العلم

الممارسات الخاطئة في الطب الأكادیميّ

  • حبیب الرحمن*
  • ترجمة: أحمد طاهر
  • تحرير: رحاب بنت عادل سالم

نادرًا ما نوقشت الممارسات الخاطئة في الأبحاث العلمیة أو حتى نُظر إلیها بعین الاعتبار على مدار التاريخ البریطاني. ویُعوَّل على ذلك في العلوم الحیویة بعملیة مراجعة الأقران[1] -والتي یكون لبُحَّاث آخرین في مجالات ذات صلة الحق في تقییم الورقة العلمیة، بخلاف الشكاوى العرضیة التي تم غض النظر عنها من الأساس والمُقدمة من قِبَل شخصیات فردیة مثل (تشارلز بابدج) في ثلاثينيات القرن التاسع عشر.

تم التشكيك في معصومیة هذه العملیة من الخطأ مرارًا وتكرارًا خلال العقود الأخيرة، وظهر ذلك جلیًا في أواخر التسعينيات؛ عندما نُشرت دراسة بحثیة لأندرو ویكفیلد عن علاقة لقاح الحصبة (combined MMR) بمرض التوحد في مجلة لانسيت (The Lancet) التي تعد أعلى المجلات الطبية منزلةً، وأقواها تأثیرًا.

وكان لهذه المقالة وما دار حولها من ضجة إعلامية أثرًا ملحوظًا في رفع معدلات القلق عالمیًا بشأن سلامة اللقاحات[2]. وقد تمكنت تلك الورقة -التي فقدت مصداقیتها حالیًا بشكل كبير- من اجتیاز معاییر مراجعة الأقران، واستغرق الأمر أكثر من عِقد من الزمن حتى تراجعت مجلة لانسيت عنها.

حالیًا، یتم سحب المقالات في بعض الأحيان قبل نشرها، وبفضل جهود PubPeer  وRetraction Watch  وغیرهما أصبحت إمكانية تخطئة عملية مراجعة الأقران مدارَ نقاشٍ علني داخل المجتمع العلمي. تُعد حالة (ویکفیلد) استثنائیة؛ فهو طبیب أكثر من كونه عالمًا، ويندُر في الوسط الطبّي تحدیدًا الحديث عن السلوكيات العلمیة السيئة، والخبر الذي لا یُتداول كثیرًا هو أن الأطباء البریطانيين لا يتلقون من التدريب العلمي إلا القلیلَ.

تم استبدال منهجیة البحث الطبّي القدیمة -والتي كان يحاول الأطباء من خلالها معرفة أساسيات العلوم الطبیة و تطبیقها في ممارسات عملية- بدورات متخصصة في العلوم الحیویة والإحصاءات الطبية التي تُدرِّب العلماء المُرتقَبین على استخدام الأسالیب المبنیة على الدلیل، وبرغم ذلك ما زال یتعین على طلاب الطب حضور عدد قلیل من الندوات حول الإحصاءات الطبیة وأساسیات منهجیة البحث الطبي الحیوي؛ حیث یتم تدریب الأطباء في المقام الأول على التشخیص وعلاج المرضى، وتلقي القلیل من المعلومات الرسمیة حول الُممارسة العلمیة الجیدة.

يبدو أن الادعاء القائل بأن الأطباء مؤهلین بالفطرة لإجراء الأبحاث العلمية قد عفا عليه الزمن. في حادثة طبيب أمراض النّساء والولادة مالكوم بیرس[3] جذبت انتباه الجميع إلى موطن الخلل. ونشرت الكلية الملكية لأطباء التوليد وأمراض النساء حينئذ تقریرًا يؤكد على حاجة الأطباء لتدريبات علمیة تحضیریة لتجنب مثل هذه الحالات من سوء الممارسات البحثية في المستقبل، وإلى الآن لم يتم إحراز أي تقدم في هذا الصعید. وبمجرد حضورهم عدد قليل من المحاضرات الجامعية في كلية الطب -والتي كانت تُعطى منذ عقود- يتمكن الأطباء من الحصول على مئات الآلاف من الجنیهات تمویلًا لأبحاثهم دون الخضوع لمزيد من التدریب العلمي.

التألیف والانتساب وتحمُّل العواقب

كشفت حالة حدیثة في جامعة أكسفورد عن السهولة الي تُمكِّن الأطباء من المشاركة في الممارسات العلمیة الخاطئة ثم التنصل من مسؤولیتهم عنها، (ألكسندر لیو) خريج الكلية الطبية الملكية بلندن وباحث حائز على جوائز عديدة آخرها من قسم القلب والأوعية الدموية في جامعة أكسفورد. من الشائع لدى الأطباء توغلهم في حقل الأبحاث العلمية إما بدافع الاهتمام أو لتعزیز حیاتهم المهنیة، ویعد ضمان التمویل المالي لأبحاثهم خطوة مهمة نحو تحقيق هذا الهدف. ویتم وضع الطموح والهمّة العالیة اللذيْن یتطلبهما التدریب الحدیث لأمراض القلب على المحك خلال هذه العملیة.

