ماجد البلوشي
تغشاني في أوقات متباعدة أسئلة كريمة تُنبئ عن وفرة في العقل ورهافة في الحس وطموح في الهمة، يلتمسُ أصحابها الكرام أن أشاركهم خطة مقترحة لإثراء أساليبهم البيانية في كتاباتهم الإنشائية، وبادئ ذي بدءٍ فإني أشكرهم على إحسان الظن بي، وإنزال ما أكتبه منزلًا كريمًا في نفوسهم وعقولهم، وتلقّيهم لمقالاتي بالقبول.
ثم أشكرهم تارةً أخرى لأنّهم بهذه الرغبة إنّما يخدمون أمتهم العربية الإسلامية، ويُحسنون إلى أنفسهم وإلى الأدب الذي يستهدفونه بالتعلّم، وينتشلون مُريديه من متاهة الابتذال وامتهان الأساليب التي شاعت مؤخرًا.
والأدب شأنه شأن كل شيء في هذه الحياة، إذا مال الإنسان بعنايته إليه، ووهبه مستحقه من الوقت، وراح يمارسه ويزاول فيه إعمال عقله وفكره وقلمه، فلا ريب أن ثمرة ذلك ستظهر على صاحبها إن شاء الله، فما الأدب والبيان والبلاغة بأشياء مستعصية مستغلقة!
ومن أحب أن يغشى فردوس الأدب ويزاحم روّاده بمناكب الجزالة والفصاحة، فلا يثلمنَّ عزيمتَه شُحُّ ملكته الحالية، فيتوانى عن البدء متذرّعًا بضعف آلته ونقص مخزونه اللغوي والأدبي، وبُعد الشقةِ عن الوصول إلى منازل الأدباء، فإن هذه المنازل تُجتنى بالطلب الحثيث، والقراءة الدائبة، والدُربة المستمرة – على ما سوف أبيّنه – وأمّا ضعف الأسلوب في مبتدأ الحال فهو أمر طبيعي.
كان جرير – الشاعر المعروف – ما ينفكُّ مستخفًّا بشعر عمر بن أبي ربيعة، متندرًا به، غير أنَّ ذلك لم يمنع عمرَ من أن يمضي في عزيمة وإباءٍ على نظم شعره متصاعدًا بأسلوبه، غاضًّا طرفه عن تهكّم المتهكّمين، حتى أتاهم بآية نبوغه فقال قصيدته المشهورة التي سُمّيتْ لحلاوتها ورقة مجرياتها “قصب السكر”:
أمن آل نُعمٍ أنت غادٍ فمبكرُ
غداةَ غدٍ أم رائحٌ فمهجِّرُ
عندها خضع له جرير وقال كلمته المشهورة الذائعة: ما زال عمر يهذي حتى قال شعرًا. (الموشح للمرزباني 1/ 260).
ولم تتقيّد براعة عمر بن أبي ربيعة بهذه القصيدة فحسب، بل صار نمط قصائده أسلوبًا متبعًا في الغزل الناعم والنسيب الرقيق، وأصبح أستاذًا ملهمًا لمن جاء بعده من الشعراء الذين تعاقبوا على قول الشعر إلى يومنا هذا، بعد أن تاهت طوائف من سابقي الشعراء دهرًا يَنشُدون الغزل في الوقوف على الأطلال وبكاء الفراق، فتبدّل الشوق الغضُّ الهادئ الهامس إلى مأتم فجٍّ صاخبٍ مزعجٍ تتعالى فيه أصوات النواح والبكاء، كما قال الفرزدق عقب سماعه أبياتًا لعمر في الغزل: هذا الذي كانت الشعراء تطلبه فأخطأته وبكتِ الديار، ووقع هذا عليه. (الأغاني ط. دار الكتب 1/ 75)
وكي لا أطيل في هذه التوطئة، فإني ذاكر مراتب أراها مهمة، وخرائط موصلة إلى المقصود، يجمل بالمتأدب أن يتدرّج فيها حتى يصل إلى غايته إن شاء الله.
أوّلًا: ميزان الكلام
يحتاج المتأدب قبل أن ينتظم في عِقْد الكُتّاب إلى معرفةٍ بميزان الكلام العربي، والمتمثّل في علوم النحو والصرف والرسم، وهذه العلوم وإن لم تكن من صلب مادة الأدب، غير أنها ضابطة لإيقاع الكلام على نحو ما كانت تألف العرب في حديثها، ثم ما تواطأت على الكتابة به.
وحاجة المتأدب إلى النحو والرسم أوسع من حاجته إلى الصرف، وهو في النحو إنما يحتاج إلى القواعد التي يوظّفها في سياق نصوصه التي يكتبها، لا تلك التي تتشعب مسائلها وتنفجر فروعها، وتتعالى فيها غَبَرة الخلاف بين النحاة ويجلبون عليها بخيل نقاشاتهم ورجلها.
وما دام الأمر كذلك، فإنَّ المتون النحوية المبتدئة سهلة ميسورة وكافية في تحقيق الغاية، ومن أهمها: متن الآجرومية، وهو في شهرته بين متون العلوم الأخرى جميعًا كشهرة القمر بين سائر الكواكب، وأشار الشيخ بكر أبو زيد في المدخل المفصل 2/ 689 إلى أنَّ من درس الآجرومية وفهمها كما ينبغي فقد أفلح في النحو.
ويسامت الآجرومية في المرتبة متن آخر هو “ملحة الإعراب” للحريري، وفيها من العذوبة والسلاسة وجمال النظم شيء آسر، وتعلو على الآجرومية بكثرة مسائلها، وسهولة حفظها، ولهذا المتن شروح عدة، ومن ضمنها شرحٌ للحريري.
هذان المتنان فيهما بُلغة كافية لتحصيل اللازم من مسائل النحو، على أن يكرر طالب الأدب القراءة فيها، والاستماع إلى شروحها، دون انقطاع في أوقات متتالية.
أما لو أراد المتأدب أن يرقى درجة أعلى في سلم النحو، فثمّةَ جملة من الكتب من أهمها: متممة الآجرومية للرعيني الحطاب، وهو متن متوسط مهم، ويُعدُّ من أسباب ثراء المعرفة النحوية في بلاد اليمن، لاهتمام الشيوخ بتدريسه في حلق العلم هناك.
ومن كتب النحو المتوسطة المهمة: شرح قطر الندى لابن هشام.
ولم يعد للمتأدب عذر في الإعراض عن دراسة مبادئ النحو واستيعابها، فقد سهّل العلماء على طلاب الأدب دراسة النحو بما أذاعوه من شروحاتهم الثريّة، وعلى رأسهم ريحانة النحاة في المملكة العلامة الشيخ سليمان بن عبدالعزيز العيوني وفقه الله.
أمّا علم الرسم فالمؤلفات فيه كثيرة، ومن أشهرها كتاب العلامة عبدالسلام هارون “قواعد الإملاء” وهو كتاب مشهورٌ معروف، يحقق المطلوب لقارئه، ويعين الطالب على سلامة الكتابة دون أخطاء أو تصحيف.
ثانيًا: سياق الكلام
وأعني بسياق الكلام: طريقة سبكه وسرده في قوالب النثر المختلفة.
هذه المرحلة تمثّل أساس المراحل في تحصيل فن الكتابة الأدبية، وتستهدف تنمية ملكة الكاتب، وتعريضه لتيّار متدفق من الكتابات الأدبية التي أنتجها كبار الأدباء في عصور مختلفة.
والأصل المتفق عليه بين المشتغلين في صناعة النثر، أنَّ القراءة الجادة الدائبة في كتب الأدب الأصيل، والتأمل في نصوصها واستنطاق ما فيها من محاسن الألفاظ والمعاني، تُمكّن قارئها من إجادة صنعة الإنشاء، وتؤسس عنده ملكة الكتابة، لاسيّما إذا تمرّس وأخذ يتدرّب عليها بمحاكاة نماذج سابقيه أحيانًا، وبإرسال الأسلوب حينًا آخر، وهكذا حتى يستوي إبداعه ويقوم على سوق الممارسة الجادة.
ويمكن تقسيم هذه المرحلة إلى مراحل ثلاث:
الأولى: إذابة الجليد:
تمثّل مدارجه الأولى في عالم البيان الأدبي، والغرض منها إزالة الوحشة عن الأساليب البيانية الجزلة، واعتلاء ذوق قارئها إلى ربوة الأدب الجزل الفخم، فالقارئ إذن بحاجة إلى كتابات أدبية سهلة التناول، متينة البيان.
وأقترح له هذه الكتب:
1- كليلة ودمنة لابن المقفع، وابن المقفع من كبار الفصحاء والبلغاء، وكان يكتب باللغتين الفارسية والعربية، فصيحًا فيهما إلى الغاية، وعدَّ ابن النديم كتابه هذا في فهرسته (ص 140) من الكتب المجمع على جودتها في البلاغة، أما أسلوب ابن المقفع في البيان فهو في الطبقة الأولى من كتاب العربية، وألفاظه سهلة ممتنعة، ومعانيه واضحة جليّة.
ثم إنَّ كليلة ودمنة ليس كتاب بيان وأدب فقط، بل هو كتاب سلوك وأخلاق فاضلة، وتنبيه عقلي، وحكمة وإرشاد، ويُنقل أنَّ كسرى كان يُقدّر قرّاء “كليلة ودمنة” حقَّ تقدير لما يغذوهم به من الرُشد والفطنة، ويقول: كتاب كليلة ودمنة يفتح للمرء رأيًا أفضل من رأيه، وحزمًا أكثر من حزمه، لما فيه من الآداب والفطن. (الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري ص 86).
2- النظرات للمنفلوطي، والذي يُعد مجدد النثر في هذا العصر ومُحيي مواته، وأسلوبه رشيق منساب، ومعانيه سهلة التناول، وللزيات مقالة ضافية عن المنفلوطي ودوره الإحيائي في الكتابة الأدبية، ضمن كتابه من وحي الرسالة 1/ 367.
وأثر المنفلوطي على مسيرة النثر العربي، أكبر من أثر الكاتب المجرد، بل هو ملهم الأجيال التي جاءت من بعده، ورائد مدرسة النثر الفني الحديثة، وكما قال العلامة محمد رجب البيومي: “والحق أن المنفلوطي كان قائد مدرسة عملت على الخلاص من العجمة واهتدت إلى صفاء الصقل ونور الديباجة، وقد أشرقت على العالم العربي إشراقًا أخّاذًا، فأخذ النثر على يد المنفلوطي يحلُّ محل الشعر في روعة التأثير، وقوة الإحساس، وصفاء الرونق. (الزيات بين البلاغة والنقد الأدبي ص 35).
وبالغ الزيات وطه حسين ومحمد غنيمي هلال في بعض نقدهم غير المنصف لأسلوب المنفلوطي، وقد أحسن أيما إحسان د. بيومي في دفاعه الرصين عن أدب المنفلوطي ضد ما جوبه به من نقد فيه بعض التحامل. (النهضة الإسلامية في سير أعلامها 2/ 576).
3- فيض الخاطر لأحمد أمين.
4- سلّامة القس لعلي أحمد با كثير.
5- صور وخواطر لعلي الطنطاوي، وهي أندى ما كتب من المقالات، وله كذلك: “مقالات في كلمات” وهي على اسمها، مقالات مختصرة لكنها حسنة لطيفة.
والشيخ علي الطنطاوي ريحانة الأدباء، كساه الله نضرة النعيم في أساليبه الكتابية والخطابية، فإذا كتب جرت حروفه كجداول رقراقة في روضة غنّاء، وإذا تحدث فإنَّ كلامه شدو البلابل يسترعي انتباه السامين ويأخذ بمجامع عقولهم، بل إنَّ كثيرًا مما نشره مكتوبًا من أدبه إنما هو في الأصل أحاديث ملقاة في الإذاعة، ثم أعاد النظر فيها ونشرها مطبوعة، فما نقص ذلك من حلاوتها ولا غضَّ من رونقها.
6- جواهر الأدب لأحمد الهاشمي، يصلح أن يكون توطئة ومدخلًا موضوعيًا مبتدئًا للبيان العربي وصنعة الإنشاء، وفيه مختارات نفيسة.
تزخر هذه الكتب بأسلوب النثر المرسل الرفيع، المعروف بسهولته وسلاسته، ووضوح المعاني فيها، فالكلام فيه فصيح مطبوع قليل الصنعة والتكلف، كتبه أصحابه بألفاظ سهلة في متناول الفهم، وليس فيها المعاني الغائرة أو الأفكار الغامضة، فإذا بدأ المتأدب قراءته بها فإن لها أثرًا قويًّا في إيقاظ ملكته الأدبية.
وعلى المتأدب في هذه المرحلة ألا يشغله شاغلٌ إلا التذوق الأدبي، فيستلذ بالمقروء، ويستمتع به، ويقضي منه همته، ويهتدي إلى أساليب الأدب الراقية وينشأ عليها، فيقرأ لأجل القراءة فقط، دون أن يندفع نحو استعجال إجراء القلم بالكتابة.
الثانية: التأسيس:
وهي مرحلة ينتقل فيه المتأدب من النص السلس المنساب والنثر المرسل، إلى النصوص ذات الأساليب المتعددة بمدارسها المختلفة، فيألف المفردات الغريبة، ويقف على المعاني العميقة، ويلاحظ الفواصل والفقرات والسجع والازدواج، ثم يبدأ في تأسيس معجم يستخلصه لنفسه مما يدوّنه أثناء قراءته في هذا المسار من المفردات والتراكيب والمعاني والصور، ويختار له مختارات يحفظها ويكررها ويقرؤها بشكل دائم.
ومن أهم الكتب في هذه المرحلة:
– الكامل للمبرّد، من مفاخر ما عرفته العربية من كتب الأدب، وقصّر في حقه العلامة عبدالعزيز الميمني عندما جعله من كتب المبتدئة في الأدب، والميمني من كبار العلماء بالعربية، وتعليقنا على رأيه هذا لا يغضُّ من مكانته رفع الله قدره، وإنما يُرجع في التأدب لأهل الصنعة، كما قال الجاحظ: طلبت علم الشعر عند الأصمعي، فوجدته لا يحسن إلا غريبه، فرجعت إلى الأخفش فألفيته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فرأيته لا ينقد إلا ما اتصل بالأخبار، وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب: كالحسن بن وهب، ومحمد بن عبد الملك الزيات. (العمدة لابن رشيق 2/ 755 ط الخانجي، وفي دلائل الإعجاز للجرجاني ص 252 نقل مهم عن البحتري يوافق كلام الجاحظ).
– البيان والتبيين للجاحظ، خريدة البلاغة الأشهر عبر العصور، وعمدة المتأدبين قديمًا وقِبلتهم التي كانوا يعكفون عليها، ألّفه الجاحظ في مرحلة متأخرة من حياته وقد اكتملت أدواته المعرفيّة وبلغ بيانه ذروة الحلاوة.
وهل عنوانه هو “البيان والتبيين” كما استفاض في أغلب نسخه الخطية، وجرى ذكره على ألسنة العلماء وفي كتبهم على تعاقب القرون، وإليه يميل الدكتور الطاهر أحمد مكي (دراسة في مصادر الأدب ص 118)، أم أنَّ عنوانه هو “البيان والتبيُّن” كما ورد عند ابن خلكان في الوفيات (3/ 471)، وهي مضبوطة كذلك مشكّلة بالحركات في نسخة الوفيات بخط ابن خلكان نفسه، وبه ضُبطت إحدى النسخ الخطية القديمة للبيان والتبيين، والتي قوبلت على أصول صحيحة (مقالات الطناحي 2/ 512) ويميل إلى هذا د. الشاهد بوشيخي والذي قدّم مرافعة طويلة في عشرين صفحة لتأييد رأيه، تجدها في كتابه “مصطلحات نقدية وبلاغية” ص 27 وما بعدها؟
الأمر متحمل، والخطب يسير إن شاء الله، وإن كنت أميل شخصيًّا إلى أنَّ عنوان الكتاب هو “البيان والتبيين” لاستفاضته وشهرته وصحة أصوله الخطيّة المتتابعة.
ومن كتب الجاحظ المهمة في البيان والماتعة في المحتوى: البخلاء، وحتم لازم أن يقرأ معها المتأدب مقدمة محققها طه الجاحري، ففيها بيان عالٍ ومدخل وثير إلى أدب الجاحظ وأسلوبه.
– زهر الآداب للحُصْري، وله أيضًا جمع الجواهر في الملح والنوادر، مجلد صغير لطيف المحتوى.
– المقامات لبديع الزمان الهمداني.
– الأمالي لأبي علي القالي، واشتهرت تسميته في كتب المتقدمين بالنوادر، كما عند ابن حزم وابن خلدون وغيرهما، وهي تسمية لكتاب واحد، حسب ما حققه الميمني وهو في المجموع من بحوثه وتحقيقاته 1/ 26.
– أخلاق الوزيرين لأبي حيان التوحيدي، وكذلك: الإمتاع والمؤانسة له، ونثر هذا العَلَم في أعلى عليين، أما صدق لهجته ففي أسفل السافلين، فما برح يكذب ويختلق ويبالغ في خصومته ويفجر فيها حتى عُدَّ في المجروحين.
– طبقات فحول الشعراء لابن سلام.
– المختار لعبدالعزيز البشري.
– أمراء البيان لمحمد كرد علي، ومقدمته مهمة.
– وحي القلم للرافعي.
– من وحي الرسالة للزيات، وهو أمير البيان العربي، كما أنَّ شوقي أمير الشعر العربي، وله يدٌ طولى ومنّة يمتنُّ بها على صنعة الإنشاء في عصرنا بما وطّأه لهم في مجلة الرسالة، التي كانت حضنًا دافئًا ومرتعًا خصبًا لكل من قصد إلى تطوير أسلوبه الأدبي.
– حديث الأربعاء لطه حسين، وكذلك “الأيام”، ونثر طه حسين كالشهد المصفّى حلاوة وجمالًا، وأمّا بعض مناهجه وآرائه فهي سمٌّ زعافٌ، جعلت منه هدفًا لمرمى سهام أهل العلم والأدب في عصره، ويُقال أنه رجع عن كثير من آرائه المثيرة للجدل.
– عبقرية عمر للعقاد.
– آثار البشير الإبراهيمي، وهي من أنفس ما يقرؤه المتأدب من كتب المتأخرين إنشاءً وحكمة وبيانًا وإذكاءً للروح الإسلامية، وكأنَّ البشير الإبراهيميَّ ببيانه المغربيِّ الأشمِّ هذا يقول للمشارقة:
إنَّ بني عمّك فيهم رماح!
ونثر البشير الإبراهيمي أعمقُ وأكبرُ من أن يكون متعةً واستلذاذًا بالبيان فحسب، بل هو مدرسة في الفكر والثقافة والتربية والحكمة الراسخة.
– جبران خليل جبران لميخائيل نعيمة، و”مذكرات الأرقش” له كذلك.
– يوميات نائب في الأرياف لتوفيق الحكيم.
من أعمق أعمال توفيق الحكيم الأدبية، وفيها أفكار وتأملات ذات غور، وبلغت شهرتها حدًّا بعيدًا فترجمت إلى لغات عدة، وكان من ضمن مترجميها الأديب اليهودي أبا إيبان، ونشر ترجمته لها بعنوان “متاهة العدالة”، ثم غلبت على أبا إيبان شقوته فصار وزيرًا لخارجية الكيان الصهويني، وقد التقى به أنيس منصور وكتب عنه وعن ترجمته للرواية في كتابه “في انتظار المعجزة” ص 164.
