- كاتالين فرانسيسكا راك
- ترجمة: نيارا ياسر
- تحرير: لطيفة الخريف
عام ١٨٩٤م، نشرت مجلة “بودابست رڤيو” مقالًا للمستشرق المجري المعروف “إجناتس جولدتسيهر” عن دعوة “محمد ألكسندر رسل ويب” في أمريكا[1]. قدم “جولدتسيهر” مقاله تحت عنوان: “الدعوة الإسلامية في أمريكا” والذي اقتبسه من كتاب “ويب” ‘الإسلام في أمريكا’: بيان مختصر عن المذهب المحمدي وإيجاز للدعوة الإسلامية الأمريكية الصادر في السنة السابقة، موضحًا أنه كان معتادًا في المجر -كما هو الحال بالولايات المتحدة- استخدام لفظ “بروباجاندا” لوصف أي عمل تبشيري نشط. ومع أن شعور “جولدتسيهر” بأهمية إخبار القراء المجريين عن الداعية الذي اعتنق الإسلام حديثًا بالولايات المتحدة قد يبدو غريبًا، إلا أنه يندرج تحت عمله الصحفي وأجندته السياسية والعلمية.
منذ أوائل سبعينيات القرن التاسع عشر، اعتاد “جولدتسيهر” نشر مقالات في “بودابست رڤيو” وغيرها من الصحف عن آخر التطورات في البلدان الإسلامية، وكذلك عن الثقافتين الشرقية والإنجيلية؛ نظرًا للاهتمام الأوروبي المتصاعد بآثار الشرق الأوسط. أولى دراساته المجرية عن الإسلام كانت في عام ١٨٨١م ‘Az Iszlam’، وتُعد مقدمة لدراسته الألمانية ذات المجلدين ‘دراسات إسلامية’، ناقشت الدراسة التطورات الحالية في الحياة الأكاديمية الإسلامية كما أنذرت ودحضت التحيزات واسعة الانتشار حول الإسلام. وكان المقال الصادر عام 1894م عن “ويب” بمثابة فرصة لطرح أسئلة أعمق عن حال المعرفة الغربية بالإسلام، واطلاعها عليه والدور الذي يلعبه عالِم الدين في ذلك – والتي كانت مسألة ذات صلة وثيقة بدور “جولدتسيهر” بوصفه مفكرًا عامًّا ومستشرقًا في المجر.
وبما أن هذه المدونة موجهة للقرّاء ذوي الاهتمامات العلمية، وبما أن الدارسين لسيرته وأعماله قلّما أشاروا إلى مشاركة “جولدتسيهر” الاجتماعية وعمله مفكرًا عامًّا؛ يُشكل هذا المقال منتدى مناسبًا لمناقشة آراء “جولدتسيهر” عن إسهامات المستشرق للمعرفة العامة والخطاب عن الإسلام.
لا يسع المرء إلا أن يتساءل عمّا إذا كان “ألكسندر رسل ويب” معروفًا بأي شكل من الأشكال في المجر قبل نشر مقال “جولدتسيهر”. على النقيض، يشير “عمر فاروق عبد الله” في سيرته: ‘مسلم في أمريكا الڤيكتورية (٢٠٠٦م) ‘ أن الشعب الأمريكي ربما كان على دراية باسم “ويب” حتى قبل أن يصبح داعية للإسلام. بعد أن فقد عمله تاجرًا للمجوهرات في حريق شيكاغو العظيم عام ١٨٧٢م، انتقل إلى ميزوري وأصبح صحفيًا ناجحًا. كان ديمقراطيًا نشطًا كذلك. وقد عيّنه الرئيس “جروڤر كليڤلاند” قنصلًا للولايات المتحدة بمانيلا في ١٨٨٧م. وقد أحاط “ويب” -الذي درس الديانات الشرقية لسنوات عدة- علمًا بالمسلمين الهنود خلال تلك الفترة التي قضاها في الفلبين ومن ثم اعتنق الإسلام.
بعد تخليه عن منصب القنصل عام ١٨٩٢م، عاد إلى الولايات المتحدة داعيةً إسلاميًّا. أسس دعوته وأنشأ صحافة إسلامية بمدينة نيويورك، كما أسس مجلة ‘العالم الإسلامي’، وألقى محاضرات عامة، وألّف ‘الإسلام في أمريكا’ لنشر كلمة الإسلام. ويشير “عبد الله” إلى صعوبة إمكانية فهم نهج “ويب” وتفسيره للإسلام، ودعوته، وكذلك شخصيته العامة إلا من خلال وضعهم في سياق الخطاب الشعبي وثقافة ‘نهاية القرن’ في أمريكا.
ومنذ ما يزيد على القرن، أبدى “جولدتسيهر” كذلك اهتمامًا بفهم السياق الاجتماعي لـ ‘ظاهرة ويب’. في مقدمة مقاله، يوضح “جولدتسيهر” أن بدء انتشار الإسلام كان في فترة حرب، ومع ذلك فقد نشر الدعاة المسلمون تعاليمه سلميًا إلى أقاصي آسيا وأفريقيا. ولم يكن الإسلام دينًا مجهولًا في الأمريكيتين، إلا أنه أُسس هناك عن طريق الهجرة لا الدعوة. ولكن هذا تغير عندما بدأ “ويب” ‘الدعوة الإسلامية الفعلية…قبل عام ونصف’. بناء عليه، وبنبرة مستنكِرة، يتساءل “جولدتسيهر”: “كيف تمكن غريب الأطوار هذا من تحديد هدفه وسط المجتمع المحيط به؟”
وللجواب عن هذا السؤال، لا يملك “جولدتسيهر” سوى الاعتماد على الصحافة والنشرات السياحية عن الولايات المتحدة. (لم يزر أمريكا إلا بعد مرور عشر سنوات، في ١٩٠٤). وعوضًا عن دراسة المجتمع الأمريكي، اتجه “جولدتسيهر” إلى دراسة سيرة “ويب” وأعماله، والتي كانت حديثة العهد نوعًا ما (وأسهل لـ “جولدتسيهر” لمعاينتها). كان “ويب” قد أنشأ دعوته قبل أقل من عامين من مقال “جولدتسيهر” وأصدر كتابه السالف ذكره وشارك في أول مؤتمر لـ”برلمان أديان العالم”، (وهو حدث قد أُعلن عنه بالمعرض العالمي بشيكاغو عام ١٨٩٣)، قبل عام فقط من ذلك. وتبادل “جولدتسيهر” الرسائل مع “ويب” واتضح له أن “ويب” لم يكن على دراية بالدعوة الألمانية الحديثة، بما في ذلك أعمال “جولدتسيهر” عن الإسلام والمسلمين وتاريخهم. (راجع رسالة “ويب” لـِ”جولدتسيهر” في المجموعة الشرقية بالأكاديمية المجرية للعلوم HAS GIL/36/25/01).
واستعراضًا لمسيرته المهنية من الصحافة إلى القنصلة، يركز “جولدتسيهر” على نمو “ويب” الفكري. وعلى أساس ملاحظاته الذاتية، يفترض “جولدتسيهر” أن “ويب” لم يجد الإرشاد الروحي الذي كان يبحث عنه في الأديان القديمة والفلسفة الغربية، لذا اعتنق الإسلام. وتبين عبارة “ما الذي يمكننا قوله عن حقيقة أن مادية “كانت” و”فيتشه” و”هيجل” كانت تمثل عبئًا على ويب؟” مدى ازدراء “جولدتسيهر” لما اعتبره افتقار “ويب” لفهم التراث الفكري الأوروبي الحديث[2].
كما ينتقد “جولدتسيهر” “ويب” لأجل ما اعتبره ‘معرفة “ويب” السطحية وغير الدقيقة بالإسلام’؛ حيث يرى أن تصريحات “ويب” عن الإسلام تفتقر إلى التجانس مع ‘المعرفة التاريخية والموضوعية’. ويزعم “جولدتسيهر” أن “ويب” يضل تابعيه، وأن ‘حماسه الصادق’ للإسلام لا يُكفِّر عن جهله بموقف “محمد” والقرآن من المرأة، والتعدد، والاسترقاق، على سبيل المثال لا الحصر[3]. كما يدّعي أن ‘اعتذار “ويب” مبالغ فيه للحد الذي يجعل أي مسلم بالفطرة، تَعَلّم أدب دينه، يرفض قبول اعتذاره’[4].
ويبرر “جولدتسيهر” تقديره أن الدعوة الدينية يجب أن تُبنى على أساس المعرفة ‘التاريخية والموضوعية’ بعقد مقارنة بين اتجاه “ويب” و’الاتجاه الإسلامي في إنجلترا’. يرى “جولدتسيهر” أن الأخيرة ‘أقل جَلَبَة’ من نظيرتها الأمريكية (ص٥٩). ويوضح “جولدتسيهر” امتلاكها مسجدًا بغض النظر عن أنها لا تملك مجلة. بالإضافة لذلك، وكما بين إعلان الجمعية الإنجليزية (وهو اتحاد مسلم بلندن) بمجلة “ويب”: ‘العالم الإسلامي’، فهي تهدف إلى نشر المعرفة بالإسلام بين الإنجليز عن طريق تنظيم محاضرات، وإنشاء مكتبة، وغيرها من الأنشطة.
وأكّد “جولدتسيهر” على مطلب الجمعية، وهو أن يتناول المحاضرون موضوعاتهم داخل إطار تاريخي وموضوعي. واقتبس أيضًا منطق الجمعية (بالمجرية): “لكي يصبح اعتناق الإسلام صحيحًا؛ يجب أولًا وقبل كل شيء أن يكون نتيجة قرار عفوي، ومن ثم، غير مسموح لأي مسلم أن يسعى لإقناع غيره باعتناق دين لا ينتمي إليه.” (ص٦٠). كما يكشف تعليقه الساخر: “عذر مثير للشك” بوضوح عن تعريفه الكامل للعمل الدعوي الذي يُعَد فيه التفسير العلمي مرجعًا للحياة الدينية. وأظهرت مذكراته وكتاباته العديدة عن اليهودية اقتناعه الشخصي بأن النتائج العلمية يجب أن تكون لها الغلبة على ‘الحقائق’ الدينية التقليدية.
وعلى حد تقدير “جولدتسيهر”، فمثال الجمعية الإنجليزية ومقارنتها بدعوة “ويب” يوضح الخدمة القيمة التي يمكن أن يقدمها المستشرق للمجتمع. وبصفته مفكرًا عامًا مجريًا، يستغل “جولدتسيهر” سلطته العلمية في مساءلة الداعية الإسلامي عن نشر ‘حقيقة’ الإسلام. وعلى عكس المعروف عن شخصية المستشرق الغربي واستغلاله علمه لكسب نفوذ سياسي في المسائل الاستعمارية وقمع المحتلين، يُسلط مقال “جولدتسيهر” الضوء على أهمية إشراك الجمهور الغربي في إظهار ونشر المعرفة بدين وحضارة أجنبية. ويوضح هذا رغبة “جولدتسيهر” في إعلان نفسه مستشرقًا في المجر عن طريق إبراز أهمية مجاله في فهم التطورات المعاصرة في العالم الغربي.
دافع “جولدتسيهر” عن الفكر الديني الغربي والفلسفة الحديثة ضد حكم “ويب” المستنكر. وعلى النقيض من “ويب”، لا يقارن “جولدتسيهر” بين مبادئ الفلسفة الغربية وتلك الخاصة بالإسلام. عوضًا عن ذلك، يُذكِّر قارئيه بأن المبالغة في الحديث عن الإسلام، حتى وإن كانت لخلق صورة حسنة، تضليل وفيها إساءة لأي قارئ عاقل رغب حقًا في التعلم عن الإسلام. فضلًا عن ذلك، فهو يعارض التعاليم الأساسية للدعوة الإسلامية.
ومثلما هو الحال في أعماله الأخرى، يرى “جولدتسيهر” أن ‘موضوعية’ المعرفة تكشف حقيقة الدين وتحفظها؛ لذا لا يجب إخضاعها لوجهة النظر الشخصية للمؤمن. ويكمن دور عالِم الدين، سواء كان مسلمًا، أو يهوديًا، أو مسيحيًا، أو تابعًا لأي ديانة أخرى، في حماية وتطوير المعرفة الموضوعية في الإطار العام. وفضلًا عن كونها أعمالًا فذة في الإنتاج الأدبي الخاص بالدعوة، أنا أقرأ مؤلفات “جولدتسيهر” تذكيرًا بأنه في حين تستلزم المعرفة -التي هي شأن عام- نظرة موضوعية تجاه الأمور، فالممارسة الدينية أمر ذاتي، وعليه فهي شأن شخصي.
مراجع:
[1] (الدعوة الإسلامية في أمريكا) ” بوداپست رڤيو”، المجلد 80 رقم 214 (1894): 45-60
[2] المرجع نفسه، 53.
[3] المرجع نفسه، 52-55.
[4] المرجع نفسه، 55.