في عام 2015 كوفئ لیو بزمالة مرموقة معنيّة بتدريبات البحوث السريرية من مؤسسة القلب البریطانیة (BHF) تبلیغ قیمتها ربع ملیون جنیه. وبدا على لیو-صاحب المسار الحافل في النشر العلمي- أنه الرجل المناسب المرشح لهذه الزمالة، ونالت أعماله جوائز من جمعية القلب الأمریكیة في 2016 ومن جمعیة الرنين المغناطيسي لأمراض القلب والأوعية الدموية في 2017، ولكن في سبتمبر 2020 سُحبَت ورقتين من أوراق البحثیة كانتا قد نُشرتا سابقًا في مارس 2018 في المجلة التابعة للكلية الأمریكیة لأمراض القلب والتي يمكن القول بأنها أكثر المجلات المختصة بأمراض القلب شهرةً حول العالم. ووفقًا لتحقیق داخلي أجرته جامعة أكسفورد كان سبب السحب هو سوء السلوك البحثيّ.

لم تفصح السلطات الجامعیة عن متى وكيف داهمتها الشكوك حول ما حدث إلا أنه من الواضح أن مؤلفًا واحدًا فقط هو من تحمّل الأعباء في النهایة.

طعن لیو في الاستنتاجات التي توصلت إلیها الجامعة ورفع شكوى إلى مكتب هیئة تحكيم مستقلة .غیر أن البيان المنشور على موقع مجلة الكلية الأمریكیة لأمراض القلب يزعم بوجود سوء سلوك صارخ يتضمن تلفیق الصور والتلاعب الفج بالبيانات والفشل في إدراج بيانات التحكم. تم التواصل مع لیو للتعلیق بعدما نُشرت القصة في Medscape News ولكن على ما يبدو أنه لم يستجب. هذا أمر مؤسف، فحالة لیو تمثل بكل وضوح المشاكل المتوقعة الناتجة عن ولوج السلك الطبي المهني في البحث العلمي.

ربما لیس غریبًا أن الأطباء -نظرًا لقلة تدریباتهم- لا يقومون دائمًا بإجراء الأبحاث العلمیة بشكل جيد. ولكن هل من المعقول ألا يتحمل أي من المؤلفين التسعة الذين شاركوا لیو في الحالة الأولى أو أقرانهم العشرة في الحالة الأخرى8 أي مسؤولية عن عيوب تلك الوثيقة؟ يبدو أنه داخل تلك الجماعة البحثية ذائعة الصيت المُدارة من قبل العديد من أساتذة أمراض القلب المتمیزین -كان أغلبهم مؤلفين مشاركين في الأوراق محل النقاش -تمت الموافقة على الوثائق البحثية دون أن يلاحظ أحد تلفیق الصور والتلاعب بالبيانات. ویبدو أن اتهام لیو وحده بما حدث وإظهاره المذنب الوحيد يتعارض مع السياسة الخاصة بمجلة الكلية الأمریكیة لأمراض القلب (JACC) والتي تنص على وجوب موافقة جميع المؤلفين على النسخة النهائیة للوثيقة البحثية.

يكشف لنا ذلك عن جانب خفي داخل الطب الأكادیمي وهو أنه عندما يكون هناك جزء من البحث جدير بالملاحظة فإن الأساتذة المشاركين فيه ينسبونه لأنفسهم جاهدین، ولكن إذا تم الكشف عن خللٍ ما في البحث فمباحٌ لهم التنصل من المسؤولية عنه. وبعد كل ذلك لا يمكن بالتأكيد أن یكون أستاذ أمراض القلب مسؤولاً عن سوء السلوك البحثي؟! فكّر في كل أولئك الأشخاص المهمین والمعاهد التي سیربكها مثل هذا الاكتشاف.

القوة والمصلحة الذاتية

يبدو أن قانون التفاهة -الذي ينصّ على أن شدة التركيز الذهني/العاطفي في قضیةٍ ما تتناسب عكسیًا مع أهمیة تلك القضية- ینطبق هنا، فمسؤوليات الأطباء في الجهر بآرائهم عندما تتعرض سلامة المريض للخطر أو التأكيد على نزاهة الأبحاث الطبیة لا تتلقى إلا بالكاد جزءًا بسیطًا من الاهتمام مقارنةً -على سبیل المثال- بقضیة مثل “تاثیر التمييز العرقي والجنسي على اختیار القیادة الطبیة”. ذلك التركيز على التفاهة يتوافق بشكل ملحوظ مع مصالح المجموعات المعنیّة.

