظّهور على هذا الكوكب لهو من الطّقوس التي تجمع النّاس على الرّغم من اختلافاتهم، سواءً كانت هذه الطقوس مُضمّنة في عقيدة، ممّا يجعلها ديانات. أو ما إذا كانت هذه الطّقوس مضمّنة في قوانين، ممّا يجعلهنّ عقائد سياسيّة. أو ما إذا كانت مُضمّنة في تعاليم للنّاشئة، مما يجعلهنّ سياسات تعليمية. أو ما إذا كانت مُضمّنة في نشاط بدنيّ، مما يجعلهنّ نوعاً من الرياضة، هذا لا يهم هي كلّها أنشطة تجمعُ طيفًا واسعًا من البشر، وكلّ منها يمثّل تلك اللّغة، لكن في أجزاء منها فقط. لم يتمّ طرح أيّ من هذه اللّغات المختلفة كحل للمشكلة، والتّي هي موجودة لدينا جميعًا. ربّما يكون أقرب استخدام لهذه الأنشطة في سبيل البشريّة، هو كلمة البابا الحالية حول الاحتباس الحراريّ، لكنّني لا أرى أنّ ذلك قد أدّى إلى إحداث تغيير في السّلوك في مليار من أصل 7 مليار من جنسنا.
الأداة متاحة للوصول إلى مليار شخص هي إذا كنتَ البابا فقط. اللّغة لم تنجح في هذا بعد، وهذا لا يعني أنّها لا تستطيع ذلك أو لن تنجح. كيف نفهم أننا بشر فانون وأننا لسنا أكثر أهميّة من بعضنا البعض؟
كان لديّ معلم ثمّ أصبح صديقي، رجلٌ يدعى روبرت بيلكناب، وهو أستاذ في اللّغات السّلافيّة في جامعة كولومبيا. بيلكناب Belknap هو اسم لنبتة تُزهر في مايو، وكنتُ سعيدًا جدًا لأن أكون صديقًا له خصوصًا أنّني كنت فيما مضى قلقًا بشأن وجودي في الجامعة. قال لي شيئين، وأعتقد بنّهما يستحقّان الذّكر في هذا السّياق. عملنا معًا في برنامج جامعيّ، وسألتُهُ سؤالًا عن زميل عسِر المعاملة، فقال: ” بوب، إنّ الشّخص الآخر ليس مرآةً كاملة الطّول” كم مرّة نتصرّف كما لو أنّ الشّخص الذي نتحدّث إليه هو مرآة كاملة الطول، أي يطابقنا تمامًا، حيث نشعُرُ وكأنّنا نتحدّث إلى أنفسنا؟
القصة الثّانية تتعلّق بكونه فردًا في عائلة Belknap، ذات مرّة قبل وفاته، سألتُه: “روبرت، كم جيلاً من عائلتك قد احتفل بعيد الشكر؟”، فأجاب: “أوه، ربّما خمسة آلاف أوعشرة آلاف جيل. لكن لا أظنّ بأنّك تريد منّي أن أذكر أسلافي في عائلة Belknap فقط وأنسى أسلافي الأمريكيين الأصليين، أليس كذلك؟”، أعتقد بأنّ إجابته كانت رائعة، وكذلك هي دعوة لي للتغلّب على طريقة تفكيري، من يهتمّ بأنّ لديّ أسلاف من أوروبا الشّرقيّة؟ إنّها ليست النّقطة المحورية، فكلٌّ منّا فريد ومُميّز.
لذا دعني أقول شيئًا عن تفرّدنا، والذي هو جزء لا يتجزّأ من حمضنا النوويّ. الموضوع يتعلّق بالاحتمالات: يحتوي كل زوج من القواعد في الـ DNA على أربعة أزواج من القواعد النيتروجينيّة المُحتَمَلَة معبّر عنها بالأحرف، وحمضنا النووي يحتوي على ثلاثة مليارات حرف، أي ثلاثة مليارات قاعدة. يمكن أنْ يكون لكلّ قاعدة في الحمض حرف واحد من بين تلك الأربعة أحرف. إذن كم عدد الأحماض النوويّة المحتملة؟ يوجد أربعة احتمالات لأربعة أزواج مكوّنة من حرفين في الحمض النووي: أربعة للحرف الأول، وأربعة للحرف الثاني، هذا يعني ستة عشر تركيب محتمل، ويوجد أربعة وستون تركيب ممكن لو كانت القواعد مكوّنة من ثلاثة أحرف. إذن، كم عدد الجينومات البشريّة الممكنة؟ أربعة أسّ 3 مليارات جينوم، إنّه رقم هائل جدًّا، إنّه عدد لا نهائيّ! لا يوجد سوى 10 أسّ 80 ذرّة في الكون.