– الثائر الأحمر لعلي أحمد با كثير.
هذه الكتب نماذج إرشادية لما يقرأه المتأدب، وليس بمتعيّن عليه أن يقرأها جميعها، وإنما يختار منها ويفاضل بينها، وهي مزيج بين كتبٍ في المختارات الأدبية، وأخرى مقالات ونصوص نثرية لعدد من الكتاب البارعين، وبعضها في فنِّ الرواية، صالحة كلها في إعانة الكاتب على تأسيس مساره النثري، وشق طريقه نحو الكتابة.
وكما للمؤلفات الموضوعة في الأدب تأثيرٌ على المتأدبين، فإنَّ أساليب العلماء وبيانهم العلمي له تأثير كذلك، ومن أشهر العلماء الذين افتنّوا بالأسلوب الأدبي بين يدي مباحثهم العلمية: الشافعي، وابن جرير الطبري، وابن جني، والجرجاني مؤلف الوساطة، وعبدالقاهر الجرجاني مؤلف دلائل الإعجاز، والمسعودي في “مروج الذهب”، والمرزوقي شارح الحماسة، والغزالي، وابن خلدون.
واشتهر ابن خلدون بالأدب والكتابة في مقتبل عمره، حتى إنه صار كاتبًا لأحد سلاطين الدولة المرينية وهو في الرابعة والعشرين من عمره، ثم ذاع صيته وبلغ من اشتعال شرارة شهرته في شبابه أنَّ شيخه لسان الدين ابن الخطيب ترجم له ترجمة حافلة في “الإحاطة” (3/ 497 ط. الخانجي) وخلع عليه فيها أسبغ عبارات التبجيل والاحتفاء، علمًا أنَّ عمر ابن خلدون آنذاك في الثلاثين، ثم امتدت به الحياة فعاش بعد وفاة شيخه ابن الخطيب أكثر من ثلاثين سنة.
وتقلبت الدنيا بكل من ابن الخطيب وابن خلدون، وتشابهت بعض أحوالهما، ولَشَدَّ ما يُشجيني تعبير المقريزي وهو يصف حاجة ابن خلدون إلى الموت والراحة بعد تقلبات الحياة بقوله: “مات وهو قاضٍ موتًا وَحِيًّا – أي سريعًا – من غير تقدم مرض.. أحوج ما كان إلى الموت!”. (درر العقود الفريدة 2/ 398).
ومن مآثر لسان الدين ابن الخطيب موشّحته الأندلسية الخالدة:
جادك الغيث إذ الغيث همى
يا زمان الوصل بالأندلسِ
ومما أنصح به في معاملة هذه الكتب:
- اقرأ الكتاب كاملًا بتركيز وحضور ذهن.
- كرر قراءة الكتاب الذي ترى في نصوصه أثرًا عليك، أو كما عبّر الرافعي: اقرأ حتى ينقطع نَفَسك وأنت تقرأ.
- حفظ ما يُستجاد من المختارات الشعرية، ولا بأس أن تجعل معك ورقةً تسجّل فيها ما تستعذبه من الشواهد الشهرية، لتجمع مختاراتك الشعرية الخاصة بك، وتكررها لتحفظها.
- اختر قطعة أدبية وكرر قراءتها عدة مرات بصوت مسموع، حتى يستقيم لسانك على الإلقاء الفصيح.
- إذا وجدت لفظة غريبة فاستعن عليها بالقاموس المحيط، واقرأ في معناها وما تصرّف عنها وما اشتق منها، حتى تعرف كيف تستخدم الكلمة في سياقها المناسب لها.
- ابدأ بمحاكاة الكاتب الذي راقت لك نصوصه الأدبية، وذلك أن تكتب قطعة صغيرة تُحاكي أسلوبه، ثم كرر المحاولة بقطعة أخرى في نص آخر، وهكذا.
- ركّز أثناء المحاكاة على أسلوب الكتّاب المتأخرين، كالمنفلوطي والطنطاوي والبشري وطه حسين، فهم أكثر مناسبة للعصر.
وهذه النقطة الأخيرة مهمة، وهي أن يكتب الإنسان ما يناسب أهل عصره، دون أن يتخلّى عن معايير الفصاحة والجزالة، إذ ليس من شرط النبوغ في الأدب محاكاة أساليب القدماء، أو الاقتصار عليها، وأشار إلى نحو هذا الكلام الأصفهاني في الأغاني في ترجمة عبدالله بن المعتز 9 – 10 / 3738 (طبعة دار الشعب) فانظره فإنه مهم.
الثالثة: الموسوعات الأدبية:
وهي الكتب الأدبية الطوال، وعلى رأسها:
– العقد الفريد لابن عبدربه، وأغلب كتب التراجم تسميه “العقد” دون إضافة، وبلغت حظوة الكتاب مبلغًا عاليًا، فعلى الرغم من تأليفه ببلاد الأندلس إلا أنه سرعان ما وصل إلى المشرق الإسلامي وحرص على اقتنائه العلماء والأدباء. (معجم الأدباء 1/ 464).
– الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، ديوان الأدب وتاريخه المشهور، وصفه محمد كرد علي بوصف فخم فقال: “مثل هذا التأليف إذا أرادت أمة عظيمة من أمم الحضارة الحديثة أن تخرجه للناس، لا يعمل فيه أقل من خمسين عالمًا أخصائيًا في فنّه، وأبو الفرج عمله وحده!”. (كنوز الأجداد ص 164)
ومنذ أن كتبه الأصفهاني ونسخه الخطية لا تكاد تتوقف، حتى إن ياقوتًا الحموي – الناسخ المعروف – افتخر أنه كتب نسخة منه بخطه في عشر مجلدات. (معجم الأدباء 4/ 1708).
كذلك لم تتوقف طبعاته في العصر الحديث من حين أول طبعة له وهو الجزء الأول منه نشره المستشرق الألماني المعروف كوزيجارتن عام 1840م، ثم تتابعت عليه المطابع في الشرق الإسلامي بدءًا من مطبعة بولاق الشهيرة التي طبعته عام 1305هـ في عشرين جزءًا، وهكذا توالت واستمرت المطابع ترفد به المكتبات والقراء إلى يومنا هذا.
وكان كوزيجارتن من نوابغ المستشرقين، حاذقًا بالعربية قراءة وكتابة وتذوّقًا، شجّعه على ذلك والده الذي انتدبه للدراسة على شيخ المستشرقين الفرنسيين دي ساسي، ثم حاز قصب السبق في طباعة كتب متخصصة في الأدب العربي لم يُسبق إليها، كما كان شاعرًا معروفًا بالألمانية، تربطه صداقة حميمة بالأديب الألماني الكبير جوته، وله أيادٍ طولى على جوته في وصله بالأدب الإسلامي وتبصيره به وفتح آفاقه عليه، فقد كان يترجمه له من العربية إلى الألمانية ويقرؤه عليه، ثم يقوم جوته بإعادة صياغتها شعرًا بالألمانية، وكان جوته وزيرًا فعيّنه أستاذًا للغات الشرقية في جامعة بينا. (انظر: “معجم المطبوعات العربية والمعرّبة” لسركيس 2/ 1579، وموسوعة المستشرقين لبدوي 486، و”المستشرقون” لعقيقي 2/ 696 وهذا الكتاب من الموسوعات المهمة المغمورة، وعن صلة جوته بالثقافة العربية والإسلامية وتأثيرها عليه يُنظر كتاب “جوته والعالم العربي” لكاترينا مومزن)
كما تمادت شهرة كتاب الأغاني في حياة مؤلفه فسُيّرت به القوافل إلى الأندلس، بل إن مؤلفات الأصفهاني كانت متداولة ذائعة الصيت في الأندلس – وذلك لجاه أبناء عمومته ملوك الأندلس الأمويين – أكثر من انتشارها في المشرق الإسلامي، إذ لم يقف كثير من المشارقة آنذاك إلا على بعض كتب الأصفهاني، كما ذكر ذلك الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 11/ 398.
واشترى الملوك والخلفاء والأعيانُ كتابه الأغاني بمبالغ كبيرة (معجم الأدباء 4/ 1707)، ومن ذلك أنَّ المستنصر بالله أحد ملوك الأندلس أرسل إلى الأصفهاني ألف دينار على أن يبعث له نسخة من الأغاني (المغرب في حلي المغرب 1/ 186)، وقد ذُكر أنه بدأ تأليفه وهو في الثلاثين من عمره (مقدمة تحقيق السيد أحمد صقر على مقاتل الطالبيين ص 5).
ويُسمى الكتاب أيضًا “الأغاني الكبير” – وبهذا العنوان نشره المستشرق كوزيجارتن في طبعته الأولى – تمييزًا له عن كتابه الآخر المفقود “مجرد الأغاني” الذي جعله خاصًّا بالأغاني والأصوات دون تطويل بذكر أخبار الشعراء، بحسب ما نصَّ عليه في مقدمة الأغاني، وسمّاه مغلطاي في إكمال تهذيب الكمال: التاريخ الكبير (5/ 130)، وياله من اسم معبّر! فالكتاب حقًّا تاريخ كبير كبير وتدوين غير مسبوق لتاريخ الأدب والشعر على مستوى جميع الأمم وشعوب الأرض.
ولا تتمحّض قيمة الكتاب ومكانته في جمع أخبار الشعراء والأدباء وأقاصيصهم المتناثرة، وهو عمل تنوء بمثله مجامع بحثية ضخمة، بل إنَّ له قيمة فنيّة أخرى تتمثّل في كون الأصفهاني صاحب نثر فاخر ولغة فخمة، وله لفتات نقديّة عالية الكعب متينة الرأي، وانظر على سبيل المثال كلامه عن الشاعر أبي تمام، فإنه قطعة أدبية عزيزة المثال.
