تحرير: عبير الشهري
-جورج فلويد- رجل أمريكي من أصل أفريقي يبلغ من العمر 46 عامًا، من أهالي تكساس، أبٌ لابنتين، 6 أعوام و22 عامًا. انتقل إلى ولاية مينيسوتا، وعمل حارسَ مطعم في منطقة مينابولِس خمسَ سنوات، حتى خسر وظيفته مؤخرًا بسبب أمر البقاء في المنزل (Stay-at-home order) استجابةً لتداعيات جائحة COVID-19.
في 25 مايو 2020، ادّعى أحد الباعة أن فلويد قدّم 20 دولارًا مزورة مقابل وجبة طعام، فاستُدعِيَت الشرطة التي حضرت إلى المكان، ووضع ضابط الشرطة ديريك تشوفين قدمَه على عنق فلويد أكثر من 8 دقائق، والأخير مقيَّد اليدين يستغيث صارخًا بأنه لا يستطيع التنفس، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة وفارق الحياة.
كان مقدَّرًا لهذه الحادثة أن توثقها عدسة أحد المارة، وما إن انتشر مقطع مقتل فلويد انتشار النار في الهشيم، حتى ثارت احتجاجات واسعة في منطقة مينيابولس، رافقها أحداث شغب مريعة وحرائق مشتعلة في كل مكان.
أما قاتل فلويد فهو ديريك مايكل شوفين، أمريكي أبيض يبلغ من العمر 44 عامًا، ضابط في قسم شرطة مينيابوليس منذ حوالي عام 2001. كان لدى شوفين 18 شكوى في سجله الرسمي، انتهت اثنتان منها بتأديب من الإدارة بما في ذلك رسائل التوبيخ. شارك شوفين في ثلاث عمليات إطلاق نار من قبل الشرطة، كان أحدها مميتًا. وُصف شوفين بأنه يستخدم أساليب شديدة العدوانية، وقد طُلب منه تخفيف هذه الحدّة.
هل كانت هذه الحادثة حادثةً فردية لا تعبِّرُ عن ثقافة كامنة؟ وهل الأقليات العِرقية حصلت فعلًا على حقوقها؟ وهل النظم الديمقراطية كفيلة بمنع مثل هذه التجاوزات؟ يدّعي كثير من الناس أن الديمقراطية هي الحل وأنها (الدين) المثالي العالمي. وإنما زعموا ذلك تأثراً بآلة الدعاية الإعلامية التي تدندن كثيراً بصورة دوغمائية حول الحرية والمساواة وحقوق الإنسان وتقرير المصير، في الوقت الذي تنتهك فيه هذه الحقوق في الواقع. [1]
يتحدث عدد من مفكري الغرب اليوم عن موت الديمقراطية، فقد أصبحت مجرد شعارات جوفاء بغرض الاستهلاك الدعائي، ولم يبق للشعوب تمثيل حقيقي بعد سيطرة الشركات الكبرى والنخب المتنفذة. يقول جان ميشال دوكونت: “الديمقراطية اليوم أصيبت بنوع من الوهن، ويبدو أن المواطنين ينفضّون عنها على نحو متزايد، سخطاً أو ضجراً. وهناك من يرى أن الشعب، الذي لا يكاد يتعرف إلى نفسه في ممثِّليه، قد بات يهجر هذا الشكل السياسي”. [2] ووفقاً لمعجم أوكسفورد في علم الاجتماع، أصبح مصطلح (الديمقراطية) كلمة “لا معنى لها” تقريباً. وأصبحت تُستخدم لمجرد إضفاء الشرعية على أي نظام من الأنظمة السياسية. [3]
وظهر مفهوم “ما بعد الديمقراطية” (Post-democracy) ويُعنى به تلك السياسة التي تحكم بشعارات الديمقراطية لكنها فارغة من محتواها، أو تكون تطبيقاتها محدودة، بحيث يتجاهل ممثلو الشعب مطالبَ الشعب، وتصبح القرارات السياسية تابعة لمصالح أصحاب رؤوس المال العظمى. كما ظهر مصطلح (Ungovernability) ويعنون به: عدم القدرة على مواصلة الحكم، وهذا ناشئ عن الطبيعة الداخلية لفكرة الديمقراطية والتي تحاول الجمع بين المتناقضات والإرادات المتصارعة فيما بينها مما يؤدي إلى عدم الاستقرار.
الليبرالية عنصرٌ جوهري من عناصر الفكرة الديمقراطية، لكن مكانتها في المجتمعات المعاصرة تتضاءل أكثر فأكثر. ويتساءل ألان تورين: “كيف السبيل للدفاع عن (لا أدريتها) في حين إن المذاهب القومية والمعتقدات الدينية تحرِّض قسماً كبيراً من العالم؟ أما في البلدان التي يسيطر عليها اقتصاد السوق، فكيف السبيل إلى منع الرغبات والمصالح الخاصة من تجزئة المجتمع إلى سلسلة من الفئات المنغلقة على نفسها؟ هل يزال بوسعنا إطلاق صفة الليبرالية على مجتمع تكتسحه أمواج المضاربات، وتهيمن عليه الامبراطوريات المالية لاستهلاكٍ ضخمٍ يراعي الطلبات التجارية الفردية على حساب أشكال الاستهلاك الاجتماعية وعلى الرغبة في العدالة والمساواة؟”.[4]
ويضرب (مايكل مارغولِس) بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية مثالين لليبرالية غير ديمقراطية. [5] ويرى (كريغ سميث) و(توم مايرز) في كتابهما (الديمقراطية وسقوط الغرب)، أن تعاظم سلطات الحكومة الديمقراطية في مقابل تآكل الحرية الفردية يجعل هذه الدولة الديمقراطية لا تختلف كثيراً عن الدول السلطوية الأخرى، وأن الديمقراطية الحديثة قد تقود إلى الطغيان، مما يؤدي إلى انحدار الغرب وسقوطه. [6]
وأما (كلاوس جينر) فقد أصدر كتاباً بعنوان (موت الديمقراطية في أمريكا)[7] وأوضح فيه دور هذه العوامل في انحدار الديمقراطية في أمريكا: دور السوق الحرة الرأسمالية، دور وسائل الإعلام، دور جماعات الضغط، دور الاقتصاد، دور السياسيين وعوامل أخرى متفرقة. ومن الـمُلاحظ أن هذه العوامل هي نفسها شروط وجود الديمقراطية، مما يدل على أن الديمقراطية في أصلها تحمل بذور موتها.
ويقرر (كلاوس جينر) أن هذا الانحدار إنما يحصل في أمريكا التي تطبق كافة آليات الديمقراطية من فصل السلطات، وضمان الحريات السياسية وحرية التعبير، وتنظيم الانتخابات، وغيرها من الوسائل. ومع هذا فلم تكن هذه الإجراءات والضمانات كافية لتحقيق التقدم والازدهار، بل إن أمريكا، حسب رأي المؤلف، آخذة في طريقها نحو الانحدار والموت.
أما روبرت دال، أحد منظري الديمقراطية المشهورين، فقد ذكر في كتابه (On Democracy) مقومات العملية الديمقراطية التي تتمثل في وجود المشاركة الفاعلة بأن تكون لجميع الأعضاء المشاركين في العملية السياسية فرصٌ متساوية في إبداء آرائهم وصياغة السياسات، ووضع جداول الأعمال (الأجندة) لما يجب أن يُطرح للنقاش. وعندما يحين وقت التصويت لقرار ما، يجب أن يكون لكل منهم صوت وتكون هذه الأصوات متساوية، ويحسم القرار لصالح أصوات الأغلبية. وحسب رأي (روبرت دال)، يجب أن يكون هؤلاء الأعضاء على مستوى واحد من التفهم المستنير لهذه السياسات والبدائل لها والمصائر المحتملة لكل منها. ولا بد في النظام الديمقراطي من مشاركة كل البالغين ممن لهم صفة المواطنة.[8] هذا ما يقرره منظِّرُ الديمقراطية، وحسب هذه المعطيات يَرِدُ التساؤل: هل يمكن أن توجد ديمقراطية (حقيقية)؟!
ويشير (روبرت دال) أيضاً إلى أنه مع كون وجود السوق الحرة ضرورياً للحياة الديمقراطية، إلا أنه لا يمكن إغفال أن اقتصاد السوق قد يؤدي إلى تفاوتٍ اقتصادي كبير بين الأفراد وطبقيةٍ واضحة، مما يؤثر على عامل المساواة الاقتصادية والسياسية بين المواطنين في الدولة الديمقراطية، مما سيدمر النظامَ الديمقراطي نفسَه.
ومع التوزيع غير المتكافئ للثروة الاقتصادية، أصبح الحصول على معلومات حقيقية غير مرشَّحة ولا منحازة أمراً مقتصراً على النخبة التي لا تتجاوز نسبتها واحداً في الألف من عموم الأفراد الذين يتعرضون إلى معلومات مُوَجَّهة ومُضَلِّلة بفعل امبراطوريات الإعلام التي يسيطر عليها أرباب الأموال.[9] والرأسمالية –القائمة على الطمع والمصالح الذاتية-بهيمنتها على وسائل الإعلام نجحت في استبعاد الجمهور من وضع جداول الأعمال (الأجندة) للحوار السياسي، وأصبح وضع هذه الأجندة حكراً على الأوليغارشية الجديدة التي جمعت بين الثروة والسلطة. وكثيراً ما كانت تجري مناقشات في الخفاء بعيداً عن أنظار الجماهير عما يجب أن تقوم به الأقلية (المستنيرة) بمعزل عن اطلاع وتقييم الأكثرية (الجاهلة والغبية)![10]
وسائل الإعلام الجماهيرية (Mass Media) تلعب دوراً جوهرياً في تشكيل الرأي العام حول القضايا المهمة، وذلك من خلال نوعية المعلومات والأخبار التي يتم تسريبها والتفسيرات التي تقدمها. كذلك لهذه الوسائل دور خطير في تشكيل الثقافة ونشر المعتقدات والقيم والعادات وطرق الحياة.
والصناعة الإعلامية تُعد جزءاً هاماً من النظام الرأسمالي الذي تحركه المنفعة الذاتية، وهي تقدم المعلومات بالشكل الذي يحقق لها أرباحاً أكثر، ولا تقدمها مجردةً محايدة. فوسائل الإعلام بوضعها الحالي لا تخدم النموذج المعياري الذي وضعه منظر الديمقراطية (روبرت دال) في اشتراط أن يتلقى الجمهور معلومات حقيقية، وأن يكون متعقلاً للقضايا السياسية التي تُطرح للتداول ومتفهماً لمآلاتها. ومما يزيد من خطورة الإعلام لجوؤه لخبراء علم النفس واستعمالهم للأساليب التي تخاطب الشعور الداخلي والعقل الباطن. فقد ذكر (فانس باكارد) في كتابه (الـمُقْنِعَات الخفية) [11] أن أصحاب الحملات الانتخابية يلجؤون إلى استخدام التحليل النفسي الشامل لتوجيه حملات الإقناع لانتخاب مرشحين معينين أو للإقناع بأفكار ومواقف وأهداف معينة، وإن لم تكن مطابقة لحقائق الأمور.
وفي كتاب (في الأيام الأخيرة من الديمقراطية: كيف تقود وسائل الإعلام والحكومة المتعطشة للسلطة أمريكا نحو الديكتاتورية؟)[12] قَدَّمَ (إليوت كوهين) و(بروس فريزر) وصفاً شاملاً وتحليلاً لتأثير الإعلام المسيطر والمدمر للنظام الديمقراطي، واستشهد المؤلفان بدور امبراطوريات الإعلام من أمثال: CNN، Fox و NBC في تزييف الحقائق (وخطف أمريكا) وتوجيه الرأي العام ليخدم مصالح الفئات المنتفعة، التي جمعت بين الثروة والسلطة وتلاعبت بالجماهير بشكل منهجي، وخدعتها وجردتها من حريتها. وفي الكتاب استعراض لمشروع القرن الأمريكي الجديد (PNAC) الذي سوقت له وسائل الإعلام وهو في الحقيقة يحول أمريكا من دولة ديمقراطية إلى دولة سلطوية، وينشر الخوف والرعب من قضايا متوهمة، ويسلب الأفراد حقوقهم الأساسية وحرياتهم التي كفلها لهم الدستور بأهون الذرائع.
هذا يعيد الأمر إلى حقيقة قررها (روسو) في (عقده الاجتماعي)، إذ “إنه لم توجد ديمقراطية حقيقية قط، ولن توجد مطلقاً، فممّا يخالف النظام الطبيعي أن يَحكم العدد الأكبر وأن يُحكم في العدد الأصغر، فلا يُتخيل أن يبقى الشعب مجتمعاً دائماً لينظر في الأمور العامة”. [13]
وأما ما يتعلق بقصور المنظومة الأخلاقية، فقد تحدث (جون دان) عن فقدان الديمقراطية للقيم الأخلاقية والاجتماعية.[14] ويصف هنري لويس منكِن “المخادعين الذين يتمتعون بميزات هائلة في ظل الديمقراطية، فالجماهير لا تشعر بمخازيهم، ومن العسير التغلب عليهم عندما ينافسون أهل الفضل، وأدى هذا إلى تمكنهم شيئاً فشيئاً من احتكار جميع المناصب العامة، وعلى أيديهم بزغ المشروع الأمريكي الذي يتقن الكذب والرياء… إنه يتلقى التعليمات من أساتذة في الدجل والاحتيال، ثم يتغنى بمحاسن مرؤوسيه ومداهنتهم، وحياته العامة عبارة عن سلسلة لا تنتهي من المراوغات والادعاءات الزائفة. وهو على استعداد لاحتضان أي قضية، مهما كانت درجة حماقتها، ما دامت ستساعد على كسب المزيد من الأصوات، كما أنه على استعداد للتضحية بأي مبدأ مهما كانت سلامته، إذا رأى أنه سيكون سبباً لخسارته في الانتخابات… ومن البدهيات الـمُسَلَّم بها؛ أنه ليس باستطاعة أحد أن يشق طريقه في السياسة في الجمهورية دون مرور بهذه السفالات. إنها ضرورية كضرورة التنفس”.[15]
“إن الديمقراطية تصور للمواطن العادي أنه يتمتع بأهمية حقة في العالم، وأن له دوراً في إدارة الأحداث، ولكن الحقيقة أنه لا شيء” [16]، مثل حياة فلويد!
اقرأ ايضاً: موتُ الديمُقراطيةِ وولادةُ وحشٍ مجهول
[1] Graeme Duncan, Democratic Theory and Practice, p. 15.
[2] جان ميشال دوكونت، الديموقراطية ص 20.
[3] John Scott and Gordon Marshall, Oxford Dictionary of Sociology, p. 147.
[4] ألان تورين، ما الديمقراطية، ص 81-82.
[5] Margolis, Michael, Viable Democracy, p. 27.
[6] Craig Smith & Tom Miers, Democracy and the Fall of the West.
[7] Claus D. Gehner, Death of Democracy in America.
[8] Robert Dahl, On Democracy.
[9] Claus Gehner, Death of Democracy in America pp. 328-330.
[10] Ibid, pp. 524-548.
[11] Vance Packard, The Hidden Persuaders.
[12] Elliot D. Cohen and Bruce W. Fraser, The Last Days of Democracy: How Big Media and Power-hungry Government are turning America into a Dictatorship.
[13] Rousseau, The Social Contract, p. 34.
[14] John Dunn, Western Political Theory in the Face of the Future, p.4.
[15] جون بورر وميلتون جولدينجر، الفلسفة وقضايا العصر 2/29-33.
[16] المرجع السابق 2/39.