إذن كلّ واحدٍ منّا فريدٌ من نوعه، هذه حقيقة. وفي تفرّدنا، نحن مختلفون تمامًا عن بعضنا البعض، ليس بمعنى أنّ هذا البشريّ أدنى وذاك أعلى، ولكنّنا مختلفون بطريقة مميّزة تمامًا. كيف نتغلّب إذن على سوء تفسير عالمنا العقليّ لهذا الأمر الذي يقول: “هذه مجموعة منّا مهمّة حقّا، وبقيّة العالم بإمكانهم أن يذهبوا إلى الجحيم”؟، يقول علم الأحياء أننا جميعًا ذوو قيمة متساوية وأنّنا فانون بشكلٍ متساوٍ أيضًا.
قد تستخدم اللغة العالميّة التّي نودّ اختراعها الموسيقى في إيصال رسالتها، وقد تستخدم الفنّ أيضًا. أنا وزوجتي لدينا كتاب عن التطوّر، إنّها فنّانة، تأتي إلى فصولي الدّراسيّة لرسم رسومات عن المواضيع التي أشرحها، فارتأيت بأنّ الرّسومات التي رَسَمَتْهَا أفضل من الشّرائح التي أعرضها لطلابي، لذلك، قرّرت بأن أعرض الرّسومات كشرائح، وقد فعلتُ ذلك.
أنا وزوجتي ألّفنا كتاب اسمه The Course of Nature، إنّه مكوّن من رسوماتها ومن تفسيراتي لرسوماتِها، حصلنا على نسخة منه مترجمة إلى اللغة الصينيّة، فتحتها ولم أتمكّن من فهم أيّ شيء عن النّصّ، إنّما فقط من الرّسومات. هذا يجعلني أتساءل عمّا إذا كانت اللّغة العالميّة التي أتحدّث عنها قد تتكوّن من الرسومات فقط بدلًا من الأحرف كما في اللّغات الحاليّة. هل ما أقوله يمكن أن يصبح كرواية مصوّرة، أعني، رواية برسومات فقط؟ سأكون حقّا مهتمّا بذلك. قد تكون رواية مصوّرة عالميّة حول كيفيّة عدم تفويت قارب النّجاة بسبب قصر النظر النّاتج عن أنانيّة فرد يسعى لمصلحته الشّخصيّة فقط.
وهذا يذكّرني بما أفعله الآن كبروفيسور في هذا الشّأن، أنا من الأشخاص الذين زاولوا مهن مختلفة في الجامعة، مما يجعلني من بين قلة من الأساتذة الذين أعرفهم الذين يستخدمون لقب بروفيسور، فقد جئت إلى كولومبيا عام 1978 وأدرتُ مختبرًا حتى عام 1994، وقد كنت أيضًا عميد كليّة كولومبيا المسؤولة عن تعيين النّساء بعد 240 عامًا، فوجدتُ عالمًا كاملًا من النّاس من غير العلماء الذين وددتُ أن أكون معهم، علّقتُ عملي في المختبر وأصبحتُ بروفيسورًا، علّمت طلّابًا وكتبتُ كتبًا، بدءًا من كتاب Signs of Life.
لقد جرّبتُ إلقاء محاضراتٍ كبيرة لـ 500 شخص، لكنّني أفضّل بشدّة الحِلَق الدراسية أو السيمنار المكوّنة من عشرين طالبٍ فقط لأنّها بالنّسبةِ لي أشبه بمحادثة، إنّها كتجربة عائليّة من غير رابطة دم بيولوجيّة، لأنّني أتشاركُ مع الأشخاص الذين يحضرون صفّي في فهم أمرٍ معيّن، وتبادل أطراف الحديث عنه والإدلاءِ بوجهات النّظر عنه.