وحال أبي الفرج الأصفهاني من المشكلات! هل الرجل مقبول في الرواية؟ وإلى ذلك يميل الذهبي (ميزان الاعتدال 3/ 123) وابن حجر (لسان الميزان 5/ 526) والألباني (الضعيفة 14/ 27) وبكر أبو زيد (طبقات النسابين 85)، أم هو متهم في نقله ويَنْحل ترجمات الأعيان من الأخبار ما لا أصل له، كما يرى القاضي عياض (ترتيب المدارك 4/ 14 ط. المغربية) وابن الجوزي (المنتظم 14/ 185) وابن تيمية (تاريخ الإسلام 8/ 100)؟
وهل مروياته الهائلة، متصلةُ السند سماعًا أو إجازة كما هو رأي محمود شاكر؟ أم أن المتصل منها مرويات يسيرة، ثم ينقل الباقي – وهو قدر ضخم – من الكتب، كما أشار إلى ذلك ابن النديم في كتاب الفهرست بقوله: “وله رواية يسيرة، وأكثر تعويله في تصنيفه على الكتب المنسوبة الخطوط، وغيرها من الأصول الجياد” الفهرست 128؟
وقد تأملت في نقد الإمامين ابن الجوزي وابن تيمية لرواية الأصفهاني، فرأيتهما يستندان على حاله في الديانة والتشيّع، وميله إلى العبث والمجون، لهذا فإنّ الأقرب في حال الأصبهاني فيما يرويه وينقله، هو رأي الإمام ابن حزم في الجاحظ، عندما قال فيه: “و.. عمرو بن بحر الجاحظ وهو إن كان أحد المجان، ومن غلب عليه الهزل وأحد الضلّال المضلين – قال تعالى: “ولا تمش في الأرض مرحًا” – فإننا ما رأينا له في كتبه تعمّد كذبة يوردها مثبتًا لها، وإن كان كثير الإيراد لكذب غيره”. (الفِصَل في الملل والأهواء والنِّحَل 5/ 39 ط.الجيل)
وتأمل في نصِّ ابن حزم، وانظر ثراء عقله بالقرآن الكريم، وتشبّعه منه، واعتزازه بمبادئه الإيمانية، وكيف أورد هذه الآية لنقض حال الجاحظ التي امتلأ باللهو والمرح، ثم كيف أنصفه بتمييز حاليه عن بعضهما، حاله في نفسه صلاحًا وفسادًا، وحاله في روايته قبولًا وردًّا.
وهذا ما يُسمى في علم المنطق: الجهة المنفكّة.
وقد جمع د. محمد أحمد خلف الله في كتابه “صاحب الأغاني” نصوصًا كثيرة من الأغاني، تُشير بوضوح إلى تجرّد أبي الفرج في روايته، وحرصه على نقل الخبر كما هو سماعًا أو إجازة أو وِجادة، والبراءة من عهدته بإسناده إلى رواته، ومناقشة الرواة تارةً فيما يروونه، وحكمه على الأسانيد تارةً أخرى بالرد والطعن فيها، بل والحكم على الخبر بالاختلاق والكذب، ويمكن الرجوع إليها في كتاب د. خلف الله ص 247 وما بعدها.
وكتاب د. خلف الله من الكتب القليلة التي درست حال أبي الفرج الأصفهاني في روايته، وهو على ما فيه من الفائدة إلا أنّهُ من غير مختصٍّ، وثمّة كتاب آخر عن الأغاني صنوٌ له، مطبوع، وهو “دراسة الأغاني” لأديب الشام الكبير شفيق جبري، غير أنَّ الأغاني وصاحبه الأصفهاني بحاجة ماسة للمزيد من الدراسات الأكاديمية النقدية الفاحصة.
ومهما يكن الأمر فإن قيمة كتابه الأدبية مجمع عليها بين صناع النثر والمتأدبين، فهو كتاب أدب ونثر لا نظير له، والناس من بعد تأليفه عالة عليه، لكنه ليس مدوّنة تاريخية معتمدة (يُنظر: “صاحب الأغاني” لخلف الله ص 252)، بَلْه أن يكونَ كتاب اجتماع وتحليل نفسي، وهو ما التبس واختلط على كثير من المستشرقين ومن استخفّوهم من أدباء العرب فأطاعوهم، فهؤلاء لا يعرفون من كتاب الأغاني إلا ما يقتبسونه من نصوص اللهو والمجون، ويختزلون صورتهم عن المجتمع المسلم فيه، فرحين بما آتاهم علم الاجتماع من النظريات المنقوصة.
والأصفهاني في الأغاني خلط عملًا صالحًا من حفظه لأخبار الشعر والشعراء وإيراده بلغة أدبية راقية السبك، جزلة السرد، بآخر سيئٍ من بثِّه لمجون وقبائح واستسهال الموبقات، مما تسمو نفوس المسلمين عنها، غير أنَّ هذا شيءٌ من بضاعة أبي الفرج التي حذِقها: السمر والغناء والمنادمة والأُنس، وانظر تعريضًا ذكيًّا من ابن تيمية ببضاعة أبي الفرج الأصفهاني ومخرجات علمه في كتاب الاستقامة 1/ 338.
ويكثر السؤال عن طبعات الأغاني المعتمدة، وهذا يحتاج إلى تفصيل وبيان ومناسبة أخرى، غير أن طبعته عن دار صادر تؤدي الغرض، وهي موجودة في المكتبات، على أنَّ الأغاني يحتاج إلى تحقيق جديد ودراسة ضافية، فنسخ الكتاب الخطيّة غمرت مكتبات المخطوطات في العالم.
وأختم الكلام عن الأغاني وأبي الفرج بالقول أنَّ الأصفهانيَّ – مهما كان صنيعه في كتابه – إنّما هو ربيبُ العلم وخرّيجُ العلماء، ولم يكن بطّالًا يعتاش على صناعة اللهو والمجون فقط، فقد درس على نخبة من العلماء الكبار وسمع منهم كان على رأسهم الإمام ابن جرير الطبري، كما سمع منه وروى عنه طائفة من العلماء يتقدّمهم الإمام الدارقطني الذي روى عنه ولم يتعقّبه بجرح أو تضعيف، وحسبك بابن جرير والدارقطني من شمس وقمر.
– الحيوان للجاحظ، وما عرف الجاحظَ حقَّ معرفته من لم يقرأ هذا الكتاب، فهو معْلمة أدبية وموسوعة علمية عجيبة، وكم حجب اسمُه الناسَ عن قراءته ظنًّا منهم أنه في أخبار الحيوان وعجائبه فحسب! وقد أعدَّ المستشرق الأسباني ميجيل أسين بلاثيوس دراسة عن الكتاب، ضمّنها كشّافًا تحليليًا لما فيه من المباحث المختلفة، كالطبيعة والفيزياء والكيمياء وعلم النفس والديانات والفرق والمذاهب، فضلًا عن مادته الأساسية في الحيوان وفي الأدب، وقد ترجم بحث هذا المستشرق عن كتاب “الحيوان” الدكتورُ الطاهر مكي ونشره في كتابه “دراسة في مصادر الأدب” ص 130.
– نفح الطيب للمقري، والكتاب في الأصل عِدَةٌ وعدها المقري لأهل دمشق، أن يجمع لهم كتابًا في ترجمة لسان الدين ابن الخطيب الذي مضى ذكره سابقًا، فابتدأ يجمع الكتاب حتى اختلت سيطرته عليه، فطال منتظمًا تراجم الكثير من علماء وأدباء وأعيان الأندلس، واسم الكتاب كاملًا: “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين ابن الخطيب”.
وللمقري كتاب آخر نفيس لا يقل في قيمته عن نفح الطيب، واسمه “أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض” وهو مطبوع، سلك فيه طريقته في النفح، من حيث الاستطراد والتوسّع.
– خزانة الأدب للبغدادي، وهو شروح لشواهد نحوية بلغ عددها قريبًا من 1000 شاهد شعري، ثم يُبحر البغدادي في التعريف بالشعراء ومختارات من أدبهم.
إنَّ ثمرة القراءة في هذه المطولات يظهر في معرفة الأخبار والتراجم وسير الأدباء والشعراء ومواقفهم وتأثيراتهم السياسية والاجتماعية والأدبية، والانفتاح على مواضع النقد الأدبي ومناقشة الشعراء فيما قالوا والمآخذ عليهم، والوقوف على المراحل التاريخية المختلفة وإنتاجها الغزير شعرًا ونثرًا، ومعرفة مراتب الشعراء والأدباء وطبقاتهم، فضلًا عن التشبّع بالنصوص الأدبية الجزلة، وطريقة كتابة العلماء وبحثهم واستقصائهم وتوسّعهم المعرفي والأدبي.
فمتى اعتاد المتأدب القراءة في هذه المطولات الأدبية فإن ملكته تنمو منطبعة على المفردة الفصيحة، والسياق العربي الجزل الأصيل، فينعكس ذلك بشكل مباشر على إنتاجه المكتوب، لاسيما إذا عضد قراءته بحفظ المفردات والشواهد الشعرية.
وأوجز شيخ البيانيين الجاحظُ ثمرة القراءة في هذه الكتب بقوله: “والإنسان بالتعلم والتكلف، وبطول الاختلاف إلى العلماء ومدارسة كتب الحكماء، يجود لفظه ويحسن أدبه، وهو لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك التعلم، وفي فساد البيان إلى أكثر من ترك التخير”. (البيان والتبيين 1/ 86).
