- محمد الشامي
- اسم الكتاب: الثقافة السائلة
- المؤلف: زيجمونت باومان
- ترجمة: حجاج أبو جبر
- الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر
- سنة النشر: 2018
- عدد الصفحات: 109
زيجمونت باومن (1925-2017): مفكرٌ وعالم اجتماع بولندي، عمل أستاذا للعلوم الاجتماعية بجامعة ليدز-المملكة المتحدة، عرفته المكتبة العربية بفضل: “الحداثة والهولوكوست” و”سلسلة السيولة”.
يتناول في هذا الكتاب مشكلات مفهوم الثقافة المعاصر كجزء من سلسلته التي يعتني فيها بالخصائص الاجتماعية والفلسفية والسياسية للعصر ما بعد الحداثي أو زمن “الحداثة السائلةLiquid Modernity ” كما يفضل التعبير عنه.
وهو لا يعتبر حالة السيولة هذه، -التي استحالت إليها الثقافة، والروابط الإنسانية، والمخاوف البشرية، وسائر مظاهر الحياة المعاصرة وتدفقاتها- مسارا مستقلا عن عصر الحداثة التنويرية أو “الحداثة الصلبة”، بل هي امتداد له، أي أن أسبابها كانت كامنة في هذا النموذج الحداثي.
ويمكن أن نعد هذا الكتاب، على صغر حجمه، مدخلا أساسيا لهذه النظرية الاجتماعية الشاملة التي يقدمها باومن. وقد جاء الكتاب في ستة فصول، نحاول المرور بعدد من أبرز الأفكار التي تضمنتها.
وحتى نكون على بينة، فالكتاب ليس معالجة مستقلة لمعنى “الثقافة” أو محاولة تعريفها ورصد تجلياتها ووظائفها، فلا غرابة في أن نجده يطوي ويتجاوز كلاما لا تمس إليه حاجته التي هي الحديث عن الثقافة باعتبارها جزءا من منظومة “الحداثة السائلة” وكيفية وصولها إلى هذه المرحلة، فأهمية الكتاب في رأيي راجعة لموقعه من هذه النظرية في المقام الأول.
ويحسن بنا أيضا التنبه إلى أنه ليس الغرض من قراءة باومان إقامة أي نوع من المقارنات، ولا استخراج الأحكام القيمية، بقدر ما هي محاولة لإعادة اكتشاف الواقع وفهمه، اتفقنا معه فيها أو اختلفنا، تبقى ذات أهمية وخطر.
يبدأ المؤلف بالتعرف إلى مشكلة الثقافة عن طريق أدوارها التاريخية. وهو يسأل: لطالما ارتبطت فكرة الثقافة بظاهرة جماعة المثقفين، أو النخبة الثقافية، حيث تعد هي التعريف الواقعي الحي للثقافة، فما هي ملامح النخبة الثقافية اليوم وما الفرق بينها وبين صورتها الماضية؟
يجيب المؤلف بما نلمسه في حياتنا وما تؤكده الدراسات من فقد هذه الملامح، ولا يعني ذلك اختفاء ظاهرة النخبة في حد ذاته، وإنما يعني ذلك عدم القدرة على تمييز هذه الظاهرة، حيث يتسع استهلاكها الثقافي والفني، ليتسع ذوقها بما يسمح بابتلاع كل شيء تقريبا.
ولا يمكننا فهم أسباب هذا الوضع دون العودة للماضي وإدراك أن الثقافة نفسها قد اكتسبت دورها في البداية بإقامة الفروق والحواجز الطبقية، فهي ترسم الحدود لتمييز الطبقة الاجتماعية بل ولاستحداثها.
ثم تغير معنى الثقافة من أن تكون أداةً لرسم الحدود والحفاظ على الأوضاع القائمة إلى أن تكون أداة للتغيير؛ وصار هذا هو شعارها في عصر التنوير، فانتهضت من مرقدها لتصبح في طليعة فرسانه، فالثقافة هي آلة تطورٍ ورُقي، وثورة على الأوضاع الاجتماعية المرفوضة، وعقدٌ بين المنتسبين للمعرفة وطالبي المعرفة؛ والحق أنه عقد أحادي، حيث يتحمل المتعلمون مهمة رسالية وواجبا وطنيا تجاه العامة.
وصارت الثقافة بهذا المفهوم الجديد ركنا ركينا في بناء الدولة الحديثة؛ وبطبيعة الحال لم تكن بهذا لتعزل نفسها عن أحلام ورغبات هذه الدولة، وعن أزماتها –بالضرورة –، وقد جاء الاستعمار في مقدمتها، فشهدنا تعاقدا بين الاستعمار والثقافة، لا أظن آثاره مما يخفى على قارئ اليوم. وكان هذا التعاقد معلنا في شعار “رسالة الرجل الأبيض”، متخذا القوة القاهرة أداة لتحقيقه إن تطلب الأمر؛ وكثيرا ما تطلب الأمر ذلك، حيث لم يكن بمقدور المثقف إلا رؤية نموذج ثقافي وحيد، هو قمة هرم التطور للثقافة الإنسانية –مع كل ما فيه من مفارقات وأزمات-.
بيد أن الزمن لا تُناقش أحكامه. فهذه القوة المشتعلة للثقافة بالأمس القريب، تحولت إلى آلة شبه منهكة حافظة للتوازن مرة أخرى، أي سياج حول الوضع القائم. والذي تغير هو أن الثورة الآن جاءت من مصدر مختلف تماما: ” في الأزمنة الحديثة السائلة تتشكل الثقافة (لا سيما في مجالها الفني ولكن ليس في المجال الفني وحده) بما يلائم الحرية الفردية للاختيار، والمسؤولية الفردية عن ذلك الاختيار، وتتمثل وظيفتها في البقاء الدائم على هذا الاختيار ضرورة حياة وواجبا محتومًا.. على كاهل الفرد الذي جرى تعيينه الآن في منصب المدير العام (لسياسة الحياة اليومية)، ومديرها التنفيذي الوحيد”(ص20).
وبما أن النموذج الاستهلاكي هو صاحب الحاكمية الأوحد في “مجتمعنا” الحديث، فقد تحددت وظيفة الثقافة في حفظ التوازن بأنها ” الطلب الطاغي على التغيُر الدائم… التغير من دون وجهة، أو في وجهة لم يتم تحديدها مسبقا“(ص21)، هذا المجتمع الذي يشكله المستهلكون، تتمظهر الثقافة فيه باعتبارها مستودعا للبضائع الاستهلاكية. ومن هنا استغنت جماعة المثقفين عن المعايير الصارمة، إلى إبداء المرونة التامة، والشراهة لكل شيء، والقبول لأي بيئة ثقافية، دون تكلف عناء الانتماء لأي منها.
“إن القوى الدافعة للتحول التدريجي لمفهوم الثقافة إلى حالته الحديثة السائلة، هي القوى نفسها التي تحبذ تحرير السوق من القيود غير الاقتصادية، لا سيما القيود الاجتماعية والسياسية والأخلاقية”(ص22).
ومن هنا فتطبيع الثقافة بطبائع السوق، وسمات الاستهلاكية، أنتج ما يسميه الكاتبُ بـ” الهوية السائلة“.
الإنسان تتنازعه رغبتان، نزعة اجتماعية: هي رغبة في الانتماء للجماعة حيث يجد الدعم الاجتماعي والأمن من مخاطر الوحدة؛ ونزعة فردانية: هي رغبة في التميز والاستقلال عن عامة الناس. يشبه الكاتب الأمر بإقامة أسرة، حيث من الصعوبة البالغة إقامة التوازن بين مطلبين: الأمن، والحرية. فغلبة الأول حياةٌ في الأسر، وغلبة الثاني “لايقين” يهدد العَلاقة. والعجز عن الموازنة بين القيم يقلب على القيم مقاصدها.
مصدر القوة لفكرة “الموضة” – والتي آلت بالهوية للوضع السائل – ، هي أنها تسلك بالمراوغة سبيلا متوسطا بين هاتين النزعتين النفسيتين لدى الإنسان. يقول المؤلف:
“إن البحث الجماعي (ولننتبه إلى هذا القيد فهو مكمن المفارقة) عن أحدث الصيحات تدفعه الرغبة في التميز والهروب من الحشود العامة، والتنافس الشرس سرعان ما يشيع في العلامات الحالية للتميز ويبتذلها ويسطحها، لأن الغفلة البسيطة، أو الإبطاء المؤقت لخفة اليد قد يؤدي إلى آثار عكسية، أي فقدان الفردية. فعلامات اليوم الدالة على التقدُم لا بد من اكتسابها بسرعة، وأما علامات الأمس فلا بد من إلقائها في كومة النفايات بأسرع وقت… فالموضة تشكل كل أسلوب حياة في حالة من الثورة الدائمة اللانهائية“(ص28).
هذا النسَق لا يقصد وجهة محددة، ولا ينشد الارتقاء بحياة أمةٍ ما، فهو بخلاف كل اليوتوبيات السابقة، يوتوبيات التنوير والحداثة الصلبة، يقوم على فرض الأمر الواقع، لا بناء الواقع وفق مثال محدد، ثم هو يتبع سياسة التخويف، عبر ترسيخ الرهبة الدائمة من التخلف الفردي، وعدم القدرة على اللحاق بقطار التحديث، المهم أن ذلك يحصل دون أن يتساءل أحد عن وجهة ذلك القطار.
وتطبُّع الهوية الثقافية بهذا الطابع الشمولي يعني أن عليك متابعة “نموذج الحرباء في تلونها”، وأن لا توجد فجوة كبيرة في الكفاءة والسرعة بين تغييرك لهويتك وتغيير القميص الذي ترتديه، بعبارة المؤلف.
بدايةً من الفصل الثالث يتناول المؤلف جانبا من آثار العولمة، يأتي في صميم المشكلات الثقافية، وهو قضية الهجرة العالمية، فقد مرت هذه الظاهرة التاريخية في تاريخها القريب بثلاث مراحل كبرى، المرحلة الأولى هي الهجرة من أوروبا إلى الخارج، في شكل الحملات الاستعمارية، حيث استهدفت هذه الهجرة الأراضي الفارغة –أي التي يمكن تجاهل سكانها الأصليين من منظور الرجل الأبيض– لدفع تهديدات الفائض السكاني في أوروبا، وتم التأكيد على كون هذه الأراضي خلوا عن العنصر البشري، عن طريق مسلكين، الإبادات الجماعية، وعمليات إعادة الإدماج/التثقيف؛ أو كليهما معا.
ثم المرحلة الثانية والتي انعكست فيها الظاهرة، بأن كانت الحواضر الأوروبية هي وجهة المهاجرين، الذين تبعوا المستعمرين وتمدنوا بمدنيتهم، وجرى تكييفهم بمعنى الإدماج الكامل، بيد أن هذا الإدماج الكامل للأقليات قد بدأ ولما يتحقق بالفعل حتى وقتنا الحاضر.
أما المرحلة المعاصرة، فهي مرحلة “الشتات”، حيث يغيب إمكان تحديد المسارات والاتجاهات في الهجرة الحديثة. وتبقى الأزمة الكبرى الراجعة للهجرة المعاصرة، وفي ظل قوى العولمة: ظهور “علامة استفهام حول الرابطة المتينة الأولية بين الهوية والقومية، بين الفرد ومكانه في موطن السكن، بين الجيرة المكانية والهوية الثقافية، أي بين القرب المادي والقرب الثقافي”(ص40).
ويضيف: ” لأول مرة يصبح التعايش مع الاختلاف مسألة يومية. وهذه المشكلة ما كان لها أن تظهر إلا عندما بطُل النظر إلى الاختلافات بين الناس على أنها منغصات عابرة… يبدو أن واقع العيش مع الغرباء هو سمة دائمة، فلذلك هو يحتم ابتكار أو اكتساب المهارات في التعايش اليومي مع طرق حياة مختلفة عن طرقنا”(ص40-41).
ويؤكد المؤلف على الفرق بين سياسة التعايش بمعنى التسامح المتبادل، وبين مستوى مختلف تماما وهو التضامن المتبادل، فالأخير لا يمكن أن ينهض هذا الشتات بأعبائه.
إن تضخم معدلات هذه الهجرة بجميع أشكالها قد أمسى واقعا لا مفر منه، ومهما سعت الحكومات وبذلت الوعود بالحد منها، فقوى السوق غير المحلية تسهم في هذا الحراك المتزايد.
والحال أنه في غياب الثقافة المشتركة، وفي غياب التضامن المتبادل بين هذه الجماعات والإثنيات المختلفة، ينزع أصحاب القوة، إلى إقامة المتاريس بدل الجسور، متبعين النصيحة القديمة: “فرِق تسُد”.
“عندما يتقاتل الفقراء مع الفقراء، فسيجد الأغنياء أسبابا منطقية للابتهاج. فلا يقتصر الأمر على أن خطر مقاومتهم للمسؤولين عن معاناتهم سيتم اجتنابه إلى ما لا نهاية… فالقوى العولمية اليوم تستخدم استراتيجية التباعد وعدم الارتباط، وذلك بفضل السرعة التي تمكنها من الحركة والتملص والتسلل بلا جهد وبلا إنذار، من قبضة السلطات المحلية… ويتركون للقبائل المتحاربة من أهل البلد المهمة الكريهة المتمثلة في السعي الشاق من أجل الوصول إلى هدنة، ومداواة الجراح” (ص45). فسهولة حركة النخبة العولمية، ومن ثم تفوقها، يعتمد على تحطيم قابلية الشعوب للعمل التضامني.
إن صلة هذا الوضع بمشكلة الثقافة صلة وثيقة، حيث إن النخبة المثقفة التي تطبعت بطبائع العولمة، تجاهلت هذه الحالة من الصراع والتفكك الثقافي حيث سمت اللامبالاة باسم قبول “التعددية الثقافية”، وهذا أمر طبيعي في ظل تخلف مفهوم “النموذج” الثقافي عن المشهد؛ والمهم أن لهذا مجموعة من النتائج، في مقدمتها: “الممارسة السياسية التي تشكلها هذه النظرية (التعددية الثقافية) وتؤيدها… وهي تعود إلى مبدأ التسامح الليبرالي ودعم حقوق الجماعات في الاستقلال، وحقوقها في القبول العام لهوياتها المختارة أو الموروثة… ويتمثل إنجازها في تحويل اللامساواة الاجتماعية إلى مظهر “التنوع الثقافي”، أي ظاهرة جديرة بالاحترام العالمي والعناية الدقيقة. وعبر هذا الإجراء اللغوي، يتحول القبح الأخلاقي للفقر بلمسة سحرية إلى الجاذبية الجمالية للتنوع الثقافي”(ص47-48).
إن رأس تجليات اللايقين في الثقافة السائلة، هو غياب القيم الكلية الكبرى، وهو ما يتم تقريره عبر نظرية التعددية الثقافية. وقد أشار المؤلف إلى كتاب بعنوان “نهاية اليوتوبيا” واعتبره بمثابة: “تحليل ثاقب لتفاهة الإعلان عن الإيمان بالتعددية الثقافية” حيث تنكشف خيانة الكهنة، يعني نخبةَ المثقفين، ويظهر تخليهم عن المسؤولية التي حملتهم المعرفةُ فيما سبق، حيث أمسوا لا رأي لهم فيما يجب أن يكون عليه الوضع الإنساني، ولا شجاعة لهم اليوم لتغيير أي شيء؛ والسر فيما يظهر من حصانة هذا الوضع وتفوقه من بين أوضاع الثقافة السابقة، هو أنه يعتبر”أيدولوجيا نهاية الأيدولوجيا“، حيث الفكرة المركزية هي غياب المركز. وجدير بالذكر أن بعض المفكرين يرى اعتبار هذا الوضع نهاية الأيدولوجيا لا يعدو أن يكون خدعة أيدولوجية.
من ضمن الأفكار الأساسية التي استحضرها باومن أن لبناء الأمة وجهان، قومي، وليبرالي، فبينما تتبع القوميةُ الإكراه سبيلا لفرض تعاليمها، وتتوسل بالسلطة التقليدية لإلغاء كافة مظاهر الاختلاف، وصهر الجميع في بوتقة واحدة؛ نجد الليبرالية في منأى عن كافة مسالك الاستبداد والإكراه، وبناءً على تعظيمها للقيم الراجعة للفرد وفاعليته المستقلة وكفايته الذاتية، نجد أنها قامت بتفكيك أواصر تلك الطوائف والأقليات العرقية والمحلية التي كانت تمثل عائقا أمام السياسات القومية ” فقد آمنت الليبرالية بأنه ما إن يتم حرمان أعداء الحرية من الحرية، ويجري حرمان أعداء التسامح من التسامح، حتى يظهر من أقبية الإقليمية المنغلقة والتقليد جوهر مشترك لجميع الناس، وعندئذ لن يُعترض سبيل الكيانات الإنسانية التي تختار لنفسها وبإرادتها الحرة ولاء واحدا وهوية واحدة” (ص71).
إذن فهذا التنوع الإستراتيجي إنما يرجع إلى غاية واحدة، حيث تكون الأقليات العرقية/الإثنية مخيرة بين الاندماج أو الفناء، – أو لا تملك خيارا بعبارة أدق –، وذلك وفق حكم الأغلبية بطبيعة الحال.
لقد طويت هذه الصفحة، بما أن الوضع الجديد قد فرض على الحكومات “تحرير السوق”، ويتضمن ذلك التنازل عن سلطة إقامة التوازنات الاقتصادية، فالثقافية، لصالح قوى السوق، لأن العولمة شكلت هذه القوى على نسق إلغاء وتجاوز الحدود، فيما تظل المؤسسات السياسية محكومة بحدودها الإقليمية. وهذا يعني تراجعا في طموحات القومية وضعفا في روابطها، لصالح الهوية السائلة.
في الفصل السادس والأخير يلخص المؤلف واحدة من أهم مشكلات الثقافة، والتي ناقشها من قبل دوركهايهمر وأدورنو في “جدل التنوير”، ألا وهي إشكالية علاقة الفنون بالسلطة.
إن هذه العلاقة تتأكد من قبل ظهور مصطلح الثقافة نفسه بفارق زمني كبير، فيشير باومن إلى ظهور “السياسات الثقافية” التي مثلتها جهود الملكية الفرنسية حيث كانت ” الثقافة الفرنسية فكرة مسيحانية خلاصية في أيامها المبكرة، وكانت تشير إلى نيات رعوية تبشيرية… وهذه الرسالة الرامية إلى تحقيق الخلاص تولتها من البداية سلطات الدولة أو ربما عهد بها إليها”(89-90).
ومع انقضاء العهود الأرستقراطية، تجدد عقد السلطة والثقافة/الفنون، حيث كانت رسالة التنوير هي إعادة بناء الأسس الجديدة للمجتمع بعد الثورة التي أطاحت بالأسس القديمة. فاستهدف البرنامج الجديد تخليق المواطن وفق التراث القومي الذي سيجري إحياء الهوية الجديدة بواسطته. فضلًا عن النظر إلى الثقافة والفنون كقوة ناعمة للدولة، تضفي عليها الهيبة في أرجاء العالم كله.
“ويؤكد تيودور أدورنو أن جمع الروح الموضوعية لعصر من العصور في كلمة (الثقافة) وحدها يعكس من البداية الرؤية الإدارية التي تتولى، وهي تنظر من أعلى إلى أسفل… ويكشف أدورنو عن السمات المميزة لتلك الروح قائلا: “الطلب الذي تفرضه الإدارة على الثقافة متغاير في جوهره ويخضع لتأثير خارجي؛ فالثقافة بصرف النظر عن الشكل الذي تتخذه، تقاس بمعايير ليست من صميمها، ولا علاقة لها بطبيعة الموضوع ولا صفته المميزة، بل تتعلق ببعض المعايير المجردة المفروضة عليها من الخارج”(ص94).
ثم تظهر مشكلة أخرى، نابعة من طبيعة الفنون هذه المرة، فالفنون الجميلة التي تأتي في مقدم مجالات الثقافة، تنزع بطبيعتها الوجودية إلى رسم البدائل والهروب من الواقع أحيانا كثيرة، وربما يأتي ذلك كخدمة غير مباشرة للواقع، لكن كلما تجلت هذه النزعة وابتعدت الفنون عن النظام القائم، زاد التوتر بين رجال الفن ورجال الإدارة. فحينها ينظر أهل الإدارة إلى الفن كمصدر للا يقين، أو ينكرون أي قيمة له.
وظهر أن هذا الصراع حتمي لا خلاص منه، فـ”الخصمين المتنازعين يحتاج كل منهما إلى الآخر. والأهم أن الفن يحتاج إلى أبطال… هذا الوضع يشبه العلاقات الزوجية التي يعجز فيها الزوجان عن العيش في وئام، ولكن الواحد منهما لا يستطيع العيش دون الآخر… “فالثقافة تعاني من التدمير عندما تخضع للتخطيط والإدارة، ولكن إذا تُركت لحالها، فإن كل شيء ثقافي يُهدد بفقد إمكانية التأثير، بل وبفقد وجوده نفسه”. بهذه الكلمات يؤكد أدورنو النتيجة المحزنة التي توصل إليها”(ص96).
يشير باومن إلى تصور هام، التصور الذي تطرحه حنه آرندت في التفرقة بين ما هو ثقافي، وما هو وظيفي، فالموضوعات الثقافية تميل إلى سمات الديمومة والامتداد الزمني، أي تجاوز اللحظة الراهنة، فالتعامل الوظيفي أو النفعي مع الموضوعات بمنطق الاستهلاك والإشباع، ومنح الأولوية للوقائع الراهنة هو أسلوب مخالف لطبيعة الموضوعات الثقافية ومعاييرها.
سيفيدنا استحضار هذه الفكرة إذا ما أدركنا طبيعة تطور الصراع بين الفن والإدارة، فإحلال قوى السوق محل رعاية الدولة في التوسط بين الفن والجمهور، صاحبه تغير في معايير هذا التوسط، أي أن المعايير الحاكمة استحالت إلى الاستهلاك الفوري، والإشباع الفوري، والربح الفوري، فروحُ هذا النموذج تتناقض وطبيعة الإبداع الفني، “فرسالة الفن، كما يقول ميلان كونديرا هي حمايتنا من نسيان أنفسنا“.
ما يريد باومن أن يقوله، هو أن هذا التوتر بين الفن والسلطة/الإدارة اتخذ مسارا مختلفا تماما عما سبق، حيث تكاد تنعدم الأهداف المشتركة بين أطرافه.
“إخضاع الإبداع الثقافي لمقاييس السوق الاستهلاكية ومعاييرها يعني إرغام الأعمال الفنية على قبول شروط القبول المفروضة على أية أعمال تتطلع إلى مرتبة البضائع الاستهلاكية، أي أن تبرر نفسها بقيمتها الاستهلاكية الحالية. ولكن هل تستطيع الثقافة أن تبقى بعد نزع قيمة الوجود وتدهور الأبدية، وربما يكون ذلك أفظع الخسائر الجانبية الناتجة عن انتصار الأسواق الاستهلاكية؟ إننا لا نعرف ما إن كانت الثقافة تستطيع البقاء…”(101).
يقتبس المؤلف المقولة الساخرة: “إن المشاهير هم أناس مشهورون لكونهم مشهورين، وإن الكتاب الجيد هو الكتاب الذي يحقق مبيعات جيدة لأنه قادر على تحقيق مبيعات جيدة”. ليعتبرها أكثر مصداقية من محاولات كثير من النقاد في الربط بين الشهرة وقيمة العمل الفني.
من بين كافة الوظائف التي عُهد بها إلى السوق في عصرنا، يؤكد باومن على وظيفتين كان للتخلي عنهما لصالحها أضرارا اجتماعية كارثية: حماية السوق من نفسها عن طريق وضع الحدود، فضلا عن إصلاح الضرر الاجتماعي والثقافي الذي تخلفه.