ظهَر يوم الثلاثاء 25 من أغسطس عام ۱۸۳۰م في صحيفة “نيويورك صن” المقال الأول من سلسلة مثيرة للاهتمام بعنوان: “الاكتشافات الفلكية الكبرى التي قام بها حديثا السير جون هيرشيل”، وحتى نهاية ۳۱ من أغسطس، دأبت صحيفة نيويورك كل يوم على نشر قصة غير عادية عن أول المراقبين للحياة على سطح القمر، وقد أصبحت قصة من هذا القبيل مقبولة لدى بعضهم بفضل التلسكوب الذي قلب الموازين، وتصفه هذه المقالات بكل دقة، كما تصف القدرات الفنية التي يتميز بها.
وعلى طريقة عالم الأجناس وهو يراقب مجتمعًا غريبًا، فإن جون هيرشيل بدأ بدراسة الحياة النباتية في القمر، وهي من بين أمور أخرى شبيهة بحقول من الزهور الحمراء، وسرعان ما اكتشف هناك -بواسطة تلسكوبه الرائع- وجود حيوانات مألوفة وغريبة في الوقت نفسه: قطعان البيسون الصغيرة، والماعز ذوات القرن الوحيد، وما هو أشد غرابة: كان الرجال المجنحون، الذين يتمتعون حسب ما يبدو بقدر من الذكاء، ووفقًا لهذه المقالات، يطلق العلماء على هؤلاء الرجال اسم “الرجال الخفافيش”، أما الرأي العام فيطلق عليهم اسم “السلينيت”، أي: سكان القمر.
وعندما نشرت هذه القصة الطويلة في الولايات المتحدة وفرنسا، كان من المتوقع أن القراء سيأخذونها كما هي، مجرد مزاح، لكن الصادم أنها أخذت على محمل الجد، وأكثر. وتعرف هذه المادة الصحفية اليوم تحت مسمى “خدعة القمر” Imon hoax”، ومن الصعب تقدير نسب الذين خدعوا بها، ولكن يبدو أن قراء كثيرين جدًّا قد أخذوا بهذه القصة على ظاهرها، أي: بمحمل الجد، ولكن الأمر الذي أدهش المعلقين في ذلك الوقت، وخاصة الكاتب إدغار آلان بو، هو أن أولئك الذين صدقوا خدعة القمر هذه لم يكونوا من الجهلة، ومن غير المتعلمين، بل كانوا من المهتمين بهذه القضايا، ولديهم بعض المعلومات الفلكية عنها.
الحقيقة أن وجود أشخاص ممن لديهم مستوى معين من التعليم وهم غير محصنين ضد تصدیق أغرب المعتقدات قد يبدو أمرًا مستغربًا، ولكن الأمر أكبر مما يتبادر للذهن، وهو يتجاوز خدعة القمر هذه بكثير. وهذا يعني أنه لا يوجد على الدوام ارتباط بين التشبّث بالمعتقدات المشكوك فيها ونقص التعليم، بل العكس هو الصحيح في معظم الأحيان، وهو ما تثبته تحقیقات دانیال بوي وغي ميشلات، وهما عالما اجتماع من الذين درسوا معتقدات الفرنسيين المتعلقة بعلوم ما وراء الطبيعة، وقد ذكرا ما يلي: “يتعين علينا التخلي عن الأنموذج المبسط الذي يقول: إن القرب من العقلانية أو التفكير العلمي يسير جنبًا إلى جنب مع ارتفاع مستوى التعليم”.
نعود إلى إدغار آلان بو الذي فاجأه الأمر أكثر من غيره، وقال ضمن تعليقه على “خدعة القمر”: “أولئك الذين انتابهم الشك في ذلك كانوا في الغالب غير قادرين على ذکر الأسباب، كانوا من الجهلة، من أولئك الذين لم يكن لهم علم بأمور الفلك، من الناس الذين لم يكن بوسعهم تصديق ذلك؛ لأن المسألة كانت جديدة عليهم على الإطلاق، وتفوق بكثير معارفهم المعتادة”.
في الوقت نفسه الذي يعبر آلان بو عن دهشته، نراه يعطينا أول مفتاح لتفسيرٍ مثيرٍ للاهتمام، وذلك بطرح هذا السؤال: لماذا انطلت هذه الخدعة بسهولة على أكثر الناس تعليمًا؟ يُجيب عالم الاجتماع الفرنسي جيرالد برونير في كتابه المهم “ديمقراطية السذّج” بقوله: “ربما لأن تعليمهم يمنحهم نوعًا من الاستعداد العقلي، ومن ثم الرغبة في توسيع مداركهم الفكرية، فالمهتمون بعلم الفلك يعرفون أن هناك كواكب أخرى، ويعرفون الأحلام المرتبطة بقنوات المريخ”، كما كانوا على علم بأن الأرض ليست مركز الكون، وأن معجزة الحياة قد تتحقق تماما في أي مكان آخر؛ فلضحايا خدعة القمر إذن أسباب تدعوهم إلى الاعتقاد وليس هناك سبب واحد يمنعهم من الاعتقاد”.
معارفك قد تكون سببًا في تحيزك، وأداةً في تضليلك، وهو ما يتطلّب مزيدًا من الجهد النقدي المستمر في تلقي الأخبار والمعارف المستجدة، وعدم الوقوع في “البخل المعرفي” الذي يدفعنا لقبول أسهل التفسيرات وأقربها لمعتقداتنا السابقة كما تصفه سوزان فيسك وشيلي إي. تايلور في كتابهما ” Social Cognition”.