وقال حيص بيص:
فحسبكم هذا التفاوت بيننا
وكل إناء بالذي فيه ينضحُ
فإذا امتلأ إناء عقل المتأدب بتلك النصوص الأدبية الفاخرة، فإنَّ أنامله ستنضح نصوصًا أدبيّة راقية مستطابة، لاسيّما إن أهمل الإنسان عامل الزمن، واستغرق في التمرّن والممارسة حتى يستقيم صلبه على نصوص جياد فاخرة.
و”حيص بيص” لقب على الشاعر، أما اسمه فهو سعد بن محمد الصيفي، وجدُّه أكثم بن صيفي المعروف، وإنّما سمي “حيص بيص” لأنه رأى جلبة ذات مرة فقال مستعجبًا: ما للناس في حيص بيص! فعلقت الكلمة عليه وغدت لقبًا له، وترجمته ونماذج شعره ونصوص أدبه مذكورة باستفاضة وتوسع في خريدة القصر 1/ 202، وله ترجمة كذلك في وفيات الأعيان 2/ 362.
هذا فيما يتعلق بالنثر، أما كتب الشعر فهي على درجات ثلاث:
الدرجة الأولى: المختارات الشعرية
وثمرة النظر في كتب المختارات الشعرية أن يستوعب القارئ المبتدئ جمالية الشعر العربي، ويطعم معانيه الواضحة وألفاظه السهلة، دون كدِّ الذهن بقراءة قصائد كاملة قد تشتمل على وحشي القول وغريب اللفظ، حيث قصد جامعو هذه الأبيات أن تكون واضحة سلسة.
وأنصح ههنا بثلاثة كتب:
– ديوان الحماسة لأبي تمام، ولم يلق كتاب في مختارات الشعراء من الشهرة والقبول ما لقيه هذا الكتاب، فاستحسنه العلماء والأدباء والمؤرخون، حتى قيل: أبو تمام في اختياراته أشعر منه في شعره، وحتى تعرف علوَّ منزلة أبي تمّام في مختاراته هذه، فانظر كيف تلقّاها علماء النحو والغريب بالقبول، وهم ذوو المعايير الحادة في قبول الشواهد، وأصحاب التشدد الصارم في الاستدلال.
ولا يكمل الحديث عن حماسة أبي تمام دون أن نقرن إليه صِنوه المهم شرح المرزوقي على الحماسة، وهو الكتاب البديع الذي حوى مقدمة نفيسة استحوذت على إعجاب النقاد والباحثين، وشرحها العلامة الطاهر ابن عاشور في كتاب مطبوع، قال عنها عبدالسلام هارون: “مقدمة نفيسة جريئة، تُعدُّ وثيقة هامة في تاريخ النقد الأدبي: نقد الشعر ونقد النثر.. ومثالًا في البيان، وغاية في إصابة الحكم” (مقدمة تحقيقه على شرح الحماسة 1/ 17)، كما وصفها د. إحسان عباس بأنها عزيزة النظير تنمُّ عن ذكاء فذٍّ وفكرٍ منظَّمٍ. (تاريخ النقد الأدبي عند العرب 398 وهو كتاب صلْب قضى د. إحسان سنواتٍ في تأليفه)
والمرزوقي صاحب قلم بديع ونثر فخم، يأخذ بإعجاب القارئ، حتى إنَّ بعض العلماء شبَّه نثره بنثر ابن جنّي في جزالته وحُسن سبكه (معجم الأدباء 2/ 506)، والمرزوقي قرينٌ لابن جنّي في التتلمذ على إمام العلم في زمانه أبي علي الفارسيِّ فقد قرأ عليه كتاب سيبويه، وإن كان ابن جنّي أسنَّ منه وتوفي قبله بثلاثة عقود.
– طبقات الشعراء لابن المعتز، وهو أرفع مرتبة من أن يكون كتاب اختيارات شعرية مجردة، بل هو كتاب أدب وشعر وإنشاء ملوكي، فإنَّ ابن المعتز من الملوك الشعراء والأدباء الكبار، وصاحب بيان رفيع وأسلوب يذوي معه الورد خجلًا من حُسن سبكه وجمال لفظه.
– ديوان الشعر العربي لأدونيس، ولا يهولنك الاسم فتستعظم ذكره ههنا، فكم كان مُجيدًا في كتابه هذا قاتله الله! فهي مختارات نفيسة رائقة، جمعها مرتبًا لها حسب طبقات الشعراء الزمانية مبتدئًا بالعصر الجاهلي حتى عصرنا الحاضر، ودلَّ اختياره لها على ذائقة عالية ورصد مُحكم، لكن ينتقد عليه أنه أغفل مختارات شعر أمير الشعراء أحمد شوقي، وصِنوه حافظ إبراهيم، وحسبك بهما شعرًا وإبداعًا، فقد أحيوا موات المعاني وجدّدوا عمود الشعر بعد طول خمول وهجوع.
وحتى تبصر قيمة هذا الكتاب والجهد الذي بذله صاحبه فيه، فانظر إلى اختياراته من شعر ذي الرمة، وهو الشاعر الذي نجم بلغته الصعبة وألفاظه الوعرة، حتى شقَّ على كبار الأدباء كالثعالبي أن يختاروا منه ما يرقُّ ويروج عند عامة القرّاء، فجاء أدونيس وعكف على ديوانه وذلّلهُ فتوخّى من شعره أرقه وأنداه ثم اختاره في كتابه، حتى كأنْ لم تكن تلك الأبيات لذي الرمة ذي الطبع العسِر.
الدرجة الثانية: القصائد الكاملة
الغرض من قراءة القصائد الطوال أن يقف القارئ على أساليب الشعراء، وطريقة تركيبهم للقصيدة وما تتضمنه من الأغراض المتعددة، وبراعتهم في الاستهلال والابتداء، ثم الدخول من غرض إلى آخر ببراعة حُسن التخلص، وهذا لا يمكن أن يعرفه المتأدب إذا قصر نفسه على القراءة في كتب الاختيارات، لأن تلك الكتب إنما تجمع المعنى الواحد والغرض المشترك من القصيدة، أما القصيدة الطويلة فإنها تجمع أغراضًا متعددة، والشعر العربي قديمًا لم يكن يعترف بما يُسمى في زماننا هذا بالوحدة الموضوعية للنص، إلا في أغراض خاصة كالرثاء، ولهم في ذلك عذرهم البيّن لأن المقام مقام توجّع وفقد!
وسأذكر في القصائد الطوال ثلاثة مجاميع أراها مؤدية للغرض:
الأول: المعلقات السبع، وهي أشهر ما في التاريخ العربي من الأشعار، ويستعين عليها القارئ بشيء من شروحها وهي معروفة ومن أشهرها شرح الزوزني.
الثاني: أحلى عشرين قصيدة حب في الشعر العربي لفاروق شوشة، من أرق المختارات الشعرية وأعذبها، وكما يقول إخواننا من أهل مصر في المثل: الجواب باين من عنوانه!
الثالث: مجموع من اختياري، ذكرت فيه قصائد أراها من عيون الشعر العربي قديمًا وحديثًا، وهذه القصائد هي:
1- قصيدة لقيط بن يعمر الإيادي:
يا دار عَمْرة من مُحتلِّها الجرَعا
هاجت ليَ الهمَّ والأحزانَ والوجعا
وهي من موجعات القصائد، حاول فيها استثارة انتباه بني عمّه من بني إياد، حيث كان شاعرًا مثقفًا عالمًا بالفارسية متقنًا لها، فاستخلصه كسرى فارس لنفسه في بلاطه مستشارًا نديمًا مُترجمًا، وعلم فيما علم أن كسرى ينوي غزو بني عمه، فأصابته نخوة العربي وأدركته الحميّة، فكتب لهم هذه القصيدة الثائرة التي تمثّل رمزًا في شعر التحذير والتعبئة العامة، غير أنّها لم تؤتِ ثمارها فغزا كسرى قومه، ثم علم بقصيدة لقيط فقتله قتلة أليمة، وعند الله تجتمع الخصوم!
2- قصيدة المثقّب العبدي:
أفاطمُ قبل بَيْنكِ متّعيني
ومنعُكِ ما سألتُ كأنْ تَبيني
3- قصيدة السموأل بن عادياء:
إذا المرءُ لم يَدْنَس من اللؤم عرضُهُ
فكلُّ رداءٍ يرتديهِ جميلُ
4- قصيدة كعب بن زهير:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ
متيّم إثرها لم يُفدَ مكبولُ
وهي في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتذار له.
5- قصيدة الخنساء:
قذى بعينكِ أم بالعين عوَّارُ
أم ذرّفتْ إذ خلت من أهلها الدارُ
في رثاء أخيها صخر، وحسب الخنساء فخرًا بعد صحابتها للنبي صلى الله عليه وسلم، أن خلّد التاريخ ذكرها بهذه المراثي الشجيّة، وغطّت شمسُها كواكبَ شعراء كثيرين فأخمدت مراثيهم.
6- قصيدة الحطيئة:
ألا طرقتنا بعدما هجدوا هندُ
وقد سِرنَ خمسًا واتلأبَّ بنا نجدُ
7- قصيدة جرير:
بان الخليطُ ولو طوّعت ما بانا
وقطّعوا من حبال الوصلِ أقرانا
8- قصيدة القطامي:
إنا محيّوك فاسلم أيها الطللُ
وإن بليت وإن طالت بك الطِّيَلُ
والقطامي من فحول الشعراء غير المكثرين، له قصائد نخبٌ جِيادٌ لكن لانغماره لا يعرفها كثير من القراء، أما استهلاله في قصيدته هذه فهو من البراعة ما جعل أهل الأدب يخضعون له، ويمدحون حسن افتتاحه، حتى عدَّها بعض النقاد أفضل ما افتتح به الإسلاميّون شعرهم (خزانة الألباب 2/ 371)، وقال ابن الأثير: من شاء أن يذكر الديار والأطلال في شعره، فليتأدب بأدب القطامي على جفاء طبعه، وبعده عن فطانة الأدب، فإنه قال: “إنّا محيّوك فاسلم أيّها الطّلل”، فبدأ قبل ذكر الطلل بذكر التحية والدعاء له بالسلامة. (المثل السائر 2/ 225، وانظر إلى احتفاء قريب منه في نفح الطيب 2/ 677)
وقد حقق ديوانه العالمان العراقيان د. إبراهيم السامرائي و د. أحمد مطلوب، و د. مطلوب عالم فحْل مغمور، وهو صاحب العمل الموسوعي الفذِّ “معجم المصطلحات البلاغية وتطورها”، وله بحوث علمية رصينة أخرى كثيرة، نال بها جائزة الملك فيصل في اللغة والأدب، وهو زوج العالم العراقية والنحوية البارعة د. خديجة الحديثي، وأجمِلْ بهما من زوجين.
9- قصيدة معن بن أوس:
عفا وخلا ممن عهدت به خُمُّ
وشاقك بالمَسحاء من سَرَف رسمُ
قال الأصمعي عن هذه القصيدة: “أجود ما قالته العرب!”، وقد صدق، ففيها تطبيق عملي لمبدأ كظم الغيظ واستبدال المحبة بالعداوة.
10- قصيدة بشار بن برد:
جفا ودّه فازورَّ أو ملَّ صاحبُهْ
وأزرى به أن لا يزال يعاتبُهْ
وفيها بيته المشهور الذي صار مأدبة ينتابها الأدباء والنقاد، فيتسامرون عليه، ويتبادلون كؤوس الحديث عن دقته في الوصف وبراعته في التشبيه مع كونه أعمى:
كأنَّ مَثار النقع فوق رؤوسنا
وأسيافنا، ليل تهاوى كواكبُهْ
وكان بشّار ذا همّة جامحة وطموح سامٍ، تروي عنه كتب الأدب أنّه قال: ما قرَّ بي قرارٌ مذ سمعت قول امرئ القيس:
كأنَّ قلوبَ الطير رطبًا ويابسًا
لدى وكرها العنّاب والحشف البالي
حتى صنعتُ: كأنَّ مثار النقع.. البيت. (العمدة لابن رشيق 1/ 475).
قال الطاهر بن عاشور: “وقد اتفق أئمة الأدب على أنَّ تشبيه بشار قد فاق تشبيه امرئ القيس الذي تقدمه، وفاق تشبيه من تأخّر عن بشار” ثم بيّن سبب هذا التفوّق، وهو في مقدمة شرحه على ديوان بشار 1/ 46، وتشتمل هذه المقدمة على دراسة مهمة عن بشّار في سيرة حياته وأسلوب شعره، يحسن بالمتأدب الوقوف عليها.
فانظرْ كيف حلّقت ببشّار همته وطموحه وإصراره على المنافسة، حتى بلغت به مبلغ فحول الشعراء وصار معدودًا فيهم، وهكذا ينبغي أن يكون طموح الإنسان وهمته، تستفزّه إلى العلياء وتقرنه بالكبار، وتسمو به عن سفساف الأمور وصغيرها.
11- قصيدة أبي نواس:
أيها المُنتاب من عُفُرِهْ
لستَ من ليلي ولا من سَمرِهْ
كتبها إثر قصة حب فاشلة انتهت بخيانة من محبوبته، كما في ترجمته من مختار الأغاني 4/ 122 – 123، والمختار وإن كان اختصارًا، إلا أنّه أربى على أصله بما أورده من ترجمة ضافية لأبي نواس.
وعدّ أبو نواس هذه القصيدة أفضل شعره (مختار الأغاني 4/ 125)، وقال عنها المبرد: ما أحسب شاعرًا جاهليًّا ولا إسلاميًّا يبلغ هذا المبلغ، فضلًا عن أن يزيد عليه جزالة وفخامة. (وفيات الأعيان 3/ 350)
وقد عارضها علي بن جبلة المعروف بالعكوّك، في قصيدة لا تقل عنها في قوة السبك وبراعة المعنى، بل فاقتها في الشعر وذيوع الصيت والتمثّل بما فيها من الأبيات السائرة، فقال:
ذادَ وِرْدَ الغيِّ عن صَدَرِهْ
وارعوى واللهو من وَطرِهْ
وهي في مدح أبي دُلَف، وفيها البيتان الشهيران:
إنما الدنيا أبو دلفٍ
بين مبداه ومحتضرِهْ
فإذا ولَّى أبو دلفٍ
ولّتِ الدنيا على أثَرِهْ
ونال العكوّك بهذه القصيدة شهرة طاغية حتى قال الجاحظ: “كان أحسن خلق الله إنشادًا، ما رأيت مثله بدويًا ولا حضريًا” (وفيات الأعيان 3/ 350)، ونعتَ ابن المعتز شهرة هذه القصيدة الفائقة قائلًا: “وقد سارت هذه في أبي دلف، مسير الشمس والريح” (طبقات الشعراء 178)، فلم يزل صيت القصيدة يعظم حتى وصل إلى بلاط الخليفة المأمون في بغداد، وتسامر على ذكرها أغمار الناس في مجالس الأنسِ على ضفاف دجلة والفرات، مما دفع بالمأمون إلى الحقد عليه، لأنّ العكوّك مدح وزيره بما لم يمدحه به، فكانت هذه القصيدة سلاحًا ذا حدين: فهي سبب شهرته وذيوع صيته، ثم كان فيها حتفه وموته كما في بعض الروايات، والقصة في ترجمته في الأغاني 20/ 14.
ومما يُنسب إلى العكوّك كذلك القصيدة اليتيمة:
هل بالطُّلول لسائلٍ ردُّ
أو هل لها بتكلّمٍ عهدُ
قال عنها ابن كثير في البداية والنهاية 3/ 273: “فيها معان حسنة كثيرة”، واختلف المؤرخون والنقاد في قائلها، فتارة تُنسب إلى العكوّك، وقبل بل هي لدوقلة المنبجي، غيرَ أنَّ هذه القصيدة ما برحت تتأبّى على الشعراء، وتتعالى عليهم، حتى ذكر ابن خالويه أنها نُسبت إلى سبعة عشر شاعرًا، كما روى ذلك عنه ابن خير الإشبيلي في فهرسته ص 493، وقد نشرها في طبعة مفردة د. صلاح الدين المنجد، وقدّم لها بمقدمة موسعة حاول فيها فكَّ طلاسم اللغز المحيّر عن صاحب القصيدة، وجمع ما وقف عليه من مخطوطات القصيدة، وأسانيد رواتها. (انظر كتابه “القصيدة اليتيمة برواية القاضي علي بن محسن التنوخي” ص 5 إلى 21).
والقصيدة اليتيمة مضمّنة في كتاب فاروق شوشة، لهذا لم أفردها بالذكر هنا.
12- قصيدة ابن مناذر:
كلُّ حيٍّ لاقى الحِمام فمُودي
ما لحيٍّ مؤمل من خلودِ
عدّها المازني من أجمل ما قالته العرب من المراثي (معجم الأدباء 2/ 762)، وقال ابن المعتز: “ومرثيّته قد سارت في الدنيا، وذُكرت في المراثي الطوال الجياد، وهي فَحْلة محكمة فصيحة جدًا” (طبقات الشعراء ص 122)، واختارها المبرّد في الكامل ضمن ما استحسن من الشعر، وأثنى عليها بثناء فخم، وحسبك من شعر يختاره المبرد ويثني عليه. (الكامل 3/ 1426 ط.الرسالة)
13- قصيدة أبي تمام:
كذا فلْيجلَّ الخطب وليفدح الأمرُ
فليس لعين لم يَفِض ماؤها عذْرُ
والمستجاد من شعر أبي تمام معروف، وإنما اخترت هذه القصيدة لأنها في غرض الرثاء والندبة، ولم يُفتح لأبي تمامٍ فيه، وغارت ملكته في الرثاء حتى انقطع ماؤه وذهب حُسنه، غير أن قصيدته هذه من غُرر الشعر العربي ونوادره.
وأبو تمام في ثقافته وعلمه وأسلوبه الشعريِّ؛ سواءً في اختياراته أو في مدرسته في صناعة المعاني، أكثر امتلاءً وأثرًا في الذين جاؤوا بعده؛ من شعره ونظمه، لهذا كانت عثراته في الشعر ملقاة على جنبات الطريق في قصائده ولا تكاد تُخطئها العين، ولعلَّ من أسباب ذلك أنّه بدأ يختط هذه المدرسة الجديدة في المعاني، فلم تختمر بعد فحصلت له فيها كبوات ووقعت له هفوات، وأيًّا ما كان الأمرُ، فإنَّ الجيّد من شعر أبي تمام كثير معروف، ولا يكاد يبلغ شأوه فيه أحد.
14- قصيدة البحتري:
أُخفي هوىً لكِ في الضلوعِ وأُظهرُ
وأُلامُ في كمدٍ عليكِ وأُعذرُ
إذا كان الأعشى صناجة العرب فإن البحتري موسيقار العرب، وقد أجاد ابن الأثير بوصف البحتري قائلًا: “أراد أن يشعر فغنّى” (المثل السائر 2/ 348)، لأنَّ موسيقى شعره وجرس ألفاظه مُطربة جدًّا، وأشعار البحتري يُسمّيها بعض النقاد: سلاسل الذهب، لعذوبتها وإحكام سبكها، أما قصيدته هذه فقد تواجد لها ابن خلكان – وهو من هو في معرفته بالشعر والأدب – وطرب طربًا عظيمًا فقال بعد أن أورد مقتطفات منها: “هذا الشعر هو السحر الحلال على الحقيقة والسهل الممتنع، فلله دره ما أسلس قياده وأعذب ألفاظه، وأحسن سبكه وألطف مقاصده، وليس فيه من الحشو شيء، بل جميعه نخب”. (وفيات الأعيان 6/ 26).