قبل بضع سنوات، قرّرت إنشاء برنامج للطّلاب، بتمويلٍ منّي، يُسمّى مجموعة الأبحاث حول العلوم والذاتيّة. فكرة هذا البرنامج هي أنّني سأدفع راتبًا جامعيًا لأيّ طالب من طلّاب المرحلة الجامعيّة الأولى لو اقترح مشروعًا يتضمّن ثلاث ركائز: العلوم والتوعية الذاتيّة وخدمة الآخرين. سوف يمتلك الطلّاب المشروع، ودوري فيه يقتصر على المساعدة، كما أنّ لديّ زملاء يشاركونني مهمّة المساعدة، ولكنّها مساعدة حرّة؛ إذ أنّهم لن يشاركوا في المشروع. إنّ المشروع ملكٌ للطالب فقط. اثنان من كلّ ثلاثة طلاب أتوْني أبْدَوْا إعجابهم بالفكرة لكنّهم اختَفَوْا بعد فترة لأنّهم كانوا ينتظرون منّي إخبارهم بما يجب عليهم فعله، أمّا أولئك الذين استمروا في العمل غمروني بإبداعهم وذكائهم، ذلك لأنّه قد تمّ إطلاق العنان لأفكارهم ليكونوا كما كنتُ عليهِ عندما كنتُ في السابعة عشرة من العمر في كلية كولومبيا: يافعٌ ذكيّ مع شخص يسأله عن رأيه في كذا وكذا.
كان أوّل برنامج هو برنامج تطوّعيّ يتضمّن العمل مع الأشخاص الذين يحتضرون في مستشفى Terence Cardinal Cooke. أنا وصديقي، الذي كان المدير الطبيّ وقتذاك، قد أشرفنا على طلّاب المرحلة الجامعيّة الأولى المتطوّعين ليكونوا مع النّاس ممّن قاربوا على الوفاة. بعد ذلك بسنتين، قالت لي إحدى الطالبات: “لماذا لا نحصل على اعتماد أكاديميّ على هذا؟”، فذهبتُ إلى المسؤول بخصوص هذا فقال لي: “بوب، ألا تعرف أنّ الجلوس مع المُحتضرين ليس موضوعًا أكاديميًّا؟”، لذلك عُدتُ إلى الطالبة وقلتُ لها بأنّه لا يمكننا الحصول على الاعتماد. فقالت: “بوب، ألا تعرف، يجب أن يكون لديك منهجٌ دراسيّ لهذا ليتمّ اعتماده؟”. أنشأت الطالبة منهجًّا دراسيًّا خاصًّا بهذا العمل: أربعة عشر أسبوعًا، وأربع عشرة مُتطلّب قرائيّ مختلف، وأربع عشرة طريقة مختلفة لمعالجة قضايا نهاية الحياة. وحدّدت أربع ساعات أسبوعيًّا للخدمة التطوعيّة، بحيث أيًّا كانت القراءة، فإنّها تتعلّق بتجربتهم في التّطوّع. يقوم رئيس طبّ الرعاية التلطيفيّة في كولومبيا الآن بتدريس هذا المنهج، إنّه أمر يجذب الكثير من الطلّاب، وأحيانًا يزيد عدد الطلاب الراغبين بدراسته عن عدد المقاعد المتاحةِ فيه، إنّه يعادل أربع نقاط من 120 نقطة للحصول على درجة أكاديميّة. أخبِرني بأيّ مكانٍ آخر في العالم يمكن ليافعٍ يبلغ من العمر سبعة عشر أو ثمانية عشر عامًا إنشاءُ برنامجٍ يعيش لسنواتٍ؟ إنّ البرنامج الدراسيّ في عامه الرابع الآن.
هذا ما أفعلُهُ، إنّني أستخدمُ نفوذ سلطتي ولقبي لمنح الطلّاب تجربة التّملّك. كل شخصٍ أعرفه من أيّ عمرٍ يحملُ بعض عناصر القلق الزّائف (هل أنا جيّدٌ بما يكفي كي أتواجد هنا؟). إنّني أذكُرُ جيّدًا، ولا أعرف أيّ شخصٍ خالٍ منه تمامًا. هذه هدية عظيمة للطلّاب لأنّ هذا يُخبرهم بأنّهم يمتلكون شيئًا يجعلهم جزءًا من المكان. وهي هديّة رائعة لترى ثمارها، فبعد خمس سنواتٍ، يتخرّج الطّلّاب، وينطلقون في الحياة، ثمّ يكوّنون عائلات، ويزاولون مهنةً ما، ثمّ يبقون على اتّصال.
لقد جرّبتُ وخَبُرتُ قدرة الأسرة غير البيولوجيّة، وأودّ توسيعها بحيث تكون الأجناس البشريّة عائلة غير بيولوجيّة، وهذا أمرٌ تكنولوجيّ أودّ العمل عليه مع الآخرين.
[1] – إذا كان المؤلف يقصد التطور الكبروي، فهو غير مثبت علميا إلى الآن. -المراجع.
[2] – هذه وجهة نظر الكاتب، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المنصة.
[3] – ساد منطق أرسطو العالم 2000 سنة، ثم أضحى جزءًا من الماضي، فصمود فكرة 150 سنة ليس دليلا على شيء. -المراجع.