- بقلم: فانيسا هيجي
- ترجمة: زينب عبد المطلب
- مراجعة : مصطفى هندي
- تحرير: أحمد العراك
علماء يختبرون آثار البرد على جسم الإنسان في المختبرات الشمالية التابعة لوزارة الدفاع الأمريكي في فورت تشرشل ، مانيتوبا ، كندا ، 1954
إذا بحثت عن صورة مستخدمًا كلمة “عالم”، فستكون النتائج نمطية ومتقاربة بشكل ملحوظ. لن يكون العلماء من الرجال ذوي البشرة البيضاء فقط، بل سيظهرون أيضًا بالمعاطف البيضاء مجتمعين حول منضدة مختبر، أو ناظرين في مجهر يتفحصون بعض الشرائح، أو محدقين في كؤوس زجاجية.
بُذِلَت جهود كبيرة لتنويع الصور النمطية عن العلماء، وهذا مهم بلا شك… بيد أننا بحاجة لأمر لا يقل أهمية عن ذلك، ألا وهو تنويع تصوّراتنا عن النشاط العلمي، فليس من الممكن فهم طبيعة العلم وآلية عمله إذا استمرت الدراسات الأكاديمية بتجاهل الكمّ الهائل من الأعمال العلمية المنجزة بعيدًا عن مناضد المختبرات.
عندما كنت أبحث في كتابي الأول، تاريخ الطب الرياضي في بريطانيا (2011)، فوجئت بانعدام النتاج العلمي – تقريبًا – عن تاريخ علم وظائف الأعضاء في القرن العشرين… كانت الرغبة في سد بعض الفجوات جزءًا من الدافع وراء كتابي الجديد (أعلى وأبرد: تاريخ فيسيولوجيا الظروف المتطرفة والاستكشاف).
أُهْمل علم وظائف الأعضاء لسببين مرتبطين ببعضهما : حيث اتخذ هذا العلم في كثير من الأحيان شكل العلم الميداني – غير المخبري – ولم يكن كعلم الوراثة أو البيولوجيا الجزيئية.
تُسيطر الثورة الجزيئية وعلم الوراثة على قصة علوم الحياة في القرن العشرين ، كما تسيطر عليها السردية العامة – على الأقل في الفصول التمهيدية من المرحلة الجامعية الأولى – التي تركّز على العلم التجريبي “الكبير”[١]. ينفي المؤرخون وجود ثورة علمية حقيقية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، إلا أن تنامي الممارسة التجريبية – وهيمنتها لاحقًا – يُشكّل جزءًا أساسيًّا من تاريخ العلم الغربي الحديث. يُعتقد أن هذا العلم استبدَلَ الوسائل القديمة لتحصيل المعرفة، كالتعلم من كتابات “القدماء” أو طرق جمع البيانات وتحليلها المعروفة سابقًا باسم “التاريخ الطبيعي”.
يبدو أن علماء الأحياء قد أضمروا شيئا من الحقد على الفيزياء في بداية القرن العشرين، لتقدمها -أي الفيزياء- والعلومَ الكيميائية في النزول إلى ميادين التجربة، ولتأخر علمي الأحياء والطب في ذلك.
اعتمد الباحثون البارزون في مجال الطب الحيوي[٢] الأساليبَ الكيميائية والفيزيائية، وتم توظيف الفيزيائيين والكيميائيين في برامج بحوث الطب الحيوي، وخصوصًا في البيولوجيا الجزيئية والوراثة.
سيطر هذان الفرعان على فهمنا للطب الحيوي المعاصر، ليس فقط من ناحية البحث والتاريخ، ولكن في التدريس أيضًا. لقد أظهر كل من دنكان ويلسون، وجايل لانسلوت – على سبيل المثال – كيف سيطرت طرق ومناهج البيولوجيا الجزيئية على جامعة مانشستر في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين؛ حيث استُخدمت حججُ “التميّز، والأفضلية” للتأكيد على أن علم الوراثة والبيولوجيا الجزيئية فاضلٌ، وما سواه – كعلم النبات، أو البيئة – مفضولٌ في مجالي البحث والتدريس… أنا متأكدة من وجود أنماط مماثلة في جامعات المملكة المتحدة الأخرى (وفي أماكن أخرى في الغرب)، لكني أستطيع تأكيد هذا التغير تحديدًا من خلال تجربة شخصية. عندما كنت أدرُس علم الوراثة من منتصف إلى أواخر التسعينيات، كان من الواضح جدًا أن “تخصصنا العلمي” حاز الأولوية، والأفضلية – مزايًا، ومبانيَ، ومعاملَ، وفرصًا، وتعييناتٍ جديدة- على تخصصات كالعلوم البيئية وجميع التخصصات الأخرى التي تعتمد على البحث الميداني أكثر من اعتمادها على المختبرات.
تفاعل المؤرخون مع تغيّر الطرق العلمية، فازدهر اختصاص التاريخ البيئي، وتاريخ العلوم البيئية في أوائل القرن الواحد والعشرين، وقُدّمت العديد من الدراسات المهمة عن العمل الميداني في علم الأحياء، غير أنها صورت المختبر والميدان كمجالي عمل متباينين، وأَضْفَتْ على الميدان لباس(التابع) مبديةً أنه أدنى منزلة من المختبر بشكل أو بآخر… لذلك: غالبًا ما تُروى قصصٌ عن معاناة العلماء الميدانيين ليُؤخذَ عملهم على محمل الجد أو لينظر إليه نظرة علمية.
أرى أنه من الواجب على مؤرخي العلوم البدء بدراسة العلوم الميدانية كنشاط قائم بذاته، وليس على أنها تابعة للمختبر، كما يحتاج مؤرخو الطب بشكل خاص إلى معالجة انعدام التوازن الخطير بين المؤلفات الكبيرة في مجال النشاط العلمي الطبي داخل المختبر، وبين قلة الدراسات التي أُجريت عن العمل الميداني الطبي الحديث.
إن إبراز موضوع “فيسيولوجيا الظروف المتطرفة” (Extreme Physiology)[٣] – أي دراسة جسم الإنسان في البيئات الحافلة بالتحديات والظروف القاسية – قد تبدو طريقة غريبة لإظهار أهمية العمل الميداني، إذْ يُجرى العمل الميداني المتعلق بهذه الدراسة في أماكن استثنائية مثل: إفرست، والقارة القطبية الجنوبية، والفضاء الخارجي… مع ذلك، فحتى هذا الشكل الغريب من علوم الميدان كان ذا أهمية كبيرة في الاكتشافات العلمية، وله تأثير عظيم في حياة كل من يقرأ هذا المقال- على الأرجح-. إذا كنت ممن يتابعون توقعات الطقس قبل الخروج في الصباح، فمن المهم أن تعرف أن مصطلح “معامل برودة الرياح” (Wind Chill) قد تطور في سياق الاستكشافات والتغيرات الفيسيولوجية المدروسة في القطب الجنوبي. ندين بمعظم تصاميم معدّاتنا المستخدمة – في التخييم، والكشافة، والأطعمة المجففة المخصّصة للمغامرات، وأحذية التسلق- للتجارب التي أُجريت في إفرست، وأماكن قاسية أخرى. إنّ فهمنا لبيولوجيا الأجنة، وقدرتنا على إنقاذ الأطفال الخدّج، يعود الفضل فيه إلى الأبحاث التي أُجريت على ارتفاعات عالية في أوائل القرن العشرين. وتسعى الأبحاث الحالية حول إفرست إلى تحسين رعاية المرضى في وحدات العناية المركزة؛ وفي دراستها للعلاقة بين جسم الإنسان، وصحته، والبيئة، كانت فيسيولوجيا الظروف المتطرفة -أيضًا- من أوائل التخصصات التي بدأت تهتم بآثار تغير المناخ على تعداد السكان العالمي.
هناك الكثير ليقال عن المعرفة التي أنتجتها فيسيولوجيا الظروف المتطرفة. لكنني أود أن أقول هنا: أن النظر إلى ما قد يبدو شكلاً محدودًا أو غامضًا من العلوم يمكنه أن يُطلعنا على حقيقة العمل العلمي بقدر ما تطلعنا عليه دراسات المختبرات، وبوسعنا فهم هذا الأمر من خلال أربعة مجالات رئيسية:
أولًا: أن العديد من المشاكل التي تظهر في المواقع الميدانية تظهر في المختبرات أيضًا. يُفترض أن يكون المختبر المثالي مكانًا محكومًا بالكامل؛ ليس في البيئة الداخلية لاستبعاد أي عوامل خارجية فقط، بل في هوية المُصرح لهم بالوصول إلى المكان، ومن لديهم سلطة تقديم الفرضيات.
تشير دراسة فيسيولوجيا الظروف المتطرفة إلى أن المختبرات مساحات عمل أكثر فوضوية إلى حد ما… فبدل الجبل، قد يستخدم المُختَبِرُ غرفة بارومترية؛ وبدلَ القطب الجنوبي، تُستخدم الحجرة البيئية؛ وغالبًا ما تتحول هذه الأماكن “الخاضعة للرقابة” إلى نماذج غير مكتملة وبعيدة عما يحدث في العالم الواقعي وعرضة للخطأ التجريبي. (في تجربة أُجريت عام 1985 تُعرف باسم “عملية إيفيريست الثانية”- على سبيل المثال-، دخل الباحثون إلى حجرة التجربة باستخدام أجهزة تنفس الأكسجين لاختبار الأشخاص المعرّضين لضغوط جوية منخفضة، ليجدوا أن أجهزة التنفس لديهم قد حدث بها تسريب، مما أثر على ضغط الأكسجين في الحجرة وهدّد صحة قياساتهم.)
يفترض أن مسار تدفق البيانات والصلاحيات في العلوم الحديثة يبدأ من جمع البيانات “العشوائية” من الميدان وينتهي بالنمذجة، والتكرار، والتجربة في المختبر؛ إلا أن دراسة فيسيولوجيا الظروف المتطرفة تعكس تلك العملية، حيث تؤدي الاختبارات الميدانية إلى دحض نتائج المختبر غالبًا، مبطلةً بذلك ما اصطُلحَ عليه من تقديم العمل المخبري كنشاط أولي تجب مطابقته وإثبات صحته في العالم الحقيقي على الجبل أو في رحلة إلى القطب.
ثانياً: فيسيولوجيا الظروف المتطرفة مجال يكشف بوضوح عن التحديات التي واجهتها النساء في العلوم. بدافع من حركة #أناأيضًا (#MeToo)، تناقش النساء تحديات العمل الميداني، ويكشفن عن الاعتداءات، والتحرشات، والتحيز الجنسي العلني في جميع المجالات من علم الآثار إلى علم الحيوان. اعتمد علم فيسيولوجيا الظروف المتطرفة طوال القرن العشرين على جهود، وأجساد المستكشفين الذين كان معظمهم من الذكور؛ إذ كان الوصول إلى أماكن أبحاث فيسيولوجيا الظروف المتطرفة – غالبًا – صعبًا، وخطرًا، ويتطلب سفرًا بعيدًا، ومكلفًا، ودعمًا لأمور التأشيرات والسماح بعبور الحدود… فكان من السهل نسبياً استبعاد النساء؛ والتاريخ مليء بطلبات مرفوضة قدمتها نساء للذهاب في رحلات استكشافية.
حتى عندما استطعن الذهاب بالفعل، مُحِي عملهن من السجلات في كثير من الأحيان. على سبيل المثال: اتّخذت إحدى البعثات البريطانية في عام 1959 قراءات كهربائية للقلب للسكان المحليين ولأعضاء البعثة، بما في ذلك المتسلقة البريطانية الرائدة (نيا مورين)، و لم يذكر اسمها في أي من التقارير العلمية الصادرة عن تلك الحملة – ولا حتى في كلمات الشكر-، لكن سيرتها الذاتية تكشف عن دورها كمساعد باحث لطبيب الفريق الذي يدير دراسات رسم المخطط الكهربي للقلب. وفي الوقت نفسه، منعت الولايات المتحدة النساء من الوصول إلى مراكزها البحثية في القارة القطبية الجنوبية طوال خمسينيات وستينيات القرن العشرين، ورفضت البحرية التابعة لها نقل النساء من جنسيات أخرى إلى القارة، كما أن إحدى شبكات حركة “الفتيان الكبار” استبعدت النساء من المراكز البحثية البريطانية.
ثالثًا: التركيز على علم فيسيولوجيا الظروف المتطرفة يوضّح أهمية التكنولوجيا اليومية، والتي يمكن إغفالها ببساطة في ظروف أخرى. لقد أولى مؤرخو العلوم اهتمامًا لأشخاص كالتقنيين، والمهندسين، ومبرمجي الكمبيوتر، ومربي الحيوانات، وصانعي الزجاج، لإظهار مدى أهمية هذه المهن، وإثرائها لأفكار وممارسات العلم المتغيرة. في علم فيسيولوجيا الظروف المتطرفة، تتضح جليًّا الأهمية الحيوية لكل شيء، بدءًا من تصميم الخيام…إلى محتوى علب حصص الإعاشة، وذلك من خلال البعثات الاستكشافية، حيث من الممكن أن يؤدي فشل المعدات إلى الموت.
يمكننا أيضًا رؤية بعض الافتراضات العنصرية المتعلقة بكل من الاستكشاف والعلم؛ ففي عام 1971، أُحبط منظمو البعثة الدولية لجبال الهيمالايا بسبب أقنعة الأكسجين الخاصة بهم، إذ لم تتلاءم بشكل مريح مع حاملي الأمتعة النيباليين المشاركين في الحملة، كان الفريق قد اختار القناع “الشرقي” الذي صنعته القوات الجوية الأمريكية استنادًا إلى ملامح المقاتلين الفيتناميين، وافترضوا أنه سيناسب بطريقة ما ملامح وجه الشعب النيبالي، وحتى بعد مرور خمسين عامًا على توصية طبيب بريطاني لأول مرة بإلحاق المساعدين النيباليين بالحملات الاستكشافية لكونهم أفضل من أقرانهم من جبال الألب، لا تزال الحملات الغربية لا تحمل بشكل دائم معدات تقنية مصممة لأجسامهم.
رابعًا-وأخيرًا-: أن العلماء المشاركين في علم فيسيولوجيا الظروف المتطرفة يتنقلون بين فضاءات العلم المختلفة – المواقع الميدانية، والمختبرات الميدانية، والمختبرات التقليدية – دون حاجة إلى القلق بشأن “مكانة” أي من هذه الفضاءات. على الرغم من كونهم خبراءَ عالميين في موضوعات متخصصة ولهم منهجيات محددة، إلا أنهم عملوا أيضًا في فرق متعددة التخصصات، واستخدموا طرقًا مختلطة، واستكشفوا تخصصهم من خلال مجموعة من الأدوات ومساحات العمل، ما جعلهم مثاليين للغاية فيما يتعلق بالبحث العلمي المعاصر، في كلا المجالين (العام والخاص) ، حيث يشجع التمويل بشكل متزايد المشاريع الكبيرة المتعددة التخصصات، القائمة على جهود الفريق.
كما كشفت العلوم الميدانية عن حقيقة خفيّة وأخيرة، ألا وهي: أن الكثير من العمل العلمي مُمل ومتكرّر. سواءً كانت الساعات من ضخ مايكرولترات قليلة من السائل – وهو أحد أسباب تركي تخصص علم الوراثة- أو المعاناة لملءِ بطاقات تسجيل ساعات النوم أثناء ارتداء القفازات السميكة في قفار القطب الجنوبي، فإن العديد من المهام الأساسية مرهقةٌ جسديًا، أو روتينيةٌ بشكل قاتل. على الرغم من أن التواجد في القطب الجنوبي، أو في منتصف الطريق إلى إيفريست قد يضيف بريقًا بطوليًا خافتًا إلى النشاط، إلا أن علماء وظائف الأعضاء في هذه الأماكن وجدوا أنفسهم غارقين في الأعمال الورقية ومُحبَطين من نوعية طعامهم، تمامًا كالعالم في المختبر مع مقصف الجامعة الرتيب.
عندما يبدأ العلماء بتغيير الصور النمطية والتعرف على المجموعة الضخمة من الأشخاص والأنشطة التي تشكل بنية العلم، يتعيّن على المؤرخين إيجاد طرق تعكس هذا التنوع. لقد حقق لنا العلم الميداني فوائدَ كبيرةً في الماضي وسيستمر بلا شك في تقديم المزيد مستقبلًا، وإهماله يعني إهمال عنصر جوهري في المشروع العلمي.
[فانيسا هيجي- محاضرة في تاريخ الطب والعلوم في جامعة برمنجهام-.و كتابها الأخير(أعلى وأبرد: تاريخ فيسيولوجيا الظروف المتطرفة، نُشر مؤخرًا بواسطة مطبعة جامعة شيكاغو]
————
[١] – العلوم الكبيرة، أو العلم الكبير، هو مفهوم يستخدمه العلماء ومؤرخو العلوم لوصف التغيرات التي طرأت على العلوم في الدول الصناعية أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، حيث أصبحت الاكتشافات والمنجزات العلمية تتم عبر مشاريع ضخمة ممولة من قبل الدولة و مؤسساتها، بعد أن كانت تنجز بواسطة مجموعات صغيرة وجهود بسيطة، سميت “العلم الأصغر” . ما زالت العلوم الصغيرة موجودة، فبعض النتائج النظرية التي يتوصل إليها الأفراد من العلماء قد يكون لها قيمة كبيرة في الاكتشافات التي تتوصل إليها الفرق البحثية فيما بعد.[٢] – الطب الحيوي عادة لا يهتم بممارسة الطب بقدر ما يهتم بالمعرفة النظرية والبحث؛ ونتائجه هي التي تمكننا من صنع عقاقيرَ جديدةٍ وفهم الجزيئية، والآليات الكامنة للمرض، وبالتالي تضع الحجر الأساس لجميع التطبيقات الطبية والتشخيص والعلاج.
[٣] – تعني دراسة التغيرات الفيسيولوجية التي تطرأ على الجسم البشري في الظروف المتطرفة كالفضاء أو تسلق الجبال.