ومن محاسن البحتري أنَّه أعاد للشعر المطبوع أناقته وبهاءه، بعد أن كاد سنا برق شيخه أبي تمام يخطف أبصار الشعراء المطبوعين بما بهرهم به من غرائب معانيه المركبة الغامضة، فأوشك أن يقضي عليهم بالضربة القاضية، حتى انبعث قريض البحتري فأخطرهم ما كانوا عنه غافلين، وأعاد لهم توازنهم وثبّتهم في مواقعهم، فلم يذب البحتري في هوى شيخه أبي تمام ويسلك طريقته في الشعر، بل انبتَّ عنه وباينه أشد المباينة، فكانت له شخصيته الفردة وطريقته الرشيقة الخاصة.
وفي الوساطة للقاضي الجرجاني ص 25 وما بعدها، كلام عذبٌ رقراقٌ في وصف شعر البحتري السهل الممتنع، وعرض نماذج مطربة منه.
وكان البحتري تيّاهًا خطِرًا مزهوًا بنفسه معجبًا بحاله، غير أنَّ ذلك لم يحمله على التنكّر لأستاذه وابن عمه أبي تمام، فعندما أراد أحدهم أن يرفع منزلته فوق أبي تمام بقوله: يزعم الناس أنك أشعر من أبي تمام! فردَّ من فوره بجواب الوفاء والخضوع لشيخه قائلًا: “والله ما ينفعني هذا القول، ولا يضرّ أبا تمام، والله ما أكلت الخبز إلا به، ولوددت أن الأمر كما قالوه، ولكني والله تابع له، لائذ به، آخذ منه، نسيمي يركد عند هوائه، وأرضي تنخفض عند سمائه”. (الموشح للمرزباني ص 411).
15- قصيدة المتنبي:
لكل امرئ من دهره ما تعوّدا
وعادة سيف الدولة الطعن في العِدا
وهي من روائع شعره الكبرى، ومفاخره الحِسان، لاسيما في هذا الاستهلال الفائق البراعة، وتتجلّى في أبيات هذه القصيدة خصائص أدب المتنبي، وزهوه بذاته وخبرته بطبائع النفوس وعمق حكمته وتجربته.
لكن ماذا أعطى المتنبي لسيف الدولة، وماذا أخذ منه! أعطاه خلود الذكر بقصائده الباقية بقاء الشمس في كبد السماء إلى أن يطويها الله بيمينه، وأما ما أعطاه إياه سيف الدولة فقد غدا نسيًا منسيًا وأثرًا بعد عين، فانظر كيف يبقى العلم والأدب، وتتوارى الأعطيات والأموال.
فاحرص على ما يبقى إن كنت تريد أن يُجري الله لك لسان ذكر حسن في الآخرين، وخذ مما يزول من عرض الدنيا ومتاعها على قدر الكفاف والحاجة.
ولو لم يكن للعرب من دواوين الشعر إلا ديوان المتنبي، لكفاهم في مفاخرة أمم الأرض الأخرى، واستدلوا به على قوة الأدب العربي وأثره في الثقافة والاجتماع والنفوس.
وتأمل كيف غدا العيد سوداويَّ الإهاب، عديم الفرحة عند كثيرين، بعد أن ملأهم المتنبي من قوله:
عيدٌ بأيَّةِ حالٍ عدتَّ يا عيدُ
بما مضى أم بأمر فيك تجديدُ
وأظنُّهُ أكثر بيت تمثّل به الناس في الأعياد، وإن كان يُباين فرحة العيد ويضادها تمام المضادة، ولله في خلقه شؤون!
16- قصيدة أبي العلاء المعري:
غير مُجدٍ في ملتي واعتقادي
نَوح باكٍ ولا ترنّم شادي
وهي رثاءٌ بنَفَس فلسفي راقٍ.
17- قصيدة الأنباري:
علوٌّ في الحياة وفي المماتِ
بحقٍّ أنتَ إحدى المعجزاتِ
وصف الثعالبي هذه القصيدة بقوله: “قصيدة فريدة، تدل على أنَّ صاحبها من أفراد الشعراء” (يتيمة الدهر 2/ 439)، وقد تتابع ثناء الأدباء والمؤرخين على القصيدة، وما فيها من المعاني والأوصاف الفريدة غير المسبوقة، على أنَّ قائلها لم يشتهر بالشعر الكثير.
18- قصيدة علي بن المُقرّب العيوني:
تجافَ عن العُتبى فما الذنبُ واحدُ
وهَبْ لصروف الدهر ما أنتَ واجدُ
تتوارى خلف كلمات هذه القصيدة روح المتنبي ونفَسه الشعري، فهي في الحماسة وشكاية الحال كأنها جذوة وقبس من نار أشعار المتنبي وروحه المتوهّجة المقدامة، واشتهر من شعر ابن المقرب وذاع ما كان في غرض الحماسة، حتى عُنون بذلك ديوانه في نسخته المخطوطة: ديوان الإمام ابن المقرب الحماسي. (انظر: “علي بن المقرب العيوني حياته وشعره” للدكتور علي الخضيري ، 236، وهذه الدراسة أوفى ما كُتب عن العيوني في التعريف بحياته ودراسة شعره).
19- قصيدة أبي البقاء الرَّندي:
لكل شيء إذا ما تمَّ نقصانُ
فلا يُغر بطيب العيش إنسانُ
لو أعدنا إنتاج الحزن في هيئة أدبية لما كان إلا هذه القصيدة، فمذ قالها الرندي وهي تستدر الدمع وتُشجي النفس وتذيب القلب، ولا يسمع الناس بنكبة جرت في بلاد المسلمين إلا وينشدون مختاراتٍ من قصيدة أبي البقاء الرندي ويسقطونها على هذه النوازل والفواجع.
وأفضل دراسة وقفت عليها لأبي البقاء الرندي في سيرة حياته وأسلوب أدبه وتحليل شعره لاسيما مرثيته، هي تلك الدراسة الضافية التي نشرها د. الطاهر أحمد مكي في كتابه النفيس “دراسات أندلسية في الأدب والتاريخ والفلسفة” ص 276 وما بعدها، وحسبك بدراسة عن الأدب الأندلسي يكتبها هذا العلامة الفذ، فقد كان من أعلم أهل الأرض بأدبهم.
20- قصيدة الطغرائي:
أصالة الرأي صانتني عن الخطلِ
وحِلية الفضل زانتني عن العَطَلِ
وهي المسمّاة “لامية العجم”، وقد اشتهرت وذاعت وتصدى لشرحها الصفدي في كتاب سمّاه “الغيث المنسجم في شرح لامية العجم” وهو مطبوع.
21- قصيدة أبي الحسن التهامي:
حكم المنية في البريّة جاري
ما هذه الدنيا بدار قرارِ
22- قصيدة بهاء الدين زهير:
أنا في الحب صاحب المعجزاتِ
جئتُ للعاشقين بالآياتِ
23- قصيدة أحمد شوقي:
ريم على القاع بين البانِ والعلَمِ
أحلَّ سفك دمي في الأشهر الحرمِ
24- قصيدة حافظ إبراهيم:
كم ذا يُكابد عاشق ويلاقي
في حب مصر كثيرةِ العشّاقِ
25- قصيدة عمر أبو ريشة:
يا عروس المجد تيهي واسحبي
في مغانينا ذيول الشهبِ
26- قصيدة نزار قباني:
فرشتُ فوق ثراكِ الطاهر الهدبا
فيا دمشق لماذا تبدأ العتبا؟
وقد أعاد نزار قباني للشعر العربي الفصيح رونقه الشعبي، فتداوله الناس وقرؤوه وأصبح – بحسب تعبير أحد الأدباء – وجبة شعبية، وشعره السياسي أقوى من شعره الغزلي.
ويعاب على نزار أنه يستخدم مبتذل الألفاظ، وينأى عن الجزل الفخم، ولعل هذا من أسباب رواج شعره لدى عامة الناس وتداولهم له، لأنه مكتوب باللغة التي يألفونها.
27- قصيدة البرودني:
ما أصدق السيف إن لم يُنضه الكذبُ
وأكذب السيف إن لم يصدق الغضبُ
هذه القصيدة يُمكن تسميتها بالدامغة، لأنَّ البردوني ألقاها في مهرجان المربد الشهير، وكان آنذاك مغمور الذكر إذا ما قورن بالمدعوين الآخرين من أمثال الجواهري ونزار قباني وغيرهم، فلمّا ألقاها خضعوا لموهبته وصفّقوا تصفيقًا دوّى صداه في أنحاء القاعة، ثم جاءه نزار قبّاني يجرُّ إزاره معجبًا بموهبته، معترفًا بفضله، وسلّم عليه وأثنى على شعره ثناءً رفيعًا.
وعن القصائد المعنونة بالدامغة، والتفريق بينها وبين المعارضات الشعرية، يُمكن الرجوع إلى بحث لطيف للدكتور مقبل التام عامر الأحمدي، عنوانه: “الدوامغ الشعرية بين القحطانية والعدنانية”، منشور في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق 88/ 1020.
وعمر أبو ريشة، والبردوني، والجواهري، من رؤوس الشعراء في عصرنا، لكن يؤخذ على الجواهري أنه أكثر من قول الشعر حتى ضاع المستجاد من شعره في خِضم العادي، وهي ذات المعضلة التي عانى منها شعر ابن الرومي.
فهذه سبعة وعشرون قصيدة معروفة مشهورة.
وهي أمثلة للاسترشاد والدلالة على نظائرها، أو كما يقول الأصوليّون: ذكر بعض أفراد العام لا يقتضي التخصيص، وإلا فإنَّ مستطاب شعر العرب لا يمكن حده أو حصره، والأذواق تتفاوت.
ومن الطبيعي إذا قرأ المتأدب القصيدة كاملة، أن يلحظ فيها تباينًا في قوة المعاني وجزالة الألفاظ حتى داخل القصيدة الواحدة، فإن لكل مقامٍ مقالًا، فهذه طبيعة الشعر، ولما عابوا على أبي تمام بعض أبياته في قصيدة له، وطلبوا منه حذفها لأنها ليست بجيدة، ردَّ عليهم قائلًا: مثل شعر الرجل عنده مثل أولاده، فيهم الجميل والقبيح والرشيد والساقط، وكلهم حلو في نفسه!
وأكّد هذا المعنى الرافعي فقال: وإذا كان الشعر ضربًا من الصبغ وجنسًا من التصوير، فلا ينبغي أن يكون كله ماءً ورونقًا، وهو اللون البليغ الذي يريدونه، لأن تصوير الحياة العامة يحتاج إلى الألوان الكثيرة، وربما دخل فيها أقبح الألوان فكان أحسن شيء، لوقوعه مع المناسبة بين الألوان الأخرى. (تاريخ آداب العرب 3/ 77)
الدرجة الثالثة: الدواوين الكاملة
لا بد للمتأدب إذا ارتقى في سلم القراءة في الشعر أن ينهل من دواوين الشعراء، ويطلع عليها ويكتشف مخبآت كنوزها، ففي الدواوين من كنوز الأدب والحكمة والصور والتراكيب شيءٌ يُذهل القراء.
ومن أهم الدواوين الشعرية:
- ديوان امرئ القيس
- ديوان النابغة الذبياني
- ديوان زهير بن أبي سلمى
- ديوان جرير
- ديوان أبي تمام
- ديوان البحتري
- ديوان أبي فراس الحمداني
- ديوان المتنبي، وكما أسلفتُ فلو لم يقرأ قارئ في شعر العرب إلا هذا الديوان، لكفاه في الاستدلال على قوة الشعر وتصويره للحياة وتدوينه لما يجده الناس في نفوسهم.
- سقط الزند للمعري
- ديوان أحمد شوقي
ونصيحتي للمتأدب أثناء قراءته للشعر ما يأتي:
– حفظ أبيات الحكمة، وما يصلح للاستشهاد اليومي.
– حفظ مقاطع يستحسنها ويجمعها موضوع واحد، كأبيات الغزل، أو الرثاء، أو الآداب العامة.
– اختيار مجموعة شعرية خاصة، تجتمع للمتأدب من قراءته في القصائد.
– الاهتمام بالتشبيهات والمعاني الواردة في القصيدة، وانتخابها واختيارها، فهي من أهم الأمور الأدبية، وترفع قوّة الخيال عند المتأدب.
– التدرج بحفظ المقاطع المنتخبة، وصولًا إلى حفظ القصيدة الكاملة.
– التدرّب على حلِّ الشعر، وذلك بإعادة كتابة البيت الشعري منثورًا.
– عدم إهمال قراءة الشعر الجاهلي، والاستعانة على فهم غوامض ألفاظه وغريبها بالشروحات.
ثالثًا: مُحسنات الكلام وزخارف الأسلوب
هذه مرتبة متقدمة في صناعة النثر، يصل إليها المتأدب وقد قرأ كثيرًا، وبدأ يعتاد على الكتابة ويروض قلمه عليها، وصار عنده أسلوبه الذي راح يتشكل ويتكوّن بمرور الوقت، عندها يتهادى بألفاظه المنتقاة ويتمايل بمعانيه الخاصة.
وتستهدف هذه المرتبة رفع مستوى الكتابة وإضفاء لمساتٍ من البهاء اللفظي باستخدام الأساليب البيانية والبلاغية وقواعدها المتقررة عند علمائها، والتعرّف على محسنات النصوص وبديع ألفاظها وقوانين استخدامها، إضافة إلى معرفة ما يُعاب على الكاتب وما ينبغي عليه تجنبه.
ومن الكتب المهمة لهذه المرتبة:
1- المثل السائر لابن الأثير.
وهو كتاب جليل عظيم النفع، يُعلّم قارئه أساليب الكتابة، ويأخذه في نزهة أدبية فخمة، وقد أثنى عليه الرافعيُّ ثناءً عاطرًا في رسائله إلى أبي ريّة فقال: وتفقه في البلاغة بكتاب المثل السائر، وهذا الكتاب وحده يكفل لك ملكة حسنة في الانتقاد الأدبي، وقد كنت شديد الولوع به.
2- الصناعتين للعسكري.
3- فقه اللغة للثعالبي.
4- العمدة لابن رشيق.
5- أساس البلاغة للزمخشري.
وهو كتاب عظيم النفع جدًا، وبالرغم من أهميته يكاد ذكره ينغمر عند القرّاء، فقد جمع فيه أساليب العرب وطرقها في التعبير في صياغة الكلام وتركيبه من المفردات المعروفة حقيقة ومجازًا.
6- الأمثال للميداني.
ويستفيد منه المتأدب معرفة الأمثال المشهورة عند العرب، ليضيف منها ما يناسب كتاباته ونصوصه الأدبية.
والأمثال في البيان العربي كالقواعد الفقهية، تنتظم تحتها المعاني الكثيرة في ألفاظ وجيزة محكمة مسبوكة، فلا تترك حظك منها قراءة وحفظًا وكتابة، فهي من أمارات الثقافة الأدبية العالية.
7- أساس البلاغة للجرجاني.
8- معجم أخطاء الكتاب لزعبلاوي.
ثم أمّا بعدُ:
فإنَّ جميع ما سبق ذكره، سيغدو هباءً منثورًا لا قيمة له ما لم يكن لدى المتأدب شَرَه للقراءة ونهم بالاطلاع، فالقراءة المكثفة المتواصلة في كتب الأدب بمراتبها المختلفة تعود على صاحبها بالنفع الكبير في تقويم أسلوبه الكتابي.
وما من شيء يمكن أن يُنال دون تعب وكدح ونصب في تحصيله!
ولم تكن طريق أولئك الأدباء الموصلة إلى ذروة النبوغ هيّنة سهلة، إنما كانت محفوفة بمشاقِّ التحصيل الدائب، والعكوف المستمر على الكتب قراءة وحفظًا وتحليلًا ونقدًا، فكانوا يصلون الليل بالنهار في تتبع مستجاد النصوص، ولا تكلُّ آلتهم عن تحصيل مبتغاهم من الإثراء المعرفي والأدبي.
ثم إذا قرأ المتأدب وقرأ وقرأ، فعليه أن يرتاض على الكتابة بإجراء القلم على نصوص قصيرة مختصرة، يُحاكي فيها أساليب أهل البيان، أو يبتدئ أسلوبه المرسل دون تقييد بأسلوب من سبقه، فإنَّ التدرب على الكتابة مع الاستمرار عليها وترصيعها بمختارات الألفاظ البليغة هو أُسُّ النبوغ في الكتابة، وهي أصل تكوين الملكة بعد تشبّع المتأدب من القراءة.
وخذ بنصيحة الجاحظ في كتابه الذي هو مصحف البيان وقرآن البلاغة “البيان والتبيين”، حيث قال:
“وأنا أوصيك ألا تدع التماس البيان والتبيين إن ظننت أن لك فيها طبيعة، وأنهما يناسبانك بعض المناسبة، ويُشاكلانك في بعض المشاكلة، ولا تُهمل طبيعتك فيستولي الإهمال على قوة القريحة، ويستبدَّ بها سوء العادة” (البيان والتبيين 1/ 175).
وختامًا، قال الشاعر:
وقلَّ من جدَّ في أمرٍ يؤمّله
واستعمل الصبر إلا فاز بالظفر
أي: تحديد الهدف، ثم السعي الجاد لتحقيقه، ثم الصبر على ذلك، ويتحقق النجاح بإذن الله.
والله الموفق.
اقرأ ايضاً: مؤلفات في كلمات
جزاك الله خيرا على هذه المقالة المثرية النافعة، فقد طبعتها طباعة جيدة وغلفتها ووضعتها في مكتبتي.
لزمني أن أسألك عن المصدر الذي أخذت منه رأي محمود شاكر في مرويات أبي الفرج الأصفهاني.
وشكرا جزيلا،،
أبو طالب بن محمد
مقالتك بديعة ومفيدة جدا أسأل الله ان يجعلها في ميزان حسناتك
ولكني ألتمس منك أن تسمح لي بالتعديل عليها ونشرها على هيئة كتيب إن وافقت
مرحبا بك عبدالله
نشكرك على حرصك والشيخ ماجد يعمل حاليًا على إخراجه ونشره إن شاء الله.
مقالة غنية ونافعة جدا بمثابة طريق سهلة ومختصرة للولوج في الأدب والأخذ بتعاليمه لإكتشاف ملكة الكتابة والإسلوب…الخ
جزاكم الله خيرا وكتب أجركم
جزاكم الله خيرا يا مصقع الأدباء ومنارة أهل البحث والاطلاع..
مقالة بديعة رائقة حق لها أن تكتب بماء الذهب على صفحات القلوب والحمد لله أن وجدنا من يرشد المتأدبين وينير لهم طريقهم اللاحب بهذا الأسلوب الرشيق والإرشاد القيم .. أسبغ الله عليكم حلل أفضاله وغمركم بسابغ نواله وأدامكم شمس هدى تهدي السائرين في ظلم الدياجي ..
ما نصيحتكم لطالب العلم الراغب في حيازة ملكة البيان إلا أن جل وقته مستغرق في الطلب وحفظ المتون ؟ وهل له الأخذ بهذا البرنامج وتطبيقه أم أنه يؤجل الأمر إلى ما بعد مرحلة الطلب ؟ .
ما شاء الله… بارك الله في أثرك، وأنعم عليك بعونه ورحمته ورضوانه في الدارين