- أحمد مقرم النهدي
من يعِش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً..
عبارة نبوية عظيمة، فلا يزال استمرار العيش وامتدادُ الأيام يأتي بالاختلافات الكثيرة على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية؛ بل إنَّنا عشنا حتى رأينا العجب من آيات الله تعالى في آثارٍ أحدثتها آية واحدة فقط لم تكن في البال ولا على الحسبان؛ ولله جنوده في السماء والأرض وما يعلمها إلا هو، وصدق الله إذ يقول: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59].
وقد تنوعت عبارات المفسرين في بيان المراد بهذه الآيات التي يرسلها ربنا تعالى، فمن قائل: هو الموت المتفشي الذي يكون بسب وباء أو مرض، ومن قائل: هي معجزات الرسل جعلها الله تعالى تخويفًا للمكذبين، وثالث يقول: آيات الانتقام تخويفاً من المعاصي.
وهذا الإمام ابن خزيمة: يبوب على أحاديث الكسوف بقوله: باب ذكر الخبر الدال على أن كسوفهما تخويف من الله لعباده، قال الله عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}.
وكل هذه العبارات ـ في تنوعها ـ تشير إلى أن الآيات لا يمكن حصرها في شيء واحد، وما ذكره السلف -رحمهم الله- إنما هو عبارة عن أمثلة لهذه الآيات، وليس مرادهم بذلك حصر الآيات في نوع واحد منها، وهذه هي عادة السلف في أمثال هذه المواضع عندما يفسرونها.
إنَّ اعتيادَ البشر على الأوضاع الطبيعيَّة واسترسالَهم مع سَيرُورةَ الحياة يجعلهم في كثير من الأحيان يعتقدون ألا شيء قد يتغيَّر ويتبدّل؛ وبناء عليه تستمر حياتهم بشكلها الطبيعي دون توقع أو ترقب لتداعيات لولا أن هناك من يسيِّر الكون ويدبر أمره؛ أمَّا أن يأتيَ حدث عجيب كحدث كورونا الذي هزَّ العالم وأربكه على مدى عامين فأكثر -وهو ليس من أعظم آيات الله تعالى- هنا يعرف البشر حدودهم وقدراتهم.
وها نحن بعد انقضاء ثلث الشهر من رمضان 1443 هـــ نعيش رمضانَ طبيعياً اعتياديًا -إن صحت التسمية- بعد أن عشنا رمضانين بين حظرين؛ فأولهما كان جديدًا على كثير من المسلمين في أقطار المعمورة، فكلٌّ في بيته يترقب انقضاء تلك الأزمة على خير، ولا يتصوَّرون أنها انقضت وأنهم عاشوها وتجاوزوها متجدِّدين ومتكيِّفين، ورمضان التالي كان حظرًا مؤقتًا أو جزئيًا بعودة المصلين مع شيء من التباعد واختصار التراويح؛ ولكأني به كان تهيئة لرمضان الحالي الذي لا نزال نعيش أجواءه!
إنَّ أعجبَ أمر وأكثرَه ألماً في حادثة كورونا عند المسلمين ليس فقدَ من فُقِدوا فقط؛ فالموت حق وأسبابه متعددة؛ بل هو إغلاق المساجد من أجل التَّباعد في تلك الفترة والحفاظ على حياة البشر، وامتدَّ هذا الإغلاقُ حتى حينِ هلال رمضان 1441 هـ، ذلك الرمضان الذي لا يمكن أن ينساه من عاشه وقضاه؛ حتى لم نعد نسمع إلا صوتَ المؤذِّنين الذين كنت واحداً منهم، محظوراً في جامعي الذي أؤذن فيه، وإن كنت أهونَ من غيري إذ سكني عند المسجد الذي أستطيع فتحه متى شئت للصلاة تخفيفاً للمصاب؛ وإذا بي من حيث لا أشعر أزيد المصابَ عندما أراه فارغاً!
في ذلك الحظر انقضى رمضان بطوله ونحن نؤمِّل أن نسمع خبراً في منتصفه أو قبيل عشرِه الأواخر ولكن دون جدوى، ولا شكَّ أن في تلك المحنة منحةً عظيمة؛ إذ عَمُرت البيوت بالمصلَّيات والمصلين كباراً وصغارًا، وقرأ الآباء والأبناء من القرآن وتفسيره على أهاليهِم، وتداولوا الأحاديث الشيقة معهم ومارسوا الطهي والطبخ والمساهمة في أعمال المنزل، ومن الطريف أنهم عرفوهم أكثر ودَنَوا منهم أكثر، ورغم طول تلك اللحظات التي لم تُختَم بِعِيد أَلِق متأنِّق كالمعتاد في الأعياد -بل جاء على استحياء- إلا أنَّها انقضت ليصل رمضان التالي -الذي كان كالمداواة اليسيرة- منفتحاً والمساجد منفتحة والشوارع ملأى!
ومع ذلك يظل هناك حظر آخر وإن كان أهونَ من سابقه كثيرًا إلا أن الغرابة فيه ممتدة، فنظرة إلى تلك التراويح تجعلك تتساءل ما هذه التراويح التي تُصلَّى؟ وما هذه السرعة التي تُقضى بها؟ حتى لكأنك تشعر أن الصلاةَ كلَّها هي التسليمةُ (الأولى) الخفيفة التي كنا نفتتح بها التراويح فيما سبق؛ ومع ذلك فقد تفضل الله على عباده بكتابة أجورهم بقيام ليلة كاملة.
إن كان رمضان الماضي الأول فيه حظرٌ كامل إلا أنَّ حظرَ الرمضانِ التالي قد يكون أبلغَ دون مبالغة أو تشاؤم؛ فلذة التراويح مفقودة ولذة الاسترسال المنشودة مع كتاب الله غير موجودة، ويظلُّ هناك من المسلمين من يعيش في حظر إيماني وعقلي مهما توالت عليه الرمضانات؛ فلا قيام مع المسلمين ولا تلذُّذَ بالتراويح، والبعض يتحرى المساجد التي تنجز التراويح في ربع ساعة دون تحرير للعقل ولا القلب في التفكير في المغزى من هذه العبادة ولماذا شرعت في هذا الشهر الكريم. وعلى مختلف الأصعدة تجد حظر العقل والفكر؛ فعلى صعيد التجارة لا يزال التجار في شراهتهم وجشعهم الذي لا يزداد إلا في رمضان، بل ابتكروا طرائق استثمارية جديدة في رمضان الحظر؛ ففنِّيات كسب الأموال -وإن كان هذا أصل التجارة عمومًا- ملازمةٌ لهم بشكل جشع لا تؤثر فيه آيات الكون ولو حصل ما حصل، ومن التُّجار تُجَّار الإعلام الهابط والفن الفاسد الذي يزداد هبوطاً في شهر الرِّفعة والارتقاء، فلا تكاد تجد ممثلاً إلا وقد فكر في تمثيل الحظر وأجوائه ليكون وصمة عار جديدة في تاريخه الفني، وهكذا أمثلة متعددة ومظاهر متنوعة لا تملك معها إلا أن تتذكر قول الله تعالى: { قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِى ٱلْآيَاٰتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍۢ لَّا يُؤْمِنُونَ} [سورة يونس 101] قال ابن عاشور رحمه الله: (النظر: هنا مستعمل فيما يصلح للنظر القلبي والنظر البصري؛ ولذلك عدل عن إعماله عمل أحد الفعلين لكيلا يتمحض له، فَجيءَ بعده بالاستفهام المعلّق لكلا الفعلين بحيث أصبح حمل النظر على كليهما على حد السواء فصار صالحاً للمعنيين الحقيقي والمجازي، وذلك من مقاصد القرآن). ا.هـــ
إن تلك المظاهرَ مع هذه الآيات المخوِّفة تجعلنا نعتقد أن رمضان سيظل بين حظرين؛ فما إن خلَصنا من الحظر الأول الكامل حتى جاءنا الحظر النسبيّ الثاني، والكثير لا يزالون محظورين في الثالث الدائم؛ وهو الأدعى لأن نسعى إلى زواله مدى الحياة للتناغم والانسجام مع رمضان المعظم وإدراك مغازيه وفِقْه تشريعاته، وتصحيح مفاهيمه الخاطئة المنتشرة والمستفحلة والتي صحَّحها نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: “من لم يَدَعْ قولَ الزُّور والعملَ به والجهل فليس لله حاجة في أن يدعَ طعامَه وشرابَه”. رواه البخاري، كما أن حظر رمضان الدائم يظهر في العجز عن التعبد والميل إلى الدعة والركون حتى موعد الإفطار؛ مما يُفرّغ رمضان من محتواه، ويجعل المسلم يفكر فقط في نيل مشتهاه، وقضاء وطره وشهوته حتى منتهاه، ولكأنِّي بكثير من المسلمين يفرح بالعيد فرحة المتخلِّصين لا فرحة المخلصين -وشتان بين الفرحتين-؛ والمؤمن عندما يتناغم مع رمضان فلا بد أن يكون شجاعاً في قرار التعبد، مقبلًا على مليكه ومولاه مضحياً بالأمور التي حُرم منها؛ فشهر رمضان بقدر ما هو بحاجة إلى عُبّاد يفهمون مغزاه، فهو بحاجة إلى شجعان يتكيَّفون مع مجراه، ويدركون نعمة الله في توفير الأمن والأمان والرخاء؛ فمن المعاني الفريدة المغفول عنها أن الله يبتلينا بالرخاء كما يبتلينا بالضراء؛ فعبادات غيرنا في الشدة والضراء قد لا نصل إليها ونحن في الرخاء والنعماء.
نسأل الله أن يفتح على قلوبنا ولا يحجب عنها أنوار الهداية..
ويتم علينا العافية بأن يرفع الوباء ويدفعه دفعًا تاماً إنه على كل شيء قدير.