ومن الناحیة التاریخیة فإن الأكاديميين لم يتعرضوا مطلقًا لأي عقوبة قانونية جراء الأعمال الاحتیالیة وذلك نظرًا لغياب أي نقابة مهنیة تقوم بمحاسبتهم. باستطاعة المجلس الطبي العام فرض العقوبات على الأطباء بسبب سوء سلوكهم البحثي ولكن بالنظر إلى كونهم يصدرون عقوبة واحدة في المتوسط كل العام لتعداد يبلغ حوالي 150 ألف طبیب، فمن الواضح أن فرصة التعرض للعقاب تصل إلى الصفر.

تخیّل قبولك بأن تكون جزءًا من دراسة إكلینیكیة لتجد أن الأطباء المنوطين بالدراسة بالكاد مدربین على القيام بالأبحاث العلمية وربما يكونون على أهبة الاستعداد لليّ عنق القوانين من أجل جعل البحث أكثر تشویقًا وإثارة؟! أو تخیّل أن يعالجك أستاذ أمراض قلب لا ينوي أن يتحمل مسؤولية أخطائه؟! كم عدد الأرواح التي أُزهقت بسبب سوء السلوك البحثي من قِبل أطباء وضعنا ثقتنا فیهم لحمایة مرضانا؟!

 كشف لنا مراقب الأبحاث المسحوبة بعد النشر في Retraction Watch إيفان أورانسكي عن أنه كان هناك الكثير من عمليات السحب لأبحاث Covid-19 بالفعل. وینبهنا أورانسكي إلى أنه من المحتمل جدًا أنه قد يؤول الأمر بشخصٍ ارتكب سوء سلوك علمي إلى حياة مهنیة طويلة وناجحة. فما تقدمه مهنة الطب من توقير للبحث العلمي المهني لن یُعرضها غالبًا للمساءلة في الوقت الراهن. لا تزال القوة الثقافية التي یمارسها الأطباء ببراعة كافية لثني قوس العدالة تجاه مصالحهم. وفي الوقت الحالي، القضية هي ببساطة [قضیةٌ أخلاقیةٌ].


  • حبیب الرحمن: طبيب متخصص في أمراض القلب والطب العام، ومهتم بأخلاقيات الطب وتاريخ الطب والصحة.

[1] – عملیة مراجعة الأقران أو مراجعة النظراء هي الترجمة الحرفية للمصطلح الإنجلیزي peer review حیث لا توجد ترجمة موحدة وإنما بعض المصطلحات مثل استعراض النظراء أو مراجعة الزملاء أو مراجعة الأدبيات والبحث، مراجعة الأقران عملیة شهیرة في المجالات الأكادیمیة أشبه ما تكون بعملية تحكيم حيث يخضع العمل الأكاديمي المراد تقييمه إلى فحص شامل ودقيق من قِبل خبراء في نفس مجال العمل قبل منح الإذن في نشره، وبالرغم من كونها مرحلة ضرورية في العمل الأكاديمي إلا أنها تعرضت لاتهامات عدیدة بالفشل وعدم الفعالية والبطء.[المترجم]

[2] – تسبب ذلك في خلق مناخ عام أدّى إلى انخفاض معدلات التحصين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأيرلندا ومن ثمّ ارتفاع أمراض الحصبة والنكاف وعودة ظهور أمراض خطیرة وإصابة الناس بالشك في اللقاحات الأخرى.[المترجم]

[3] – في أغسطس 1994 نشر بیرس ورقتین بحثیتین: ادّعى في الورقة الأولى قدرته على إعادة زرع جنين -یبلغ من العمر 5 أسابيع كان قد نشأ خارج الرحم- داخل رحم أمه الأفریقیة ذات 29 عامًا و قال إن الولادة تمت بنجاح ولكن بعد تحقیقات وُجد أن ذلك لم يحدث وأن المرأة قد أجهضت. وفي الورقة الثانية قال بیرس بأنه تمكن من إحضار 200 امرأة مصابات جمیعهن بتكيّس المبايض وقد أجهضوا ثلاث مرات سابقًا في الثلاث شهور الأولى من الحمل وقال أنه تم حقنهنّ بهرمون HCG حيث ادعى نجاح تلك الطريقة في ٪75 من المرضى، ولكن تمكنه من إحضار هذا الرقم الكبیر من النساء بتلك الظروف الدقيقة كان أمرًا مثیرًا للجدل والشك، وبعد مواجهته وسؤاله عن بیانات تلك النساء لم يأت بأي شيء یثبت وجودهن من الأساس، وتبيّن بكل تأكيد أنه قام بتلفيق تلك النتائج.[المترجم]

المصدر
areomagazine

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى