- مايك كارتر
- ترجمة: لمى الجريّد
- تحرير: المها العصفور
يكتشف أحد اللندنيين شيئاً يشبهُ الحرية بينا هو محتجزٌ وحده في وادٍ ناءٍ
“كاسر الجوز” و”طائر السَسكن” و”نقار الخشب المرقط الكبير”… أصف لكم الآن ما حولي أثناء المشي أسفلَ منحدرات جبال ويلز السوداء؛ ها هي طيورُ الحسون الساحرة وأحدُ عصافير الشوك وزوجٌ من الحسون الظالم… ليس لي منها أحياناً إلا نظرةٌ خاطفة:
للمحةٍ من ألوان جناح، أو خطٍ على عين طير، أو مرور نقارِ خشب، أو أثرَا واثباً من لونٍ قرمزي… لكني مدركٌ لما رأيت.
وفي أحايينَ كثيرة لم تكن نظرةً خاطفة حتى، بل موجةً من أصوات: صوتُ سمنة مغرّدة تغرغرُ برقّة، وصوتٌ حادٌ لأبي حنّاء (تك..تك)، وترددٌ لصوت ضواعِ كروان يتدفق من أسفل أرضِ الوادي.
أدركُ الآن ما تعنيه تلك الأشياء، أعرفها يقيناً مثلما أعرف ما يعنيه صوت صفارةِ إنذارِ الشرطة أو صوت المنبه على أبواب أنفاق لندن.
في تلك الفترة لم يكن لي أي خبرة في الطيور، ولا أعرف أسماء شجيرات الصفصاف أو نبات النغت، ولا حتى عشبة الماميران الربيعي ولا الأزهار الربيعية التي حوّلت الضفاف الشعثاء أمواجًا صفراءَ جميلة.
لم يسبق لي حينها رؤيةُ دودةٍ بطيئة ولا ابن عرس، ولم أرَ أبداً طائرَ الباشِق ولا حتى قرقفاً أزرق يُنتزع ريشة ويقتل أمام ناظري، كما يقول عالم الطبيعة كينيث ريتشموند: «تحديقةٌ مجنونة ساخطة وقاسية».
ولم يسبِق لي رؤية بداياتِ عودةِ طائرِ السنونو في صباحٍ مشرقٍ صحْو، ولا شاهدتُ دورانهُ حولَ حظيرةٍ قريبة باحثاً عن العش الذي تركهُ في أكتوبر. ينساب جسم طائر السنونو الصغير جداً و ذيله الرقيق ليخرجُ من كلّ تناسُبِ ليُحلّق عالياً، من جنوبِ أفريقيا مروراً بغابات الكونغو والصحراء الشاسعة، ليصِل إلى هنا، إلى الوادي الويلزي الصغير هذا؛ فيتحوّل المشهد من زرافات وغوريلات إلى قطيع من الحملان في غضون أيام .
لم أكن أعرف شيئاً حول الطبيعة وقتها لأنها لم تصبح عالمي إلا في وقتٍ قريب…اتساقها وترابطها و «قنواتها المائية المتداخلة»، كما وصفها داروين: إنها لغزٌ بالنسبة لي.
والآن بما أنها ستصبح عالمي، يبدأ اللغز يكشف أسراره، وشعرتُ حينها بشعور العائدِ للوطن كما شعر طائر السنونو بعد رحلةٍ طويلة.
_______
في أكتوبر، بعد أن أعطاني رئيسي في العمل عطلة ستة أشهر بلا راتب لأبدأ تأليف كتابٍ جديد، ذهبت إلى وادي إيواس، أحد الوديان التي تجري بين تلال الجبل الأسود.
كانت أعصابي قد تمزقت بسبب حياة المُدن، فسلّمتُ مفاتيح شقتي الصغيرة قُرب حديقة ريجينت واستأجرتُ كوخاً ريفياً بالقرب من قرية كميوي.
يقع ذلك الكوخ قمة جبل في بدايةِ منحدرٍ منتصفَ الطريقِ، فارتفاعهُ يعطي شعوراً بأنك في مقدمةِ سفينة تخوض غمار بحر ذو أمواجٍ مرتفعة.
وفي معظم الصباحات انطلقُ قبل الكتابة لأبدأ يومي بخمس أميالٍ من المشي، وتلك الرحلة القصيرة هي وقودي لأعمل – واضعاً سماعات الرأس- وهي مساويةٌ لخروجي للنادي وممارسة الرياضة لأبدأ يومي، لكنّ ذلك أصبحَ مختلفاً، فقد أصبح المشيُ صباحاً هو ما عليه حياتي الآن. فأغلقتُ سماعاتِ الرأس وبدأت بحملِ دفترِ ملاحظات والشروعَ في التقاطِ الصور. واشتريتُ دليلاً تعليمياً عن الطيور والنبات والشجر وعدداً لا يحصى من كتب التاريخ.
وحين أخرجُ للمشي، أقفِ لأجلسِ فأستمِع وألحظ ما حولي مبتهجاً كما لو كُنت في صلاةِ إحياء. كنت شغوفاً لمعرفةِ كل المسميّات ووظائف هذه المخلوقات؛ لكأني آتٍ من عالمٍ آخر لم أعِه يعجّ بالضجيج إلى عالمٍ أبلج ألحظُ دقائقه، وكأن سنيني موجات مذياع أسمع لها هسهسةً وصوتاً متقطعاً فتحولت إلى ترددٍ موزونٍ مسموع واضح.
في صباحٍ ما، وصلتني رسالة من صديق في القرية
قبل شهرين، حدثت مديري في العمل عن عودتي القريبة للمكتب في لندن فشعرت بتوجّسٍ شديد. لكنّ الفيروس كان قد انتشرَ وتغلغل في العالم.
فسرعان ما اختفت مسارات الغيوم المتكاثفة التي تخترق السماء في الجبال السوداء. أما النجوم – أصبحت منطقة مشاهدة النجوم جزءاً من محمية السماء المظلمة في عام 2012 – فكانت أكثر بريقاً وضوء القمرِ أكثر سطوعاً.
انسابَ صمتٌ مطبقٌ وخوف مقلق أثناء التوقف الحاصل في عالم البشر. وها قد حلّ فصل الربيع في وادي إيواس، فيزهر بحلوله نبات الزعرورِ بزهرٍ أبيضَ كثيفٍ ناصع، وتسبح الشراغيف في كل بركة، وصغارُ الأرنب البريّ تقفزُ حول الحقول، والطيور المغردة تملأ الوادي بتغريدها العذب. في صباحٍ ما، وصلتني رسالة صديقي من القرية – هل ما أسمعهُ صوت طائر الوقواق؟
فهرعت للخارجِ فكأنه صوت الشاعر ويليام ووردزورث يدويّ في الوادي.
فأرسل لي جاري رسالةً: لقد ظهر طائر الوقواق قبل يومين من ظهوره في العام الماضي، فأحببت فكرةَ حفظ ذكرى كهذه.
قريباً ستظهر الطيور الأخرى المهاجرة في الصيف الماضي، كطائر السنونو أبيض البطن وطائر السمامة، وآملُ أن يظهر طائر العندليب. إنني أنتظر ظهورهم بنفس الحماسةِ التي تغمرني حين كنت أتشوق لبداية موسم كرة القدم. وقد أجلّتُ تأليف كتابي – فموضوعه يتطلبُ سفراً أكثر و تواصلاً مع البشر- ولا أظن أنه وقتٌ مناسب للعودة إلى لندن و البحث عن شقة .
مُدّدت عطلتي حتى شهر أكتوبر، إذاً فأنا هنا، وكلّما زاد وقت بقائي هنا تتلاشى قدرتي على تخيلِ العيش في مكانٍ آخر. قال لي صديقي في مكالمة هاتفيّة: «الأمر أشبهُ بعزلٍ في جنّة!» وأظن أنه كان محقاً من نواحٍ كثيرة.
بالأمس -كما في معظم الصباحات- انطلقت في رحلة المشي الصباحية، ومنظارِي يتدلى حول رقبتي كالمعتاد. تسلّقت الضفة المنحدرة، أمرّ بأشجارِ البلوط القديمة ورمادَ الحطب، و أستنشقُ زهرة الجولق التي اهتزت مخضرّة، وأرى طائر الجشنة والقنبرة كلٌ يحمي عشّه، حتى وصلت أعلى التلّة.
وقد رأيت منزلاً في أعلى التلة، كتب صاحبها كلماتٍ لإدوارد توماس من أحد أعماله عام 1915 بعنوان السماء الشامخة بأحرفَ كبيرة:
“Above the last man’s house . . . Past all trees, past furze / And thorn, where nought deters / The desire of the eye / For sky, nothing but sky.”
ففي الأعلى لن تبصر عيناك سوى السماء. تبدو لناظريَّ رُقعُ حقولِ «مارتشيز» الجميلة أسفلَ مني بمسافاتٍ جهةَ الشرق وتلالُ «مالفيرن» حادةِ الأطرافِ جهةَ الغرب، و الجبالُ البريةُ جنوبَ ويلز : «شوقرلوف» و «بلورينج» وفي مسافةٍ بينهما يقع جبل «بِن واي فان»، وأرى أشعة الشمس تتلألأ على قناة بريستول في جهة الجنوب كذلك.
ها هو الربيع، تسلّلَ دفؤه إلى أعشاش الطيور الجارحة. فتشقّ الصقور الجارحة طريقها بين السحب حرّةً بينا تحلّق عالياً في جوٍ دافئ، منطلقةً إلى السماء بأجنحتها الرقيقة فتتفاجأ بوثبة هبوطها إلى أسفل. وتسمعُ قرقرةَ حدأة حمراء يشبه صوتها رجلاً ينادي كلبه، ترفرف في حركة منسابة تتحكم بها بذيلها العجيب المشرشر. قد نظن أن تلك الأماكن تخلو من البشر بسبب اضطهاد أو تسمم، لكن يعيش عدد من السكّان البريطانيين في مناطقَ نائيةٍ في ويلز.
أكملت طريقي عبر التلّة، ألمح سقف القاعة الصغيرة بارزةً أسفل الوادي. وهناك شاهدتُ فرقة الإيماء في القريةِ و الجمهور محتشد حولها، أسمع قبل أن يُرفع الستار أصوات الثرثرة والدردشة تملأ المكان، وضحكات تعلو حين يخرج ساعي البريد ليراه الحشد ويهتف له « ساعي البريد! ساعي البريد! ساعي البريد!». في وقتٍ كان الحشد سيصبح من الماضي، لأن عليك ترك مسافة مترين والقلق تجاه من حولك!
بعد ذلك، انتقلنا سوياً لحانةٍ في سرداب، بقربه بقايا تراث القوطيين يعود تاريخه إلى القرن الثاني عشر. ومازال مؤدّو ليثوني برايوري يرتدون أزياء الفرسان والراهبات، وفي وقتٍ ما بين احتساءِ كأسي الرابع أو الخامس، نبضَ داخلي شعورٌ بالانتماءِ لهذه الأجواء وكأنه يتوهج داخلي شيئاً فشيئاً. وبعد أن انتهيت من الشراب، سمعتُ إعلان الفرقة: ستكون جزءاً من عرضنا العام القادم!
__________
أكملت مسيري عابراً الرخاخ الجافة، والمهور الويلزية تشرب ما تبقى من رطوبة فيها. وقابلتُ جاري راعي الغنم ذو الثمانِية والأربعين عاماً، نشهد سوياً تلك الأجواء.
وبينما أرتدي معدات المشي المتطورة، يرتدي هو سترته الصوفيّة وحذاء المطر، فإن كان البرد قارصاً أغلق زر سترته العلوي. كان آخر من تبقى من إخوته الأربعة الذين رعوا الغنم في هذه التلال. ويتحدث بلكنة جميلة رقيقة ليست بالويلزية ولا الإنجليزية كما في الحدود.
تحدثنا عن الفيروس لوقتٍ قصير، ثم تطرقنا لموضوعِ مدى صعوبة صنعِ السياج المحيطة بحقله، وأخبرني أن هذه الحرفة بدأت بالاندثار لكنّه لم ينزوي عن العمل فيها – ليس بجودةِ عمل أكبر إخوته الذي كان بطلَ المنطقة- والطريقة هي أن يضرب سيقان الشجيرات الحيّة والأشجار الصغيرة في وتدِ شجرة البندق لتنبتَ باتجاه أفقي على الأرض. وأخبرني بأن «طريقة بريكون تختلف عن طريقة مونتغمري» فأومأتُ برأسي، فطلبَ مني البحث عنها حين عودتي للوطن.
لمحت الطهيوج الأحمر منطلقا في السماءِ فلا تكاد تراه من سرعته، وأردفهُ طائر اليؤيؤ منطلقاً تاركاً بوصاتٍ قليلة عن الأرض، يلحقان بعضهما، وكانت تلك الفترة موسم ظهورهما. حين صرفت نظري شمالاً رأيتُ بقايا الدير وما خلفه وصولاَ إلى مستوطنة Capel-y-ffin الصغيرة، بالقربِ من المكان الذي لقي فيه بروس تشاتوين أخوين مزارعين مسنّيْن ندر أن يغادرا الوادي – كجاري المزارع- و قد كانا إلهامهُ لروايته: على التلة السوداء. كانت تلك روايةً جميلةً لُبّها أن روعة المكان لن تعطيك فرصةً لتضع قلمك، فوصف هذه الأرواح العظيمة يجعله أكثر بهاءً. ومما كتبه تشاتوين عام 1984 «إن المكان الذي ولدت فيه أو رَبيت فيه ليس بالضرورة ما يمثلّك، بل المكان الذي شعرت باتصال روحك به. إن زيارتي لتلك المنطقة على الحدود الويلزية هي إحدى المحطات المؤثرة في حياتي».
تعثّرت فانزلقت إلى أسفلِ منحدر التلة. ورأيت آثار أقدامٍ في التربة من الأمس وقبل الأمس، فكأن شعوري بالألفةِ جعلني جزءاً من تلك الطبيعة. وصلتُ للقرية التي قصدتها وكنيستها ذات الثلاثة عشر قرناً. وتقع تلك الكنيسة في مكانٍ غائر منخفض، لها برجٌ مائل لم يثبّت جيداً مدعّمٌ بدعامة قوس. كانت قبور والديّ المزارع وإخوته في إحدى زوايا المقبرة تحت شجر الطقسوس الفارع، وبقيت هناك مساحةٌ واحدة. وكان عند قبر أخيه الأكبر جزءٌ من سياج بريكون. وفي طريقي إلى منزلي سمعت صوت طائر الشفشاف، وزقزقة طائر النمنمة، وصوتاً صاخباً لصقر كان وقعه على أذني حزيناً رقيقاً. في الحقيقة أنا لم أرَ تلك الطيور، كان شعوراً عجيباً كمعجزة، شعرت وكأنني تعلمتُ في تلك الأيام لغةً جديدةً منها لدرجةٍ تمكنني من استراق السمع لما تغرده تلك الطيور.
لقد سمعنا ما يكفي من الحديث عن إعادة الطبيعة البريّة هذه الأيام، لكن لابد لنا من أن نعيدها فعلاً في نفوسنا.
ثم مررتُ بآخرِ حقل هناك، حيث رأيت السنونو ينقّب في الأرض بحثاً عن الحشرات. تساءلتُ هل ستهاجر تلك الطيور بحلول الخريف، وهل سأغادر هذا المكان، تاركاً هذا المكان عودةً للمدينة، حيث الصخب والفوضى، والمكتب.
فمن يدري، قد يعتاد الكثير من الناس بعد عودتي تأمل روعة النجوم، أو يستمعوا لزقزقة العصافير بانشراح، فتحولوا لحياةٍ هادئةٍ مليئة بالسكينة، التي نصارع لنعيش مثلها.
ها قد عدت لمنزلي، وانتهى روتين أيام الحظر الكامل. بحثت عن طريقة مونتغمري في صنع السياج -ليس لدي التزام مهم كما يبدو-، أعددت لي كوباً من الشاي في غرفة المعيشة، أطل من نافذتي على طيور القرقف طويلة الذيل والسسكن والسنونو تحطُّ على مغذي الطيور عندي. كتب كيتس لصديق له: «إذا حطّ طائر السنونو على نافذتي، فأنا سببٌ في عيشه». وسمعت صوتَ صياحٍ يُنذر بحدوث خطرٍ ما حين انتثرت عشرات الطيور الصغيرة في حالة من الرعب والذعر. كان طائر الباشق قد حطّ على حاجز الدرج، يبعد عني تقريباً ستة أقدام. رمقني بنظرته، بعينيه الصفراوتين المذهولتين «القاسيتين».
كما لو أن فكرة قفص الطيور قد انقلبت رأساً على عقب، ها أنا الآن، رهين جدراني، وطائر الباشق حراً طليقاً في الفضاء الرحب.