الفلسفة

صمود البراغماتية

لم تأفُل البراغماتية بعد ديوي، بل كانت التيار السائد والمهيمن على الفلسفة لما يقرب من مئة عام.

  • شيريل ميساك – روبرت ب. تاليس
  • ترجمة: مصطفى هندي
  • تحرير: عائشة السلمي

في بداية القرن العشرين، ظهرت في الولايات المتحدة حركة فلسفية مميزة عُرفت باسم البراغماتية. ورغم أن المصطلح يستخدم غالباً للدلالة على هوس تحصيل النتيجة والثمرة المرجوة، إلا أن مؤسسي البراغماتية – تشارلز ساندرز بيرس (1839-1914)، وويليام جيمس (1842-1910)، وجون ديوي (1859-1952)، وتشونسي رايت (1830-75)، وأوليفر ويندل هولمز الابن (1841-1935) – كانوا مفكرين أفذاذ. حيث قدم كل منهم إسهامات كبيرة في مجالات عدة بدءاً من المنطق، ونظرية المعرفة (الإبستمولوجيا)، وفلسفة اللغة، وفلسفة القانون، وفلسفة العلم، وفلسفة الأخلاق، والجمال، وفلسفة الدين، وأخيراً الفلسفة السياسية. وعلى الرغم من اختلافاتهم، إلا أنه قد شاع عنهم التفسير المعتاد للمذهب التجريبي الذي يرى أن ” الفعل ” هو محور تفكيرنا، بدءاً من الأفعال العادية والمتكررة وانتهاءاً بما نبدعه ونجربه لأول مرة. يكمن جوهر البراغماتية في ” المبدأ النفعي ” الذي صاغه بيرس ، ويرى من خلاله أن معنى ما نحمله من مفاهيم وأفكار يتحدد بالنظر إلى كيفية تأثيرها على أفعالنا.

ليس من المستغرب إذن أن يكون عنوان أحد أوائل الكتب حول تطور البراغماتية هو ” المعنى والفعل ” (1968). في هذا الكتاب، قدم الفيلسوف الأمريكي ثاير نظرة فاحصة على تأسيس البراغماتية التي أصبحت التيار السائد:

 البراغماتية هي مذهب فلسفي غالباً ما يُعرَّف على أنه نظرية للمعنى صاغها تشارلز بيرس في سبعينيات القرن التاسع عشر، وأعيد إحياؤها مرة أخرى في صورة نظرية للحقيقة في عام 1898 من قبل ويليام جيمس؛  وما فعله جون ديوي هو تطوير وتوسيع ونشر هذا التيار.

هناك فكرتان تعتملان في هذه المنطقة: الأولى مفادها أن بيرس وجيمس قدما نسخاً مختلفة من البراغماتية كانت بمثابة مقدمة أولية للبراغماتية المنهجية عند ديوي، الثانية ترى أن قصة تأسيس البراغماتية هي قصة تلاشي الاختلافات الفلسفية [ بين جيمس وبيرس ] واتحادهما معاً في فلسفة ديوي ، هذه النظرة التطورية لتاريخ البراغماتية خاطئة.

لا يحتاج المرء إلى تصفح الكتابات الأولى عن البراغماتية لتحديد نقاط الخلاف الجوهرية بين بيرس وجيمس وديوي . تأسست البراغماتية وسط نزاع مشهور بين جيمس وبيرس حول فكرته الرئيسية ألا وهي :” المبدأ النفعي “. رأى بيرس أن المبدأ النفعي أداة جيدة للتخلص من الهراء الميتافيزيقي؛ بالنسبة له، كانت البراغماتية ” وسيلة ناجعة للتحقق من معاني الكلمات المعقدة والمفاهيم المجردة “. جوهر هذا المنهج هو : لكي نفهم ما نحمله من مفاهيم وأفكار = يجب علينا أن ننظر إلى الآثار والنتائج التي تترتب عليها.

للتعرّف على كيفية عمل المبدأ النفعي سنذكر أحد تطبيقات بيرس : عقيدة الاستحالة الكاثوليكية ، أي تلك العملية الخارقة للطبيعة التي تقول بأن الخبز والنبيذ قد تحولا إلى جسد ودم المسيح ، دون وجود أي تغيير على الإطلاق في خصائصهما المحسوسة . يسأل بيرس : كيف يحدث مثل هذا التحول؟ وكانت إجابته هي : أن فكرة وجود الدم على صفة تحيل تمييزه تجريبياً عن النبيذ بكل طريقة ممكنة = ليست إلا هراء وكلام ” لا معنى له “. من خلال الإصرار على تحليل الكلمات والعبارات وفقاً ” لما هو ملموس ويمكن تجربته “، يهدف بيرس إلى ” استبعاد الأوهام ” من الفلسفة ، وبالتالي وضع البحث الفلسفي على المسار الصحيح.

كان جيمس غير راضٍ عن صياغة بيرس للمبدأ النفعي ، واقترح مفهوماً أوسع من مفهوم بيرس ،  ومن خلاله لا تكون البراغماتية أداة لتبديد ظلام الهراء الميتافيزيقي – كما زعم بيرس – بل لتسوية النزاعات الميتافيزيقية . اقترح جيمس أن علينا أن نضم للآثار العملية لفكرة ما الآثارَ النفسية المترتبة على الاعتقاد بها . في حين رأى بيرس أن المبدأ البراغماتي يكشف خواء ولا معقولية عقيدة الاستحالة ، اعتقد جيمس أن البراغماتية قدمت أطروحة لصالح المتمسكين بهذه العقيدة . إن فكرة أن المرء ” يستطيع أن يتغذى على جوهر الإله ذاته ” لها ” تأثير هائل “،[1] وبالتالي فهي ” التطبيق العملي الوحيد ” لفكرة الاستحالة . بالنسبة لجيمس ، فإن المبدأ البراجماتي يهدف إلى حل وتسوية النقاشات الفلسفية القديمة بدلاً من إلغائها .

هذا الاختلاف حول المبدأ البراغماتي ينطوي على الخلاف الضخم بين بيرس وجيمس حول الحقيقة . يرى بيرس أن الاعتقاد صحيح إذا كان ” غير قابل للدحض “؛ أو مرضياً لنا من الناحية العملية ؛ أو لن يخضع للتغيير؛ أو لن يؤدي أبداً إلى خيبة أمل ؛ وسيواجه إلى الأبد جميع تحديات العقل والحجة والأدلة . على الصعيد الآخر، قرر جيمس رأيه في الحقيقة والموضوعية :

     إن أي فكرة نستطيع أن نمتطي صهوتها – إن جاز هذا التعبير – أي فكرة تحملنا بيسر وسلالة بين أجزاء خبرتنا المختلفة ، بحيث تربط الأمور ربطاً كافياً وافياً… وتوجز وتوفر الجهد والعمل = هي فكرة صحيحة إلى هذا الحد ، صحيحة بهذا القدر ، صحيحة وحقيقية وسيلةً وذريعةً.[2]

“ربطًا كافياً وافياً ” بالنسبة لجيمس يعني أن تكون الفكرة ” أكثر إرضاءاً لأنفسنا ، ولا شك أن الأفراد يختلفون اختلافاً بيّناً في تحديد نقاط رضاهم . ومن ثم ، فإن كل شيء هنا – إلى حد ما – مرنٌ ومطاط “. لم يكن بيرس يرى أن الحقيقة مرنة ، وقال لجيمس: ” اعتقدت أن ” إرادتك للاعتقاد “[3] لم تكن إلا كلاماً مبالغاً فيه للغاية ، ومثل هذا الكلام يسبب حرجاً شديداً للرجل الجاد “. لقد سخر من ما اعتبره وجهة نظر جيمس: ” لا أستطيع أن أصدق ذلك ، وإني لرجل سوء لو فعلت “.

عندما ظهر ديوي على الساحة ، ظهرت بجلاء النظرة التطورية لنشأة البراغماتية ، حيث يكون فكر الفيلسوف المتقدم – بشكل طبيعي – مقدمةً لفكر المتأخر . بالنسبة إلى ديوي ، لم تكن البراغماتية تركز على التخلص من الهراء أوتسوية النزاعات الميتافيزيقية . بل سعى إلى تقديم نسق فلسفي لا تعرقله الألغاز والمشاكل التقليدية . لقد رفض استراتيجية بيرس المتمثلة في إجراء اختبار [ تجريبي ] للمعنى ، وبدلاً من ذلك ، فقد أضفى على الفلسفة طابعاً اجتماعياً ، وذلك لأنه رأى أن المشاكل الفلسفية التقليدية كانت نتاجاً طبيعياً للظروف الاجتماعية والفكرية في عصر ما قبل الداروينية .

وبما أن هذه الظروف لم تعد قائمة ، فقد نادى ديوي بضرورة تنحية المشاكل الفلسفية التقليدية جانباً لأنها ببساطة ” قشور لا قيمة لها ” ليحل محلها الصعوبات الجديدة الناشئة عن العلم الذي ينطلق من أسس داروينية . ويرى ديوي أن الداروينية أظهرت أن الطبيعة ليست ثابتة وأن العالم ليس به أحكام نهائية . ونتيجة لهذه النظرة الجديدة ظهرت أمامنا مشكلة مراجعة أفكارنا الفلسفية وقيمنا الأخلاقية بحيث تكون أدوات فعالة لتوجيه هذا التغيير الدائم . ومن ثم فإن المشكلة الفلسفية الرئيسية لعصر ما بعد داروين – بالنسبة إلى ديوي – هي جعل قيمنا مرنة قدر الإمكان بحيث تتماشى مع نمو قوتنا التكنولوجية ، وهو ما سيوجه المجتمع نحو حرية أوسع .

من هذه الناحية ، يقف ديوي موقف النقيض من  جيمس : براغماتية ديوي لا تهدف إلى حل النزاعات ، بل إلى إظهار أن البرامج الفلسفية غير البراجماتية غير قابلة للحياة [ في ظل الظرف الفكري الراهن ]. هنا ، قد يبدو ديوي في البداية متحالفاً مع بيرس ، لكن موقف ديوي تجاه التراث الفلسفي أكثر تطرفاً . من المؤكد أن منهج بيرس سيرى أن العديد من الادعاءات الميتافيزيقية التقليدية هراء لا معنى له . ومع ذلك ، فإنه يترك عدداً كبيراً من النزاعات الفلسفية دون حل . على سبيل المثال ، اعتقد بيرس أن الخلاف بين النزعة الإسمية والواقعية ( أي النزاع حول مسألة هل الكليات موجودة في الخارج أم لا ) كان نزاعاً فلسفياً حقيقياً وهاماً ، وكان منهجه فقط وسيلة لضمان أن هذه المناقشات الفلسفية المشروعة ستكون مثمرة . ” الميتافيزيقيا – في حالتها الراهنة – عقيمة ومتهالكة ، لكنها لا تحتاج إلى أن تظل كذلك ، لأن المبدأ البراجماتي سوف يتخلص من جميع القمامة الميتافيزيقية . إن كل تجريد يجب أن يصاحبه تعريف عملي ملموس ، وإلا فهو ثرثرة ولغو “.

على النقيض من ذلك ، لم يوجه ديوي انتقاداته إلى ادعاءات بعينها ، بل إلى أنساق فلسفية كاملة . فقد رفض الديكارتية ، والكانطية ، والهيومية [ نسبة إلى هيوم ]، والأفلاطونية ، والأرسطية وكل المدارس الفلسفية الأخرى لاشتراكها في عيب واحد : هو توظيف بعض الثنائيات التي عفا عليها الزمن . إن اتهام ديوي هو أن كل هذه المناهج قد عفا عليها الزمن : لا يقول أنه لا معنى لها ، بل إنها اتجاهات عقيمة وغير مجدية ويجب تجاوزها . بعبارة أخرى : في حين رأى بيرس البراغماتية قاعدةً وأداةً توجه البحث الفلسفي ، فقد رأى ديوي البراغماتية على أنها برنامج فلسفي لإعادة هيكلة الفلسفة والمجتمع .

هذه الاختلافات الفلسفية كانت معروفة جيداً لدى البراغماتيين الكلاسيكيين أنفسهم . دفعت كتابات جيمس ومن تأثر به بيرس في عام 1905 إلى التخلي رسمياً عن مصطلح البراغماتية pragmatism؛ ونحل فلسفته اسم الفعلانية pragmaticism، وهو الاسم الذي كان يأمل أن يكون ” قبيحاً بما يكفي حتى لا يسرقه أحد “، وقد كان كذلك بالفعل . نأى ديوي بنفسه بقوة عن نظرية جيمس في الحقيقة ، وفي مراسلاته الشخصية مع ديوي ، اشتكى بيرس من أن فلسفة ديوي كانت ” فضفاضة  ومفككة جدًا ” واستخدمت الكثير من ” الحجج الساقطة “.

لكي نكون واضحين ، فإن الطرح الذي قدمناه للتو لم يتطرق إلى العديد من التفاصيل الهامة . ومع ذلك ، فإن ما تم تسجيله يكفي لإظهار أنه من الخطأ تقديم البراغماتية على أنها منهج اقترحه في البداية بيرس ، وصقله جيمس ، وبلغ ذروته في كتابات ديوي . بالأحرى ، ما يجده المرء في كتابات البراغماتيين الكلاسيكيين هو سلسلة من الخلافات الحقيقية حول موضوعات فلسفية لا تزال باقية إلى اليوم ، بما في ذلك المعنى والحقيقة والمعرفة والقيمة والخبرة وطبيعة الفلسفة نفسها.

هناك فهم خاطئ آخر شائع حول تاريخ البراغماتية عبر عنه أحد البراجماتيين المتأخرين ريتشارد رورتي :

بحلول عام 1945، كان الفلاسفة الأمريكيون قد ضاقوا ذرعاً “بديوي” وبالبراغماتية . لقد سئموا من تكرار حقيقة أن البراغماتية هي فلسفة الديمقراطية الأمريكية ، وأن ديوي هو المفكر الأمريكي الأبرز في قرنهم …إلخ . لقد أرادوا شيئاً جديداً ، شيئاً يشعل حماسهم ويفجر طاقاتهم ، وما ظهر في هذه الفترة – نتيجة لظهور هتلر والعديد من الحوادث التاريخية الأخرى – كان التجريبية المنطقية ، وهي نسخة مبكرة لما نسميه الآن ” الفلسفة التحليلية “.

وبعبارة أخرى ، فإن ” سردية الأفول ” المشهورة عنه ( كما سنطلق عليها ) تؤكد أن البراغماتية هيمنت على الصنعة الفلسفية في أمريكا طوال فترة نفوذ ديوي ، من أوائل القرن العشرين وحتى أوائل الأربعينيات . ثم – بسبب الحرب في أوروبا وما نتج عنها من انزياح الأكاديميين إلى الولايات المتحدة  – اتخذ البحث الفلسفي في الولايات المتحدة ” منعطفاً لغوياً ” وبدأ التركيز على الفنيات والقضايا المنهجية المرتبطة اليوم ” بالفلسفة التحليلية “، ونشأ هذا الاتجاه في أعمال جوتلوب فريجه في ألمانيا ؛ وبرتراند راسل و جي . إي . مور ولودفيج فيتجنشتاين في إنجلترا ؛ ورودولف كارناب وموريتز شليك في النمسا .

اعتبر رورتي أن الفلسفة التحليلية الناشئة حديثاً ورماً خبيثاً ينخر في أقسام الفلسفة في أمريكا ، وأن ذلك الغزو الجديد قد نزع عن البراغماتية هيمنتها وأزاحها عن الصدارة . والأهم أن ذلك قد حدث بالفعل ، ولكن ليس عن طريق التناول النقدي لحجج وأفكار البراغماتيين ، بل ببساطة عن طريق إظهار أن البراغماتية هشة وغير متماسكة بما فيه الكفاية . لقد تراجعت البراغماتية – طبقاً لهذه السردية –  عندما بدأ الفلاسفة في الولايات المتحدة في تلقي مبادئهم الفكرية عن الفلاسفة التحليليين . وبعد أن هيمنوا على مناطق القوة في كل جامعات النخبة وبرامج الدكتوراه في الولايات المتحدة تقريباً ، درب التحليليون بسرعة الأجيال الجديدة من الفلاسفة على مناهجهم وأشربوهم أفكارهم . ولذلك فإن البراغماتية – وهي فلسفة أمريكية المنشأ – كانت تحتضر ، إلى أن بنى ما بقي لها من أتباع شبكاتٍ علمية مكرسة للحفاظ على المصطلح الكلاسيكي من الزوال .

ومع ذلك ، لازال في سردية ​​الأفول شيء من الحياة والصحوة . غنيٌ عن القول أن الفلسفة التحليلية أثبتت في النهاية أنها منغلقة على نفسها وموغلة في التجريد ومقطوعة الصلة بما يجري في المجتمع بصورة تجعلها لا تلقى رواجاً كبيراً . وإثْر تعافي الفلاسفة في الولايات المتحدة من لوثة التحليلية – وعلى رأسهم رورتي وهيلاري بُتنام وكورنيل ويست – أعادوا اكتشاف البراغماتية في أعمالهم التاريخية في السبعينيات والثمانينيات . ومن ثم عادت ” البراغماتية الجديدة ” إلى الصدارة مرة أخرى باعتبارها تطوراً رائداً في مرحلة ما بعد التحليلية في أروقة الفلسفة . يبدو الأمر كما لو أن البراجماتية تعود للحياة من جديد.

إلا أن هذا الإحياء والبعث لم يسلم من المُكَدِّرات . فقد شاع أن البراغماتية الجديدة موغلة في التحليلية ولا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنصوص البراغماتية الكلاسيكية . لقد حادت عن المسار ، ولم تعد براغماتية أصيلة . وعليه فقد تبع هذا الإحياء أفولٌ ثانٍ : فعلى الرغم من أن التيار الفلسفي السائد صار متصالحاً الآن مع بعض المفردات والأفكار البراغماتية ، إلا أنه تقبل البراغماتية في صورتها المشوهة التي روجها البراغماتيون الجدد . من وجهة النظر هذه ، لا تزال البراغماتية الكلاسيكية محجوبة بشكل غير مبرر.

وبالتالي ، ظهر هذا اللون من الكتابات المكرسة لإعادة إنتاج براغماتية ديوي لكن بصور مختلفة . وينطلق هذا النوع من الكتابات من الافتراض المسبق أن غير البراغماتيين يجهلون البراغماتية ؛ وبناءاً على ذلك ، هناك نرى فيها سرداً متكرراً هو أنه يجب إعادة اكتشاف فلسفة ديوي حتى تتهيأ لها الظروف التي تمكنها من ” إعادة تنشيط ” التيار الفلسفي السائد . إن الإنتاج المطرد للمجلدات المكرسة لإثبات أن ” فلسفة ديوي مستمرة “، و” إعادة اكتشاف ” أفكاره واستعادة ” دروسه ” أمر مثير للشفقة .

كانت النتيجة – التي قضت على آمال البراغماتية – هي : أن الموقف الناتج يرقى إلى العزلة الممنهجة . مدفوعين بسردية أن الماضي كان سلسلة من الاضطهاد ، وبقناعة أنه لم تحدث أي تطورات منذ أن شرع ديوي = بنى المخلصون للمصطلح الكلاسيكي مشروعَ استرجاع البراجماتية ليقود حديثهم فيما بينهم عن الأوقات العصيبة التي وضعهم فيها سقوط البراغماتية . لا يمكننا تصور استراتيجية موثوقة لتهميش البراغماتيين الكلاسيكيين ، لكن جزءاً كبيراً من سردية الأفول هو في حد ذاته مضل .

يعتمد هذا التفسير لتاريخ البراغماتية على الادعاء بأن الفلسفة التحليلية التي وصلت إلى أمريكا الشمالية في ثلاثينيات  القرن الماضي ( والتي تحمل اسم ” التجريبية المنطقية ” و” الوضعية المنطقية “) كانت نقيضاً للبراغماتية . هذا غير دقيق ، فقد كانت هناك أوجه تشابه ملحوظة بين البراغماتية والتجريبية المنطقية ، وقد تطور كل تيار متأثراً بالآخر.

عندما وصل التجريبيون المناطقة إلى الولايات المتحدة ، وجدوا بيئة يمكن أن تزدهر فيها أفكارهم ويعلو فيها شأنهم . ولم تكن من وجهة نظرهم بيئة عدائية ، حتى أنهم لم يحتاجوا إلى اقتلاع الأفكار التي وجدوها متجذرة هناك بالفعل . كما قالت المنطقية رُوث باركان ماركوس عن الفترة التي كانت فيها طالبة دراسات عليا في قسم الفلسفة بجامعة نيويورك الذي كان يرأسه لعدة عقود تلميذ ديوي البارز ” سيدني هوك ” : ” ازدهرت البراغماتية وتعايشت جنباً إلى جنب مع الوضعية المنطقية ومشتقاتها : التجريبية المنطقية والتجريبية العلمية “. تخرجت رُوث في عام 1941، لكن هوك استمر رئيساً لقسم الفلسفة في جامعة نيويورك حتى عام 1969، وحافظ على طابعه البراغماتي .

رأى الوضعيون المناطقة أن الفلسفة يجب أن تُفْصح عن نفسها وأن تُصاغ بلغة علمية واضحة ، ومن هنا بدت معظم الإجابات التقليدية عن الأسئلة القديمة غير مجدية وبلا معنى لأنها لا يمكن اختزالها إلى ” لغة الملاحظة “، ولما كانت غير قابلة للتحقق التجريبي فقد اعتُبِرت ” افتراضات زائفة “. لاحِظ الشبه الكبير بين مقولة الوضعيين المناطقة وبين مبدأ بيرس البراغماتي ، وكذلك الالتزام بإعادة صياغة الفلسفة في ضوء مخرجات العلم المعاصر ، وهو موجود أيضاً لدى ديوي .

والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن نظرية المعرفة ونظرية الحقيقة التي ظهرت بجلاء في الفلسفة التحليلية ، متجسدةً في التجريبية المنطقية في ثلاثينيات القرن العشرين وحتى أوج ذروتها في الخمسينيات والستينيات ، = كانت في الواقع براغماتية . في عام 1932، صاغ أوتو نيوراث الأصل العام الذي تنطلق منه نظريته عن الحقيقة والمعرفة في صورة الاستعارة الكلاسيكية التي اشتهرت عنه وحظيت بتأييد واسع ، حيث قال :

لا توجد طريقة لتقعيد بيانات ملاحظة موثوقاً بها ومؤمَّنة بالكامل بحيث تصلح أن تكون نقاط انطلاق للعلوم . لا يوجد ما يعرف بالصفحة البيضاء ،[4] نحن مثل البحارة الذين يتعين عليهم إعادة بناء سفينتهم في البحر المفتوح ، دون أن يكونوا قادرين على تفكيكها على مرفأ جاف وإعادة بنائها من مكونات أفضل .

قدم بيرس تشبيهاً مماثلاً بنفس المضمون : فقد شبّه الباحثين بالأشخاص الذين يمشون على أرض موحلة ، ولسان حالهم أننا سنظل ثابتين على هذه الأرض ما دامت تحملنا ، وعندما تظهر عليها علامات الانهيار فسنتركها إلى غيرها . ” المعرفة ليست معصومة ، وهي دائماً محل مراجعة وتمحيص ، وإننا نفسح المجال لغيرها عندما تضربها الخبرة والتجربة بمخيط الشك “. وكما قال أحد التجريبيين المناطقة هانز هان ” بما أننا نرفض النظرة الميتافيزيقية القائلة بأن سمة الحقيقة هي انسجامها مع الواقع – على الرغم من أنه لا يمكن تأسيس وإثبات مثل هذا الانسجام – فإننا نؤيد وجهة النظر البراغماتية المتمثلة في أن حقيقة النظرية أوالادعاء فرعٌ عن [ إمكانية ] تأكيده “. باختصار ، كان كلٌ من الوضعيين المناطقة والبراغماتيين متشككين حيال الميتافيزيقا الظاهرة في النظرية التناظرية للحقيقة ،[5] ولاحتوائها على مفهوم ” الشيء في ذاته “[6] الذي لا يمكن الوصول إليه . ومن ثَم سعى كلاهما إلى نظرية الحقيقة التي تكون فيها الادعاءات الحقيقية هي تلك الناجحة [ براغماتياً ] ويمكن إثباتها.

في الواقع ، كانت الفلسفة التحليلية فترةَ ما بعد الحرب في الولايات المتحدة يهيمن عليها تلاميذ البراغماتي الكبير كلارنس إيرفينغ لويس ( الذي تأثر كثيراً بـبيرس ). في فترة وجوده في جامعة هارفارد ، درَّس لويس ثلاثةً من عمالقة فلسفة القرن العشرين هم : ويلارد فان أورمان كواين و ويلفريد سيلارز ونيلسون جودمان ، وجميعهم كانوا براغماتيين لكنهم رفضوا تبني هذا الوصف خشية أن يُلحقوا بـجيمس وديوي . من جانبه ، خرّج ديوي العديد من النجوم البارزين في هذه الفترة ؛ ومن أبرز هؤلاء هوك وإرنست ناجيل اللذان دافعا عن البراغماتية مع الحفاظ على مناصب مرموقة وسيط نافذ في أقسام الفلسفة . تجدر الإشارة إلى أن كليهما شغل وظيفة رئيس القسم الشرقي للجمعية الفلسفية الأمريكية خلال سنوات الأفول المفترض للبراغماتية – ناجل في عام 1954، وهوك في عام 1959.

بالتأكيد ، عند النظر إلى الفلسفة داخل أروقة الجامعات طوال النصف الأخير من القرن العشرين ، يلحظ المرء تراجعاً تدريجياً في تأثير فلسفة ديوي ، لكن هذا لا يستلزم بأي حال من الأحوال تراجع البراغماتية بنفس القدر ، لأن ديوي لا يمثل ذروة التيار البراغماتي .

تنظر سردية الأفول إلى البراغماتية على أنها ضحية غزو أجنبي ، وفي نفس الوقت تعترف بحقيقة أن البراغماتية لم يكن لها تأثير يُذكر على الفلاسفة التحليليين في الخارج . وإحدى المناطق التي يشملها لفظ ” الخارج ” هنا التي كانت ( ومازالت ) تُعد أكثر عدوانية ورفضاً للبراغماتية هي إنجلترا. وغني عن القول أن أحد أشهر فلاسفة إنجلترا المميزين لم يكن معجبا بالبراغماتية . قال راسل إن كتاب البراغماتية الذي أصدره جيمس (1907) ” يشبه تيار الماء الساخن المنساب عليك ببطء شديد بحيث لا تعرف متى تصرخ “؛ كما قال أن ديوي كان ” رجلاً صالحاً لكنه لم يكن ذكياً “.

يمكن أن تكون كلمات راسل نابية ومتحاملة . لكن في الواقع ، لم يكن راسل رافضاً تماماً للبراغماتية . لقد احترم بيرس الذي كان – مثله مثل راسل نفسه – منطقياً بارزاً . تعلم راسل الكثير عن بيرس في عام 1914، أثناء زيارته لجامعة هارفارد لإلقاء محاضرات معهد لويل . لم يكن لقسم الفلسفة حديثاً إلا عن بيرس وفلسفته عندما كان راسل هناك ، ربما ذلك لأنه توفي أثناء فترة وجود راسل . وافق راسل بعد ذلك على طلب العودة إلى جامعة هارفارد والمشاركة في حلقة دراسية حول بيرس وتحرير المجلد الأول من أوراقه التي جمعت بعد وفاته ، لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى حالت دون ذلك ، وانتهى الأمر براسل في السجن بسبب أنشطته المناهضة للحرب . لكنه بقي مهتما بفلسفة بيرس . استكشف راسل في كتابه ” تحليل العقل ” (1921) بطريقة إيجابية الفكرة البراغماتية المتمثلة في أن الاعتقاد هو ميل إلى الفعل والسلوك .

في ذلك الوقت، كان الفيلسوف الصاعد فرانك رامزي ، الذي ظهر على الساحة الفلسفية من خلال طريق قسم الفلسفة في كامبريدج في أوائل العشرينات من القرن الماضي = براغماتياً حتى النخاع. كان لديه ميول براغماتية منذ أيامه الأولى في الجامعة ، وقد عزز راسل هذه الميول كما يقول هو عن نفسه . في عام 1923، قرأ رامزي المجلد الأول من أوراق بيرس التي جُمعت بعد وفاته وتوسعت براغماتيته وازدادت قوة ورسوخاً . الأهم من ذلك ، أن رامزي قدم إسهامات مميزة في الفلسفة التحليلية وفلسفة اللغة والمنطق ونظرية الحقيقة.

حلل رامزي الفكرة البراغماتية التي مفادها أنه يجب علينا ألا نحاول تقديم دليل على صحة الاستقراء مثلاً لأن تلك المحاولات غير مجدية ، ولكن بدلاً من ذلك ، يجب علينا أن نبرهن على ذلك من خلال إظهار مدى أهميته العملية في الممارسة والتطبيق . كما قدم مقاربات براغماتية تتمحور حول دور الفرد أوالمراقب للاحتمالات والسببية والقوانين العلمية . وقال – مثل بيرس – أن الاعتقاد هو أصل الفعل وغلافه ، واستخدم تلك الفكرة في معرفة كيفية قياس المعتقد الجزئي وتأطير وتشكيل الاختيار . لقد انجذب إلى نظرية بيرس للحقيقة وتوفي في سن 26 ، أثناء عمله على كتاب كان يحاول حل هذا الأمر .

في عام 1929، أي قبل عام من وفاته – وهو نفس العام الذي عاد فيه فيتجنشتاين إلى كامبريدج بعد  اعتزاله وعمله مدرساً في النمسا – عزز رامزي حججه البراغماتية ضد نظرية فيتجنشتاين القائلة بأن اللغة هي التي ترسم العالم ، وما لا يمكن صياغته بلغة فيتجنشتاين المنطقية هو نوع من الهراء ، أو ضرب من التصوف الباطني . يمكن القول أن فلسفة فيتجنشتاين اللاحقة ، التي صيغت في كتابه ” تحقيقات فلسفية ” (1953) وكتابات أخرى ، هي أيضاً نوع من البراغماتية بتأكيدها على أولوية الممارسة والمعنى كاستخدام ، وكما اعترف فيتجنشتاين نفسه فقد كان متأثراً برامزي بشدة.

في العقود اللاحقة ، غيرت هذه المقاربات البراغماتية  – فلسفة رامزي و فلسفة فيتجنشتاين المتأخرة – وجه الفلسفة البريطانية . كان فيتجنشتاين مؤثراً على نطاق واسع ، لاسيما في أكسفورد . في حين كان رمزي أقل شهرة و تأثيراً منه و بالكاد تجاوز كامبريدج . أعادت أجيالٌ من فلاسفة كامبريدج اكتشاف أفكاره دون كبير عناية ودون تقدير للمكانة التي أوصلهم لها رامزي . ومع ذلك ، فإن الأطروحات البراغماتية والحجج والمخاوف عمت الفلسفة التحليلية التي سادت في أكسفورد وكامبريدج طوال النصف الثاني من القرن العشرين . وهكذا فإن سردية الأفول لا تفشل فقط كأطروحة لمسيرة البراغماتية في الولايات المتحدة ، بل أيضاً في إنجلترا.

على عكس رورتي وأولئك الذين يؤيدون سردية الأفول ، فإن البراغماتية كانت في الواقع حاضرة ومتماسكة . بالطبع ، الأمر مختلف فيما يتعلق بمصطلح ” البراغماتية “. ففي الولايات المتحدة ، تراجع المصطلح ولم يعد يحظى بتأييد كبير ، ولم ينتشر في إنجلترا . ومع ذلك ، يجب أن نتذكر أن معاني البراغماتية كانت محل نزاع منذ أن اختلف بيرس وجيمس حول المبدأ البراغماتي . في الواقع ، بحلول عام 1925، تخلى ديوي نفسه عن المصطلح ولم يعد يستخدمه . وقد عبر كواين بوضوح عن أحد أسباب فشل المصطلح وعدم انتشاره ، حيث صرح في عام 1981 أنه يمكن التخلص منه على أساس مناسبة تماماً هو أنه ” يسبب حرجاً وفشلاً للبراغماتية ولا يجدي نفعاً “.

لكن البراغماتية لم تكن أبداً مسألة مسميات أومصطلحات . إن المبدأ البراغماتي هو بحد ذاته نوع من المقاومة للهيمنة التي يمكن أن تمارسها المصطلحات على عقولنا . بدلاً من ذلك ، كانت البراغماتية دائماً عبارة عن سلسلة من الخلافات بين فئة معينة من الفلاسفة التجريبيين حول الحقيقة والمعنى والبحث والقيمة . والوعي العميق بتاريخ كل من البراغماتية والفلسفة التحليلية ، يوصلنا إلى أن البراغماتية لم تأفل ولم تُهَمَّش بعد ديوي ، بل كانت قوة ثابتة ومهيمنة على الإنتاج الفلسفي في الولايات المتحدة وأماكن أخرى لما يقرب من مئة عام . وعندما يتعلق الأمر بالتراكيب والمصطلحات الفلسفية ، فإن البراغماتية هي من بين الأكثر نجاحاً في تاريخ الفلسفة.

 

المصدر

[1] – يقصد أن من أخذوا القربان المقدس (الخبز والنبيذ) يتغذون على جوهر الإله ذاته لأنهما جسد ودم المسيح ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا.(المترجم)

[2] – لم يذكر الكاتب مصدر هذا النص ، وهو وجميع نصوص جيمس مأخوذة من كتابه الأشهر “البراجماتية: مصطلح حديث لنمط فلسفي قديم”، انظر : البراجماتية، ترجمة: محمد علي العريان، تقديم: زكي نجيب محمود – المركز القومي للترجمة، 2008، ص80. (المترجم)

[3] – هذه مشاكلة لفظية لأن جيمس ألف كتابًا بعنوان “إرادة الاعتقاد” وعرّفها بأنها إرادة التسليم بمعتقدات قد لا يبررها العقل، ولكن تبررها المنافع العملية التي تنتج عنها، فهي لا تتضمن إيماناً اعتباطياً لا يميز بين الصحيح والفاسد من المعتقدات، بل تتضمن اختياراً حقيقياً ينشأ عن وعي بنتيجة لها خطرها. (المترجم)

[4] – يقصد أنه ليس لدينا أصل يمكننا أن نعتمده ليكون أساساً سليماً ومعياراً نزِن به معارفنا ، وفكرة الصفحة البيضاء في نظرية المعرفة عموماً تعني أن الأفراد يولدون دون محتوى أو معرفة عقلية سابقة ولذلك فإن كل المعرفة تأتي عن طريق التجربة أو الإدراك . وللمزيد انظر: https://plato.stanford.edu/entries/neurath/ (المترجم)

[5] – النظرية التناظرية للحقيقة تعني أن حقيقة أو زيف ادعاء أو جملة ما منوط فقط بمدى ارتباطها بالعالم وما إذا كانت تصف بدقة ( أي ، تتوافق مع ) هذا العالم، وتقرر أن المعتقدات الحقيقية والادعاءات الحقيقية هي التي تتوافق ” تتناظر ” وما هو كائن بالفعل . يحاول هذا النوع من النظريات فرض علاقة بين الأفكار أوالعبارات من ناحية ، والأشياء أوالحقائق الخارجية من ناحية أخرى .(المترجم)

[6] – راجع كانط: https://plato.stanford.edu/entries/kant/ (المترجم)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى