- إبراهيم بن ممدوح الشمري
- تحرير: عبد الرحمن بن سليمان الميمان
١
ثمَّة مَشاهدُ كلَّما تشاغلت النفس بغيرها هبَّت (نسائم رمضان) قائلةً: ﴿سَنُعِيْدُهَا سِيْرَتَهَا الأُوْلَى﴾، فيتسرَّب منها ندًى يُبلِّل جدار الذاكرة، فيُحيي العهود الغابرة.
ومِن المشاهد القائمة في ذاكرتي –وتَجدُّدُ العهد برمضان يقدحُ زنادها–: مرأى عمِّ والدي رحمه الله في خاتمة كل رمضان وهو يبكي بكاءً تتهشَّم منه الأرواح، وتتحطَّم منه النفوس، وتتقلَّع منه الدموع، يبكي لأن رمضان قوَّض خيامه راحلًا، وكأنَّه يناديه ويناجيه قائلًا: (مهلًا رمضان)!
إذا عرَض لي ذلك المشهد عُدت على نفسي أجوس خلالها لعلِّي أرى فيها توثُّبًا لمواسم الخير؛ لئلا تكون فيمن كره الله انبعاثهم فثبطهم.
ثم تَجُول الذاكرة مرَّة أخرى فتلتقط مشهدًا آخرَ، كان يتجدَّد ليلةَ كلِّ سبع وعشرين، فنحن مع ليلة مختلفة؛ إذ كنا مع والدي حفظه الله ننطلق بعد المغرب إلى مسجد الشيخ الزويد القريب حينها من مستشفى التخصصي ببريدة.
يصلِّي الشيخ فيقرأ في كل ركعة سورة قصيرة، ابتداء من سورة الفيل، حتى يختم، وكان يقتطع الصدر الأول لتعظيم الله والثناء عليه والتمجيد له والتحميد، ولا يزال باكيًا منذ الركعة الأولى حتى يختم دعاءه الطويل، وقد أثار من المصلِّين مكامن القلوب المثقلة بالآثام والحرمان، فجعلها تضجُّ ببكاء مرير.
ثم بعد تلك السنوات باحتْ لي والدتي بمكنون سرِّها في لحظةِ مُكاشَفة، فأخبرتني أنها لما قنَت الإمام بكَتْ بكاءً شديدًا وكانتْ حديثةَ عهد بفَقْد بعض أبنائها، وكأنها تشتكي إلى الله حالها، وتستودعه ما بقي من ماءِ عينها، وتجدّد ذكرى بينها.
وكان أخي أحمد رحمه الله قبل خمسة عشر عامًا أَقْبَلَ على الله في رمضان، فكان للخشوع عليه أماراتٌ لا تخفى، وللصلاة والقرآن معه قصَّة تُروى، ثم أَتْبَعَ رمضان بستٍّ من شوال، لكن الله قضى عليه بالموت فيه.
٢
إن رمضان هو الزمان الذي نزل فيه القرآن، وصار بينهما وشائجُ لا تبلى، وهو الذي وقعتْ فيه غزوة بدر الكبرى، ففرَّق الله بها بين لواء الحق، وعصائب الكفر.
والنبي ﷺ (كان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن). وقال ابن عبد الحكم: “كان مالك إذا دخل رمضان يفرُّ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف”.
وكأنَّ جموعًا من الصالحين حين يبادرون صيام الست من شوال؛ لأنها تُشاكِل الشهر الكريم في نَسِيمها ونعيمها، فيصومون في ثاني العيد، وكأنهم يتشبَّثون بركائب رمضان قائلين: (مهلًا رمضان)!
إنما مثَل المؤمن إذا أقبل عليه رمضان مثل الظامئ الذي قد جفاه الزمان وأهله، وعلاه غبار الدهر، وكواه لهيب القيظ، وأضناه كدَر العيش، فأدرك نهرًا يتدفَّق فصار يغترف منه، مرَّة يتبرَّد به، وأخرى يغسل درنَه، وثالثة يشرب بها، وربما يرتشف قطرات يلتذُّ بها، تتساقط على جوفه زُلالًا نديًّا.
وكذلك المؤمن إذا وصل رياض رمضان جعل يتقلَّب في جداولها وخمائلها، فمرة يجدِّد عهده بالله، وأخرى ينخلع من ثياب الخطايا، وثالثة ينغمس في معاني القرآن قراءة وتدبُّرًا، ورابعة يتفقَّد قلبه أهو في ذُرا الإيمان أم يرتكس في أوحال الغفلة والنسيان.
إن أيّام رمضان مثل الغمام الذي يجري رُخاءً حيث أصاب، ومثل الكرام يمرّون سِراعًا حين الإياب، فـ(مهلًا يا رمضان)!
الله يرحم من مات منهم ويغفرلهم _ ويطيل في عمر الحي منهم _ ويبلغنا الله وإياهم رمضان لا فاقدينا ولا مفقودين… اللهم آمين.