- نشر: TheSchoolOfLife
- ترجمة: أروى الغانم
- تحرير: سارة الحفظي
مُلِئَ التاريخ بقصص شخصيات استثنائية ماتت بحوادث مأساوية في سن الشباب، مثل: جون كيتس (٢٦عام) وإيميلي برونتي (٣٠عام) والإسكندر الأكبر (٣٣عام) وموتسارت (٣٥عام) وسيلفيا بلاث (٣٠عام) وأخيراً فان غوخ (٣٧عام). يُذكر أن الفنان الرومانسي البارع -الذي حاز على شهرة عالمية بعد رسمه للوحة طوف ميدوسا- ظهر متمدداً على سريره في شقته الباريسية الواقعة في شارع الشهداء، بعد أن لفظ أنفاسه الأخيرة وهو في الثالثة والثلاثين من عمره إثر إصابته بعدوى التيفوئيد والتي تفاقم وضعها بعد حادث ركوب.
عندما ننظر إلى قدر مساهمات هؤلاء الفنانين، قد يبدو لنا مروعاً كيف ماتت هذه المواهب الشابة؛ ولكن عندما نركز على التفاصيل التي نادرا ما تلاحظ تقفز إلى عقولنا فكرة جديدة؛ أليس من الممكن أنهم حققوا في سنواتٍ وجيزة أكثر مما حققه الكثير منا في ثمانية عقود؟ فدرجة التفاوت العالية بيننا وبينهم توحي إلى أننا ربما نبالغ كثيرا عندما نقيس عمر الأفراد بنهج واحد، وبدون أن نأخذ في الحسبان قدر ما يحدث لشخص ما بسنوات حياته. إن عاماً واحدا في يد شخص منفتح على التجربة، يُبدع، ويشعر بعمق، ويحب، ويُصول، ويُبهج هو “عامٌ حافل” على عكس من يعيش عاما كاملا لكنه عام منطفئ لا تُرى عليه علامات الحياة. يمكننا -من خلال المقارنة السابقة- اقتراح أن يُعطى الأول عمراً ذا وزن رقمي مختلف بعام واحد عن الثاني – أي لا يُحتسب عام في حياة جيريكو أو إيميلي برونتي بنفس الطريقة التي تحتسب فيها الأعوام لشخص آخر- ويمكن مضاعفته إن استحق الأمر. نحن في السفر نعلم أن يومين في مدينة واحدة يبدو كأنه عام في مكان آخر أقل إلهاماً، والأمر ذاته ينطبق في الحياة على نطاق أوسع، ليس كل من على قيد الحياة يعيشها على حد سواء، وكما أننا نحسب أعمار الكلاب لأخذ حجمها وتشريحها في الاعتبار، فقد نعيد نظرتنا إلى العمر بناءً على أعماق المعاني التي مر بها المرء، وليس إجمالي الأعوام التي تنفس بها. يمكننا تعديل الأعمار بالاستناد على الخبرة المكتسبة مهما كان التسلسل الزمني الأساسي الذي قد يزعمه، فيكون موت موتسارت الحقيقي بعمر 120 عام، وسيلفيا بلاث في 80 عاماً وجيريكو في منتصف السبعينات من عمره.
كل هذا له أهمية كبيرة؛ لأن حزننا على ماهيّة الموت يقلل من فكرة أن حياتنا لم تكن “طويلة بما فيه الكفاية” كما أسلفنا، ولكن لا يجدر بنا تقدير الحياة بساعاتها؛ بل بالحكمة والحب والذكاء التي قُضيت بها تلك الساعات، ونتيجةً لهذا فقد نُسجت العديد من الأساطير حول حياة البشر القصيرة، إلا أنه لم يكن لديهم أي شيء من هذا القبيل.
فليس من المهم أن نمتلك قدرات تؤهلنا للعبقرية في الشعر أو الرسم، ولكن المغزى أن نختار إلى أي مدى يمكننا أن نحيا بالصورة الهادفة والجيدة، وأن نحيا كما يجب. علينا ألا نبقى مذهولين أو محطّمين من عدد الأيام البسيط الذي دُوّن أمامنا، بل أن نركز على كيفية ملئها وهجاً وبريقا.
في رواية الفهد “Il Gattopardo – The Leopard” التي رسم أحداثها جوزيبي توماسي دي لامبيدوزا مشهد موت مهيب. أمير سالينا المسن فابريزيو كوربيرا -وهو المحور النفسي للكتاب- على شفا الموت، يرقد على سريره وحوله أقاربه ينتحبون عليه، سائلاً نفسه السؤال الأساسي المخيف: ما مقدار ما حييتُه من عمري؟ الجواب بالغ القلق: يمكنه أن يختار عدة أشهر من هنا وهناك، قبل أسبوعين من زفافه، وبعده بأسبوعين، وعدة أيام من وقت ولادة ابنه الأول، وساعات محددة قضاها في مرصده (وهو عالم فلك بارز)، وعدة ساعات من التغنج، والأوقات التي كان يقرأ فيها بصوت جهوري لأطفاله، ومحادثات مع صديق أو اثنين وبخاصة مع ابن أخيه؛ ولكن في مجملها ليست بالشيء الكثير: ربما عام أو عامين من أصل سبعين. إن قدّرنا واقع حياتنا بعدد الأوقات التي مررنا بها في حالة فَرط من السعادة، فإن الإجابة ستكون محزنة لكنها قد تكون الطريقة الصحيحة لتقدير طول العمر. يجب أن نصب جلّ تركيزنا على مدى جودة الحياة بصورة جيدة بدلاً من الأرقام المطلقة للأيام التي عشناها.
ما حياتنا في نهاية المطاف بالمدة القصيرة، ولكن كل ما نحتاجه هو ود وقلب رؤوم رؤوف صفوح، وما نفتقر إليه هو القدرة على اكتساب خبرات جمّة تزودنا بقدر كافٍ من الشجاعة والانفتاحية والتجاوب. قد نُحاط بالأحزان، ولكن لا يعني ذلك أن أبواب الأمل قد أغلقت، فربما تكون الصعوبة متحققة في العيش بشجاعة ووعي، والتحدي في حيواتنا هو أن ندرك كيف نحياها بعمق وليس أن نحياها بكاملها.
يصور الفنان جون سويني في معرض جثمان ممزق، معدته متدلّيه، ويبدو أن القفص الصدري اخترق مثل ذبيحة الجزار، ولكن ما يثير الرهبة والاستنكار يتمثل بعنوان العمل: “هل ما زلت غاضباً مني؟” ذلك الأسلوب مبتذل عمداً إلى جانب المصير الشنيع الذي حل بمن نعدّه رفيقاً سابقاً لشخص ما. ربما ذاك الجثمان المسكين الذي أمامنا قد كان قبل مدة وجيزة يمضي وقته في شقة، يتشاجر مع أحبائه، ويؤكد وجهة نظرهم تارة، ولا يسامحهم تارة أخرى، وغير قادر على المضي قدماً، تأكد أنه على حق ولكن لا يمكنه رؤية الأشياء بعيون الآخرين، والآن يُحكم على تفاهته من منظور الموت. أحقاً سنضيّع الحياة الوحيدة التي نعرفها في جدال عمن قلّل احترام الآخر؟ وعندما نكون خارج الثكنة الضيقة لعلاقتنا المرّة، أنحظى بفرص كثيرة من البهجة والدهشة؟ أنمضي إلى الموت دون ملء رئتينا بجمال الوجود؟ نحن لا نُحذّر من أننا سنموت، وهذه فكرة يمكن التعايش معها، ولكن نحذَّر من خطر مفزع غير شائع: الموت وسط عبوس طفيف.
لا يمكننا التحكم بالمدة التي نعيشها، ولكننا نستطيع أن نقرر مدى العمق الذي سنعيشه في حياتنا، وقد نضطر إلى إعادة التفكير في ماهية الوفاة “المبكرة”. إن ما قد يصيب فنان شاب تجاوز الثلاثين من العمر ليس بالأمر المقلق حقا، فربما يكون – في تقديرٍ منصف – في التسعينات من عمره أو أكثر، ولكن جلّ اهتمامنا هو من نحن في الوقت الحاضر، وحتى لو تجاوزنا منتصف العمر، فإننا بكل أسف نتجه إلى موت “مبكر”. هدفنا ليس المطالبة بعقود أخرى لن نعرف بالضرورة كيف نحياها، إنما اليقين من قدرتنا على فعل كل شيء في الأيام المقبلة لتعلم فن عدم الموت “بصورة مأساوية”.
اقرأ ايضاً: معنى الحياة في العالم الحديث