- تشاد أورزل
- ترجمة: محمد عبد الرحمن
- تحرير: عبير العتيبي
- مراجعة: مصطفى هندي
يُعتبر العلم سمة خاصة من سمات الحياة البشرية الحديثة لأنه ساعدنا في توسيع إدراكنا وفهمنا للعالم بمدى أبعد مما يمكننا رؤيته ولمسه. وبالرغم من ذلك فجوهر العلم – من ملاحظة وتجريب وتنقيح – كان موجودًا منذ فجر الإنسانية.
ففي سبتمبر/أيلول 1991، لاحظ اثنان من المتجولين الألمان في جبال الألب Ötztal -بالقرب من حدود النمسا وإيطاليا- جسمًا بُني اللون يشبه البشر يظهر من نهرٍ جليدي؛ فأبلغوا السلطات على الفور ظنًا بأنهم وجدوا جثة شخصٍ مات أثناء التنزة. وبالرغم من صوابهم في كون الجسم جثة، إلا أنهم أخطؤوا في تحديد زمن وفاته؛ لأن ما وجوده كانت جثة محنطة لرجلٍ مات في عام 3100 قبل الميلاد.
كانت المومياء –التي سُميت سريعا بـ أوتزي Ötzi نسبة للجبال التي عُثر عليها فيها – لرجل في منتصف عمره من العصر النحاسي، حيث قُتل بسهم من الخلف، وتجمد جسده سريعا في النهر الجليدي مع ملابسه وباقي ممتلكاته؛ مما ساعد ذلك في الحفاظ عليها بشكل كبير- .
وعلى مدار السنوات الـ 29 الماضية، كان محط اهتمام تحقيقات علمية مكثفة باستخدام مجموعة واسعة من التقنيات، كتسلسل الحمض النووي لتحديد أنواع الجلود المستخدمة في صنع ملابسه، وتحليل النظائر المشعة لتحديد مصدر خام النحاس في فأسه. وبعد كل هذه الدراسات تمكَّن العلماء من سرد أحداث أيامه الأخيرة بشيءٍ من التفصيل؛ حيث قُتل في أوائل فصل الصيف بعد أن أُصيب في قتال قبل بضعة أيام. وكانت آخر وجبتين له مكونتين من اللحم والحبوب تناولهما في مكان أقل ارتفاعا بكثير من المكان الذي وُجد فيه مقتولا، مما يشير ذلك إلى سرد حي للمعركة أوالملاحقة.
وبالطبع ستظل هناك بعض الجوانب الهامة عن أوتزي خفيةً عنا للأبد مثل: سبب قتله وشخصية قاتله.
والأمر الواضح تمامًا من جسده ومتعلقاته هو أن أوتزي جاء من مجتمع يتمتع بثقافة المنهج العلمي.
قد يبدو هذا إثباتًا مفاجئًا؛ وذلك نظرًا للاتجاه الحديث نحو إطلاق مصطلح “العلم” للإشارة إلى مجموعة من الحقائق أو ما تنتجه بعض المؤسسات المطورة حديثا كالمجتمعات المهنية، والجامعات البحثية، والمختبرات الوطنية.
ولكن الجوهر الحقيقي للمنهج العلمي هو أنه عملية لتطوير معلومات جديرة بالثقة عن العالم وكيفية عمله، وتتضمن هذه العملية أربع خطوات:
- تأمل العالم وتحديد بعض الظواهر المراد إدراكها بشكل أفضل.
- التفكر فيها بعناية والقيام بتطوير نموذج لكيفية وسبب عملها.
- اختبار النموذج بالتجارب مع تدوين المزيد من الملاحظات.
- مشاركة النتائج مع الآخرين، حتى يتمكنوا من الاستفادة منها أيضًا.
كما أن عملية تطبيق المنهج العلمي هذه ليست اختراعًا مستحدثًا، بل عملية قديمة بقِدَم الجنس البشري. وبقدر توَفُّر الأدلة على وجود البشر، نرى علامات تشير إلى وجود أثر لتطبيقها. وفي الواقع فإن ممتلكات أوتزي تحمل الأدلة المؤكده على وجودها داخل مجتمعه.
وأبرز ما في ممتلكات أوتزي فأسه المكوَّن من مقبض مصنوع من فرع شجرة الطقسوس ورأس مصنوع من النحاس شبه النقي مثبَّت بالمقبض بواسطة حبال جلدية وقطران. والنتيجة النهائية هي أداة متطورة وفعالة جدًا لقطع الأشجار كما أثبتت التجارب مؤخرًا.
وكل تلك التفاصيل القابعة في الفأس تشير إلى وجود العلم في عصور ما قبل التاريخ؛ حيث يتطلب الرأس النحاسي وحده إلى قدر كبير من الخبرة العلمية. ولأجل صنعه يحتاج أوتزي أولاً إلى جمع المواد الخام الصخرية ثم تسخينها داخل النار لإذابة النحاس ثم صب النحاس داخل قالب حجري أو صلصالي. وبالتالي فإنه من غير الممكن الشروع في هذه العملية دون وجود بعض الأساس العلمي؛ لأنه يجب على الشخص أولاً تحديد أنواع الصخور التي تحتوي على النحاس القابل للانصهار ثم تحديد درجات الحرارة المناسبة لإذابة ذلك النحاس والتي تحتاج إلى نار فحم ومنفاخ، وكل هذا لا ينتج إلا من خلال البحث والتطوير.
كما أن عملية تحويل النحاس المنصهر لشكل مناسب للمقبض يتطلب المزيد من التجربة والخطأ. وبمجرد ما يتم صنع الرأس، يجب تشكيل المقبض وتوصيله بالرأس وكل هذا يستوجب المعرفة بالعلوم الأساسية.
تعتبر ممتلكات أوتزي الأخرى أيضًا حصيلة خبرة كبيرة في العلوم. حيث تتكون ملابسه من جلود الحيوانات المختلفة المخاطة معاً. وحذاؤه المثالي للسير على الثلج، وهو في الحقيقة منتج معقد مكون من طبقتين معزولتين بالعشب.
وأيضا كان يحمل مجموعة من الأدوات لإشعال النار مثل القَدّاح (حجر لإصدار الشرارات النارية) وصوفان ( مادة سريعة الاشتعال) وحاوية فحم ناري. وكان لديه حقيبة الإسعافات الأولية والتي تشتمل قطعًا من فطر شجر البتولا المعروف الآن باحتوائه على مضادات الالتهابات، والمضادات الحيوية، وبعض الزيوت المستخدمة لقتل طفيل معين كان أوتزي مصابًا به داخل أمعائه. وبالرغم من أنه من الصعب تحديد الغرض المخصص لكل هذه الأدوات، إلا أنها تدل على أنه تم اختيارها عمدًا من قبل أشخاص يدركون ما يفعلونه؛ وهذه المعرفة لا تُكتسب إلا من خلال الدراسة والتجربة الدقيقة، وهذا ما يعنيه ” المنهج العلمي”.
نحن لا نعتبر أدوات إشعال النار أو الفؤوس النحاسية منتجات علمية لأن مكتشفيها قد أصبحوا في طي النسيان منذ أمد بعيد قبل اكتشاف اللغة المكتوبة. وحتى لو تمكنا من التحدث إليهم، فلن يستطيعوا وصف معرفتهم بأسلوب يُمكِّننا من تصنيفه كعلم بالمعنى الحالي، حيث لم يكن رجال القبائل المقيمين في جبال الألب قبل 5000 عام في العصر النحاسي على علم بالفيزياء الحديثة أو الكيمياء الحيوية، ولم يفسروا أدواتهم من منظور الجزيئات والذرات؛ لكنهم كانوا على دراية بكيفية إشعال الحرائق وكيفية صهر النحاس وعلاج الجروح بالفطريات. وأدركوا أيضًا كيف بإمكانهم اكتشاف الأشياء والاعتماد على خبراتهم السابقة عن طريق التأمل في العالم من حولهم، وملاحظة الآلية التي تعمل بها الأشياء، ومشاركة تلك المعرفة مع الآخرين.
وأحد أكبر الإشكالات ريبةً في تعريفنا لـ ” العلم ” هو أننا نُعرفه كمنتَج للحقائق والمؤسسات العلمية بدلاَ من تعريفه كعملية غريزية، وهذا يدعم الاعتقاد الخاطئ الذي يدَّعي أن العلم يتطلب قدرات خاصة بعيدة عن متناول قدرات البشر العاديين مما يؤدي إلى اعتبار العلم حكرًا على أهل النخبة. ونلاحظ هذا حتى في اللغة المستخدمة لوصف الأنشطة الأكاديمية، والتي تصنف التخصصات المعروفة باسم ” الإنسانيات ” كتخصصات غير علمية، والمغزى الواضح لذلك هو القول بأن العلم بالأساس غير إنساني.
وهذا أبعد ما يكون عن الصواب. فعملية المنهج العلمي من تدقيق وتأمل واختبار وإخبار يمكن لأي إنسان القيام بها، وهذا جزء من تراثنا جميعًا. وفي الواقع قد أتمادى وأؤيد ذلك الرأي الذي يُصرح بأن عملية المنهج العلمي من استقصاء وتنقيح هي ما يميزنا كبشر؛ لأنها ساعدتنا عبر آلاف السنين في تحسين أوضاعنا بشكل كبير. حيث سمحت لنا بتطوير الأدوات التي جعلتنا الجنس المهيمن على الأرض.
وعلى الرغم من عدم امتلاكنا لأسلحة خَلقية فتاكة، إلا أنه أصبح بمقدورنا صيد أي حيوان ببعض الأدوات الحجرية . وأيضا صنع الملابس من النباتات وجلود الحيوانات، وأتاحت لنا السيطرة على النار العيش في رقعات جغرافية قاسية المناخ. كما أن استئناس وتربية الحيوانات وتطوير الزراعة سمح لنا بتخزين الموارد، وبالتالي وفر ذلك لنا بعض الوقت اللازم للاهتمام أكثر بأشكال أخرى من العلم وتطوير الفن والأدب.
وصرنا نشغل كافة مساحات هذا الكوكب بل وفضاءه بعد أن كان أصلنا جنس غير مميز من الشمبانزي القاطن في جزء صغير من أفريقيا.[1]
كما شرعنا في توسيع نطاق ثقافتنا لتشمل كل شيءٍ؛ بدءًا من أشكال الفن والأدب إلى النظريات الرياضية التي تشمل الجسيمات متناهية الصغر والبُنية الشاملة للكون ككل. كل ذلك لم يكن ليتاح إلا من خلال المنهج العلمي؛ من ملاحظة العالم وصنع النماذج واختبار وصقل تلك النماذج، ومشاركة النتائج مع الآخرين للبناء عليها.
لذا فإن أوتزي – رجل الثلج – يقف كشاهد على قوة العلم، ليس فقط من خلال الأدوات والتقنيات الحديثة التي أتاحت لنا التعرف على جوانب كثيرة من حياته، بل أيضًا من خلال الأدوات القديمة التي حملها مع وفاته. فالفأس النحاسي والملابس ذات الطبقات وأدوات توليد النار هي في الأساس المنتجات النهائية لتطبيق الإنسان للمنهج العلمي والتي كان من الصعب استيعابها من قبل أحد أفراد الجنس الأول قبل 5000 سنة.
حملنا النهج العلمي إلى مسافات أبعد من تصوُّر عقولنا منذ العصر النحاسي من وفاة أوتزي إلى الآن؛ ومع وجود كل هذه الأسباب والسبل، فنأمل أن يأخذ ذرياتنا إلى أفق غير قادرين على تخيل وجودها.
[1] – هذه وجهة نظر الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع.