الفلسفة

هل كل تفكير حكيم يعد فلسفة؟

  • نيكول تامبو
  • ترجمة: صيته آل رشيد
  • تحرير: عبير الغامدي

لقد نشرت على نطاق واسع في الفكر السياسي الإسلامي، بما في ذلك إخراج موسوعة حول هذا الموضوع؛ كما أثّرت قراءة القرآن والفقه والفلسفة وتاريخ ابن خلدون من عالم ما قبل الحداثة في حياتي وفكري. ومع ذلك، فأنا لا أؤيد الدعوة التي أطلقها جاي إل جارفيلد وبريان دبليو فان نوردن لأقسام الفلسفة في صحيفة النيويورك تايمز, لحثهم على تنويع الدورات في الفلسفة الأفريقية, والهندية, والإسلامية, واليهودية, والأمريكية اللاتينية, والأمريكية الأصلية, ودمجها على الفور في مناهجهم. قد يبدو من واسع الأفق دعوة أساتذة الفلسفة لتدريس العلماء الآسيويين القدماء مثل كونفوشيوس وكاندراكورتي, بالإضافة إلى البيض مثل ديفيد هيوم وإيمانويل كانط. وبالرغم من ذلك، فإن هذا النهج يهدم ما يميز الفلسفة كتقليد فكري، ويدفع للتقاليد الأخرى مجاملة مشكوك فيها بقولها إنها مثلنا تمامًا. علاوة على ذلك، فإن هذا المطلب يغذي الحملة السياسية لإلغاء تمويل أقسام الفلسفة الأكاديمية.

نشأت الفلسفة في جمهورية أفلاطون, حيث عُرِفت على أنها السعي الدؤوب إلى الحقيقة من خلال الحوار المتبادل وإثارة الذهن، فهي تقليد يحدث بين البشر العاديين في المدن، وليس الحكماء والتلاميذ على قمم الجبال، ويتطلّب استخدام العقل بلا خوف حتى في مواجهة التقاليد الراسخة أو الالتزامات الدينية. يُعد كتاب أفلاطون أول نص للفلسفة, ونقطة مرجعية لنصوص متنوعة, كسياسة أرسطو, ومدينة الله لأوغسطين, والمدينة الفاضلة للفارابي, وجمهورية أفلاطون للفيلسوف الفرنسي آلان باديو (2013). وقد ذكر الفيلسوف البريطاني ألفريد نورث وايتهيد ذات مرة أن تاريخ الفلسفة ما هو إلا سلسلة من الهوامش على محاورات أفلاطون.  حتى الفلاسفة الذين لم يذكروا أفلاطون بشكل مباشر ما زالوا يستخدمون كلماته -بما في ذلك أفكاره- وتوجهه العام الذي يعطي الأولوية للحقيقة على الصلاح. إن الفلسفة هي حب الحكمة بما يتجاوز رابطة الدم أو الوطن. الفلسفة من حيث المبدأ متاحة للجميع، و الناس في جميع أنحاء العالم استجابوا لدعوة أفلاطون لعيش حياة مدروسة.

من ناحية أخرى، أشك في الحجة القائلة بأن كل التفكير الجاد في الأسئلة الأساسية يجب أن يُسمى فلسفة. تُعد الفلسفة إحدى الطرق العديدة للتفكير في العديد من الأسئلة, مثل أصل الكون, أو طبيعة العدالة, أو حدود المعرفة. حيث تهدف  في أفضل حالاتها إلى أن تكون حوارًا بين الناس من وجهات نظر مختلفة, لكنها كما ذكرت سابقًا هي حب الحكمة  وليس امتلاكها. وهذه الشخصية المضطربة غالبًا ما جعلت منها عدوًا للدين والتقاليد.

تأمل نظرية أبو حامد الغزالي -الشخصية البارزة في الفكر الإسلامي (1058-1111)- ؛ يروي الغزالي في كتابه المُنقذ من الضلال الوقت الذي قضاه في قراءة أفلاطون وأرسطو ومن تبعهم ظاهريًا من المسلمين؛ ويؤكد: “إلا أنه استبقى أيضًا من رذائل كفرهم وبدعتهم بقايا لم يوفق للنزوع عنها، فوجب تكفيرهم [أرسطو وأفلاطون]، وتكفير شيعتهم من المتفلسفة الإسلاميين، كابن سينا والفارابي و غيرهم”. كما أوصى الغزالي المسلمين “بإغلاق باب الفلسفة حفاظًا على عامة الناس ومنعهم من قراءة كتب الضالين”. وعلى الرغم من أنه يُقدّم بنفسه حججًا فلسفية، إلا أنه لا يريد الانتظام في سلك الفلسفة، ويُنسب إليه الفضل على نطاق واسع في محاولة القضاء على هذا التقليد بكتب مثل “تهافت الفلاسفة”. وإذا أراد المرء دراسة الفكر السياسي الإسلامي في القرون التي أعقبت الغزالي، فيجب على العلماء أن يدرسوا في المقام الأول علم الكلام والفقه وليس الفلسفة.

وبالمثل، قد يكون كونفوشيوس (551-479 قبل الميلاد) جديرًا بالقراءة، لكنه يخرج إلى حد بعيد عن الصورة التي نطلق عليها اسم فيلسوف.  في كتاب تعاليم كونفوشيوس يقول: “عندما يكون والد شخص ما على قيد الحياة، احترم نواياه؛ وبعد وفاة والده راقب أفعاله فإذ لم يغير أساليب والده لمدة ثلاث سنوات، فقد يسمى ابنًا بارًا”. يُقدّم كونفوشيوس عقيدة شاملة للحياة الخيرة تتضمن طاعة الوالدين واحترام كبار السن. على النقيض من ذلك، في الصفحات الأولى من كتاب جمهورية أفلاطون، يسخر سقراط من الرجل العجوز سيفالوس؛ لقلة فهمه  لمعنى العدالة. رسالة أفلاطون هي أن الفلسفة ليس لديها صبر على كبار السن الذين يحبون الأشياء كما هي ولا يريدون أن يتصارعوا على أرض الأفكار. بالنسبة للكونفوشيوسية، قد يبدو دفاع أفلاطون عن التفكير النقدي بمثابة وصفة للنزاع الأسري والتنافر الاجتماعي.

يراودني الشك في أن أقسام الفلسفة هي الموطن الأصلي لعلماء الفقه الإسلامي أو الأخلاق الكونفوشيوسية. تدعم أقسام الفلسفة تدريس وبحث المنطق (قواعد التفكير)، والميتافيزيقا (دراسة الوجود)، ونظرية المعرفة (الإبستمولوجيا)، وعلم الجمال، والأخلاق، والسياسة (السعي لتحقيق العدالة). إن الفلسفة كنظام أكاديمي متسق بقدر ما ينبع من التقليد السقراطي الأفلاطوني؛ لكن هل يجب على الفلاسفة التحدث مع علماء من مختلف التقاليد الدينية والأخلاقية؟ بالتأكيد نعم. لكن من غير المنطقي أن يضطر الفلاسفة لأن يكونوا على قدم المساواة مع الفقهاء أو المفسرين للدراسة كشرط أساسي للحصول على درجة الدكتوراه.

لفهم سبب أهمية حدود الفلسفة نحتاج إلى وضع هذا النقاش ضمن المناقشات الجارية حول تمويل التعليم العالي. في العام الماضي، قال السناتور الجمهوري ماركو روبيو: “نحتاج إلى لحّامين أكثر من الفلاسفة”، وهو تعبير صريح لوجهة نظر مشتركة على نطاق واسع بين دافعي الضرائب وصانعي السياسات الذين يبحثون عن أسباب لإلغاء أقسام الفلسفة أو خفض تمويلها أو إلغاء تمويلها بالكامل. في ذلك المقال الافتتاحي لصحيفة النيويورك تايمز، اتُهِمت أقسام الفلسفة بأنها “معابد لتحقيق الذكور من أصول أوروبية لإنجازاتهم”. المعنى الضمني هو أن الفلسفة الأكاديمية عنصرية ومتحيزة جنسيًا وتستحق زوالاً وشيكًا، حيث ستكون هذه أخبارًا سارة لواضعي السياسات الذين يريدون منع الأموال الفيدرالية من دعم دراسة الفلسفة في الكليات الأهلية أو جامعات الولاية.

بصفتي شخصًا محبًا للقراءة والدراسة وممارسة الفلسفة أحيانًا، فإنني أعتبر هذه مأساة.  دعوا أقسام الفلسفة تتطور بسلاسة حيث يقنع العلماء أقرانهم بأن مؤلف جديد أو فكرة أو تقليد جديد يستحق المشاركة. وشجعوا الجامعات على استكشاف طرق لتوسيع نطاق بحثها للتعرف على التقاليد الفكرية الأخرى. لكن مطالبة الفلاسفة بمعاملة الغزالي أوكونفوشيوس كواحد منهم أمر غير منطقي، ويوفر ذخيرة للأشخاص المستعدين لإبعاد الفلاسفة عن وسطهم.

المصدر
aeon

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى