- رامون هارفي*
- ترجمة: أنس بن سعود الجروان.
اسم الكتاب: التفسير الإسلامي المعاصر للقرآن
المؤلف: يوهانا بينك
سنة النشر: 2019
الناشر: Equinox Publishing
عدد الصفحات: 256
تدور دراسة يوهانا بينك[1] -التي خرجت في الوقت المناسب- حول فكرة مركزة ألا وهي: أن درجة التركيز على القرآن في الفكر الإسلامي المعاصر لا مثيل لها منذ السنوات الأولى للإسلام. فعلى الرغم من أن القرآن كان حاضرًا طيلة قرون عديدة من الدراسات والممارسة الإسلامية من مختلف التخصصات والتيارات، إلا أنه لم يكن مهيمنا أبدًا. فقط مع الحداثة، والضغط المعرفي للاستعمار، وانتشار التعليم= بدأ القرآن يتموضع في مقدمة وعي المسلم. ومع توسع وسائل الإعلام من خلال التلفاز، ثم الإنترنت، تمكنت الحداثة من تعزيز هذه المكانة.[2]
لا تسعى بينك إلى شرح أسباب هذه المركزية القرآنية الحديثة بقدر ما تسعى إلى استكشاف آثارها على التفسير كحقل علمي، وعلم التربية المجتمعية، وتشكُل الهوية في عالم العولمة. هذا لا يعني أن بينك لم تُعرّج على معالجة العوامل المؤدية إلى “تحول القرآن إلى المركز” (على حد تعبيرها)؛ فعلى مدار عدة صفحات (ص17-21) في الفصل الأول من سبعة فصول رئيسية (باستثناء التمهيد والمقدمة والخاتمة)، حددت يوهانا تلك العوامل التي أدت في مجموعها إلى هذه الظاهرة. فقد سعى الإصلاحيون في القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر -وعلى رأسهم شاه ولي الله الدهلوي (ت. 1762م)- إلى إصلاح المعتقدات والممارسات داخل المجتمعات الإسلامية؛ وفي مقدمة هذه الإصلاحات جاء ما يعرف بالعودة إلى المصادر الدينية الأساسية المتمثلة في القرآن والسنة، وكذلك آراء الشخصيات ذات المكانة الدينية المعتبرة (السلف). وفي القرن التاسع عشر، تسارع هذا التوجه بسبب الإمبريالية الأوروبية واستخدام الصحافة المطبوعة، مما أدى إلى أن يضع كلٌ من “الأثريين المحافظين” والحداثيين على حد سواء القرآنَ في مقدمة اهتماماتهم، وتطعيم مشروعاتهم الإصلاحية بتوجيهاته (هداياته) لتجديد وإحياء الحضارة الإسلامية في ظل عالم معولم. إن التحولات الفكرية والتوترات الناجمة عن وضع القرآن في قلب الحياة الفكرية الإسلامية والتركيز على استنباط توجيهاته “العملية” بشكل متزايد -بدلا من تفسير نصه من الناحية العلمية-[3] هو ما يدفع بينك لتروي واقع التفسير الإسلامي في الفصول التالية؛ لتخرج لنا سردا دقيقا للتفسير الإسلامي المعاصر للقرآن.
يتناول الفصل الثاني التغيرات النابعة من هذه الظروف الجديدة التي طرأت على نقاط التركيز في التقاليد التفسيرية. فعلى الرغم من أن بينك تولي بعض الاهتمام لاستمرار التقاليد من خلال أجيال العلماء، إلا أن فحوى دراستها يتعلق بالحركة الإحيائية السلفية في مظاهرها المختلفة. إن أحد أهم الجوانب في دراستها هو ما يتعلق ببروز “تفسير القرآن العظيم” الذي كتبه ابن كثير (ت. 1373م)؛ حيث تقول بينك إنه في حين أن هذا العالِم الدمشقي -وهو تلميذ ابن تيمية (ت. 1328م)- كان شخصية ثانوية نسبيا قبل الحداثة، إلا أنه قفز إلى مكانة بارزة اليوم، حيث يعد تفسيره “عملًا لا نظير له من حيث الاستشهاد به، وبيعه في الأسواق، وترجمته” (ص 35)؛ وفي وقت لاحق “يبدو أنه قد حل محل تفسيري الرازي والبيضاوي كعمل تفسيري نموذجي جديد، وهو عمل لا يستخدمه العلماء فحسب، بل يستخدمه أيضا الطلاب وعامة المسلمين” (ص 52). وفي حين أن هذا الادعاء مقبول إلى حد ما؛ إلا أنه من المهم معالجة هذه المسألة بشيء من التفصيل أكثر مما هو معروض في النص؛ فمن غير الواضح أن تفسير ابن كثير أصبح مصدراً رئيسياً في التعليم لدى العلماء على المستوى العالمي، بل يمكننا القول إنه في ظل البيئة الجديدة لانتشار القراءة والكتابة، أصبح العلماء مهمشين نسبيا، لدرجة أن رأي الجماهير والعامة على الإنترنت بجانب الكتب المطبوعة بالعربية والمترجمة التي تحظى بشعبية واسعة= له وزن أكبر مقارنة بالمناهج المدرسية. غير أنه يبدو من المهم تحديد صلاحيات هذين النوعين من السلطة بعناية. (أيضا، أخطأت بينك حين نسبت إلى صفي الرحمن المباركفوري ترجمة تفسير ابن كثير إلى الإنجليزية [ص 52]. حيث تشير ملاحظة الناشر إلى أنه كان مسؤولا عن إعداد المختصر العربي، بينما عملت مجموعة منفصلة من المترجمين على النسخة الإنجليزية. شكرا لأزهر ماجوثي لتنبيهي على هذا الأمر).
يتطرق الفصل الثالث إلى الاستهلاك الشعبي للتفسير القرآني، حيث يدرس مجموعة من وسائل الإعلام -من الطباعة إلى التلفاز- واليوتيوب الموجود الآن في كل مكان؛ كما أنه يتطرق لفكرة أن القرآن كمرشد تربوي وأخلاقي صار في مركز الوعظ الشعبي والدروس المعروضة على هذه الوسائط الإعلامية. تستخدم بينك طريقة رائعة هنا في كتابها كاملاً، وهي عرض وتقديم دراسة للحالات لتوضيح تحليلاتها. تقدم مثل هذه الدراسات للقارئ عدة صفحات من المصادر الرئيسة الأولية في شكل صناديق رمادية لتمييزها عن النص الرئيسي، بما في ذلك إعادة إنتاج الرسوم المتحركة ولقطات الفيديو ونصوص التسجيلات من مختلف الأنواع. كما تستشهد بينك بالآيات القرآنية بالكتابة العربية، بينما تقدم الترجمات التفسيرية بمهارة بحسب الحاجة من العربية إلى الفارسية والتركية، والإندونيسية، والفرنسية والألمانية. وغني عن القول إن استخدام المصادر متعددة اللغات يعتبر نقطة قوة لهذا الكتاب. في منتصف الفصل الثالث، تناقش بينك أكثر ثمانية مقاطع الفيديو مشاهدة على اليوتيوب في تفسير السورة الأولى للقرآن، (سورة الفاتحة)، وتضم هذه المقاطع مجموعة من العلماء والواعظين المشهورين، بعضهم يقيم في الدول الغربية والبعض الآخر في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي (ص 104-107). قامت بينك بتصنيف “اليوتيوب كوسيلة إعلامية لنشر التفسير” وميزت بين ثلاثة أنواع من الأداء التفسيري الذي قدمته هذه الشخصيات (وجميعهم ذكور): (الخطبة)؛ الدرس الديني؛ المحاضرة العامة التي تستعير أدوات المتحدثين التحفيزيين. ويمكن أن تصبح مناقشتها في هذا القسم -التي تشكلت من خلال اهتماماتها النظرية الواسعة- نموذجا للدراسة الأكاديمية المستقبلية للتفسير القرآني عبر الإنترنت.
في الفصل الرابع، تدرس بينك التقنيات التأويلية المختلفة المستخدمة في التفسير الحداثي للقرآن. إذا كان المشروع الأساسي للتفسير الحداثي هو استنباط الهدايات من النص المقدس، فمن المنطقي أن المنهجيات المستخدمة ستسعى إلى أن تكون متكاملة بشتى الطرق. أي، على عكس التقنيات الكلاسيكية المتعددة التي تباينت بين التحليل اللغوي والعقلاني القائم على المرويات، وكان يعنى بمعانى الآيات مفردة= فإن الاتجاه الحديث يطبق مبدأ أو أكثر من المبادئ الرئيسية لتفسير النص. ومن الأمثلة على هذه المبادئ التي تناقشها بينك هي وضع القرآن في سياقه التاريخي؛ إعادة ترتيب الوحي زمنياً؛ قبول أو رفض وقوع النسخ؛ التحليل الدلالي والأدبي والموضوعي؛ التفسير البين نصي؛ وإنكار السنة (القرآنيون). بطبيعة الحال، كما تلاحظ بينك في مناقشاتها، فإن العديد من هذه الأمثلة لها جذور في الخطابات السابقة داخل التقليد التفسيري الإسلامي؛ لكن ما يميز مظهرها الحديث هو الهدف الذي وضعت من أجله، والانفتاح على أن تكون متوائمة مع النماذج الغربية المعاصرة للمعرفة، والرغبة في تطبيق مبدأ مختار بطريقة شاملة. يأتي ملخص بينك لهذه الأساليب عميقا ومتوازنًا؛ وسيفيد هذا الملخص القراء بشكل ممتاز.[4]
يوضح الفصل الخامس النقاشات المناصرة للقرآن بشكل خاص، والإسلام بشكل عام، ضد منتقديه وإظهار القرآن كنص لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. كان اختيار بينك للمواد انتقائيا مرة أخرى، وتشمل مصادرها الشخصية الإعلامية المصرية الكاتبة كاريمان حمزة، وكُتّاب “إسلاميين”؛ سيد قطب (1906م-1966م) وأبو الأعلى المودودى (1903م-1979م)، والداعية عمرو خالد، وموقع مجهول يسمى “معجزات القرآن”. وقد تم تغطية المواضيع التالية بشكل متساو متنوع: تأكيد القرآن على تعدد الزوجات، العدالة الاجتماعية القرآنية، والترتيب الهيكلي للقرآن وسوره، والموضوع الجوهري للمعجزة العلمية المعاصرة. جمع هذه المواضيع معا، أدى إلى كشف بينك عن مفارقات مثيرة للاهتمام، مثل “تطبيق الأساليب الحداثية مع اتباع أجندة غير حداثية، بل هي إلى حد ما ضد الحداثة” (ص 191). هنا تنقل بينك ببراعة التوتر الذي غالبا ما ينتج أثناء تطبيق الآليات التأويلية التي نوقشت في الفصل الرابع من قبل الباحثين أو الدعاة الذين يرغبون في الاحتفاظ بالقراءات التقليدية لمعنى النص، ومع ذلك يحتاجون إلى تبرير تفسيرهم للقرآن بالطريقة الدينية التي يتوقعها الجمهور المعاصر والمتعلم.
ينتقل الفصل السادس من عملية التفسير القرآني ووظيفته إلى “الجماعات التفسيرية interpretive communities” التي تولده وتنشئ جمهوره. وضعت بينك مناقشتها – كما هو معتاد في الكتاب ككل- في سياق عالمي، أي أنها تنظر في الممارسة العملية بشكل رئيسي إلى الغرب، والعالم العربي، وتركيا وإندونيسيا. تعكس بينك كيف تؤثر السياقات الوطنية المختلفة على النهج المتبع تجاه التفسير، وتحديداً إنتاج الأعمال التفسيرية الرسمية والمعترف بها من الدولة، أو تلك التي يصدرها علماء محظورين. كما تكتب بطلاقة عن اختيار لغة الكتابة حول ما إذا كانت ستستخدم اللغة المحلية العامية أم العربية (التي لا تزال لغة ذات مكانة لدى علماء الإسلام)، أو اللغة الإنجليزية، وهي اللغة الأكاديمية العالمية (ص 208-209). ومن ناحية أخرى والتي تبدو مهمة، اهتمام بينك بالدوافع المختلفة داخل الجسد السياسي الإسلامي، بما في ذلك التمييز بين الخطابات السنية والشيعة والصوفية وغيرها. على سبيل المثال، دراسة حالة الطائفة الأحمدية، وهي طائفة من القرن العشرين من شبه القارة الهندية التي تعتبر على نطاق واسع خارج الإسلام لإنكارها خاتمية النبوة المحمدية. درست بينك الجدل المستعر على مواقع الانترنت بين الأحمدية والسلفيين حول تفسير آية : (يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليً). ففي حين أن الفهم الإسلامي العام لهذه الآية هو أن يسوع قد رُفع إلى الله حيا وسيعود في نهاية الزمن، فسر مؤسس الأحمدية ميرزا غلام أحمد (ت. 1908م) أنه فقد وعيه على الصليب، وفي نهاية المطاف تعافى، وسافر إلى الهند، ومات ميتة طبيعية في كشمير (ص 234). بينما أوضحت بينك الحجج والحجج المضادة حول الآية، إلا أنها فشلت في تحديد جذور هذه الإشكالية، وهي من الحالات النادرة في هذا الكتاب. وتختتم المناقشة بملاحظة محيرة مفادها أن النقاش حول موت يسوع حاد جدا بينما هناك “قضايا أكثر جوهرية على المحك” (ص 239). تفسيرها هو أنها نقطة خلاف رمزية، نقطة خاصة جدا بالأحمدية، واحتفظت بأهميتها بسبب انتشار الطوائف الأحمدية في الغرب “المسيحي”. يبدو أن السبب الرئيسي للتركيز السني على هذه النقطة هو (كما ذكر محاور في مقتطفات في ص 234) أنه إذا كان يسوع قد صعد بالفعل حيا وسيكون له ظهور ثان حرفيا، فليس من الممكن أن تتحقق النصوص الكتابية التي تشير إلى عودته مجازا من قبل ميرزا غلام أحمد. وهكذا يتضح، أن الجدل حول موت يسوع يعتبر مرتكزاً في إضفاء الشرعية لادعاءات الأحمديين.
يسلط الفصل السابع الضوء على جوانب الخلاف في التفسير المعاصر للقرآن. تنظر بينك إلى المناقشات حول الجنس والشذوذ، وتضعهم في سياق مجتمع العولمة المعاصر، وتشير إلى أن التركيز عليهم هو من الجديد في تاريخ التفسير. كما أنها تدرس ظهور منهج “ما بعد الحداثة” الذي يؤكد على الذاتية الكامنة في قراءة وفهم أي نص، بما في ذلك القرآن. هذه المناهج تثبت تناقضا هاما مع المناهج الحداثية التي اتصف بها هذا الكتاب حتى هذه النقطة. ففي حين أن الحداثيين يعتقدون أن مذهبهم موضوعي، يتمثل في وضع النص ضمن نموذج متسق عقلاني لتقديم التوجيه المناسب المتماشي مع ظروف الحداثة، فإن الما بعد حداثيين يقررون أن الأمر عكس ذلك، أي أنهم يختارون الإطار التفسيري الذي سيؤدي إلى نتيجة بعينها محددة مسبقا (ص 280). هذه هي رؤية مهمة للغاية وبينك أوضحتها بمهارة، على الرغم من أنه وللأسف أنها أتت في الفصل الأخير. ولو كان تصنيف ما بعد الحداثة قد طُرح في الفصول الأولى من الكتاب لمهدت الطريق لإيجاد فرصة لاستكشافات أعمق لقطيعتها مع الحداثة.
أقرب ما يصل إليه القارئ في بحث كهذا موضحاً في الخاتمة والتي تناقش ردوداً مختلفة حول آية “واضروبهن”(ص 284). تبين بينك هنا وببراعة الخلافات الجدلية الحداثية مع استراتيجيات ما بعد الحداثة المطبقة من قبل النسوية على هذا النص، على الرغم من عدم وجود إضافة علمية جديدة لأولئك العارفين بمثل هذه المناقشات من قبل. ومع ذلك، فإن هذه التناقضات أتاحت للباحثة الوصول إلى استنتاجات ختامية مهمة حول المقاربات الما بعد حداثية الناشئة. أولا، إن عمل التفسير متشابك دائما ضمن أطر أوسع للمعنى، وإلى حد ما فإن ما بعد الحداثة أكثر وعيا بهذا الواقع. ثانيا، قد تسعى ما بعد الحداثة إلى نزع مركزية القرآن للاستفادة من مصادر المعرفة الأخرى بما في ذلك معايير العدالة. ثالثا، قد تكون ما بعد الحداثة منفتحة للتشكيك في وثوقية النص القرآني وكمال معناه.[5] وفي حين أن بينك ربما ترفض بحكمة التكهن بما إذا كان هذا الاتجاه ما بعد الحداثي سيوسع من مكانته الهامشية الحالية، إلا أنها تفسح المجال للآخرين لبناء مفاهيم مستخدمين مقارباتهم التحليلية والبنيوية.
“التفسير الإسلامي المعاصر للقرآن” له العديد من المزايا؛ يمتد حس بينك النقدي إلى لغات رئيسية عديدة مواد في العديد من اللغات الرئيسية المستعملة في التفسير المعاصر في العالم الإسلامي وفي مجموعة واسعة من السجلات، بدئاً من الرسوم المتحركة والمدونات إلى كتب لتفسير ذات المجلدات العديدة والدراسات الأكاديمية. لم يتمكن هذا العرض إلا من التطرق إلى بعض المؤلفين والأعمال والمواقف التي تمت دراستها في الكتاب، والتي هي في الحقيقة مجرد لمحة عالمية بسيطة. وعلاوة على ذلك، تحافظ بينك على مستوى رائع من الوضوح والدقة التحليلية في التعبير عن المواقف المختلفة محل الدراسة. وهي تتناول القضايا الرئيسية، وتحددها بوضوح، وفي ذهن هذا المراجع على الأقل، تضع إصبعها دائماً على الأسئلة ذات الاهتمام.
أي مؤلف يستمد بشكل اجتزائي من هذه الكمية الكبيرة من المصادر الأصلية يجب أن يكون انتقائيا بالضرورة حول ما يقدمه للقارئ. ومع ذلك، فهذا النوع من المؤلفين منفتح على التشكيك فيما يتعلق بمعايير اختياره: لماذا هذه النصوص والآيات القرآنية بالتحديد؟ يبدو أن إجابة بينك الضمنية هي أن النصوص والمقتطفات المختارة تمثل بعض الاتجاهات الأوسع وتجسد تحليلها لها. والخطر البديهي هو التعميم، واختيار الأدلة التي تدعم فقط الأفكار المسبقة الباحث. على الرغم من أن ذلك قد لا يمكن تجاهله إلى حد ما، إلا أن الإدراك الما بعد حداثي لهذا التحدي في دراسة الباحثة لم يكن ليتغاضى عنه بسهولة.
أحد المقاطع التي تبدو فيها ميول بينك الشخصية ظاهرة بوضوح هو رؤيتها للمشهد العلمي المعاصر، والتي يمكن القول إنها تبالغ في تضخيم “نجاح” النموذج السلفي على حساب مرونة منهج علماء السنة التقليديين. بينما لا شك أن السلفية والحداثة كانتا من اللاعبين الرئيسيين على المسرح التفسيري العالمي، إلا أن إحدى السمات الهامة للدراسات في العالم الحديث هي، بشكل نسبي، التأثير الدائم للعلماء. كتبت بينك في المقدمة عن تبنيها لمنهج الحفر المعرفي لفوكو الذي يؤكد على الديمومة بدلا من التغيير، وهذا المنهج مناسب وخاصة في مجال التفسير (ص 8). قد يظن المرء أن ظاهرة الاستخدام المعاصر للتفسير الكلاسيكي داخل المدارس الدينية، المسجد، وعلى الإنترنت كان يمكن لها أن تظهر في الكتاب بشكل أوضح مما ظهرت عليه. جدلياً، إن أحد الأسباب التي أدت إلى تهميش التأثير المستمر للعلماء هو أن هذه الفكرة (تأثير العلماء) ضد أطروحة الباحثة في المركزية القرآنية. من الممكن لمثل هؤلاء العلماء وللأعداد الكبيرة من المسلمين الذين مازالوا يتلقون أمورهم الدينية منهم، فإنه لايزال يحتفظ بمكانته التقليدية بين العلوم والأفكار والتخصصات المختلفة. إذا كان هذا صحيحا، فإن هناك مجالا لإكمال هذه النواقص مركزة على الخصوم المعاصرين للتفسير الحداثي وما بعد الحداثي. ولكن لا ينبغي قراءة هذه العيوب على أنها تقوض إنجازات بينك البارزة في هذه الدراسة، والتي هي إضافة مبتكرة لسلسلة ايكينوكس الواعدة “موضوعات في الدراسات القرآنية”.
اقرأ ايضًا: معركة المنهج والحقيقة: الاستشراق والدراسات القرآنية
- رامون هارفي: محاضر في الدراسات الإسلامية في كلية إبراهيم، له العديد من الأبحاث في مجلة الدراسات القرآنية، وهو محرر السلسلة التي تصدرها جامعة ادنبره بعنوان (دراسات في النص المقدس الإسلامي والعقيدة).
[1] يوهانا بينك: أستاذة الدراسات الإسلامية بمعهد فرايبورغ للدراسات المتقدمة، لها اهتمام بقضايا التفسير المعاصر للقرآن وكذلك تاريخ مصر الحديث.
[2] – بالطبع يمكن أن تُنازع بينك في هذه المقدمة، لأن مبتنى العلوم الإسلامية برمتها حول القرآن، والتراث التفسيري الهائل الذي تعرفه الكاتبة يشهد على المكانة التي احتلها القرآن في العقل المسلم منذ صدر الإسلام. ما يمكن أن ننوه عليه في العصور المتأخرة هو تحول في النظر إلى القرآن، لكن أن القرآن صار له حضور غير مسبوق فهذا من الصعب التسليم به. -الإشراف.
[3] – يزخر التراث الإسلامي بكتب الآداب والأخلاق والتي عنيت باستنباط الجانب العملي والإرشادي من القرآن، وهو عكس ما يوحي به ظاهر كلام المؤلفة.
[4] – هنا إشارة مهمة إلى السياق العام الذي تبرز فيه تيارات تبدو في ظاهرها قائمة على النظر، وتهدف لإثراء الساحة العلمية، أو على الأقل تسعى لكسب شرعية الانتماء المحض إلى الحقل التفسيري، بينما في الحقيقة تستبطن نموذجًا معرفيًا مختلفًا، تسعى من خلاله إلى الدخول إلى ساحة العمل التفسيري على هيئة اجتهادات علمية. -الإشراف.
[5] – تغفل هذه الاستنتاجات عن المشكلات الجوهرية الأساسية التي تحيط بالمناهج الحديثة في الهرمنيوطيقا؛ فهذه المناهج لازالت تكافح من أجل كسب الشرعية، ولم تسلم من نقد داخل الغرب نفسه، ومن ناحية أخرى، تنتهك هذه الطريقة مقولة تبعية المنهج للموضوع، بمعنى أن النص القرآني نصٌ فريد، إن في مبناه وإن في تاريخه، وهذا يستتبع بالتالي تدشين منهج خاص للتعامل معه لا استيراد مناهج جاهزة خرجت وتمأسست في سياق مختلف. -الإشراف.ٍ